ثلاث حضارات إنسانية تمتزج داخل مسجد أبو الحجاج الأقصري

يقبع فوق أطلال كنيسة ومعبد فرعوني ويزاحم تماثيل رمسيس الثاني بمعبد الأقصر

تفصيليتان لعمارة المسجد يبدو فيهما تشربه لروح الآثار الفرعونية
TT

شكله الفريد وتوسطه لكتلة أثرية فريدة يقصدها السياح من مختلف البلدان جعله يخطف أنظار السياح القاصدين زيارة معبد الأقصر، وتحول لدى الكثير منهم إلى فقرة رئيسية ضمن برامجهم لزيارة آثار مدينة الأقصر.

إنه مسجد الشيخ أبو الحجاج الأقصري، الذي مضى على بنائه أكثر من 8 قرون جعلته يتحول إلى قيمة تاريخية وأثرية تخطف عيون الوافدين إلى معبد الأقصر، للبحث في تاريخ هذا المسجد والسبب وراء وجوده في أحضان معبد الأقصر بهذا الشكل.

يعود تاريخ بناء المسجد إلى عام 658هـ، الموافق 1286م، وقد بني بساحة معبد الأقصر على نسق المساجد الفاطمية القديمة، ليزاحم تماثيل رمسيس الثاني أحد أعظم الملوك الرعامسة، الذي ينسب إليه إنشاء معبد الأقصر.

ويقف مسجد أبو الحجاج المسجد شاهدا على 3 حضارات إنسانية، حيث يخترق بكينونته الإسلامية بهاء المعبد الذي يحتوي على الكثير من مظاهر الحضارة الفرعونية من أعمدة وتماثيل ونقوش ورسومات لا تزال حية على جدران المعبد، والذي يضم أيضا بالإضافة إلى المسجد بقايا كنيسة قبطية قديمة طمرت تحت مبنى المسجد الذي يرتفع فوق سطح أرض المعبد بأكثر من 10 أمتار.

والمسجد مسجل ‏كأثر‏ ‏إسلامي ‏في 21 يونيو (حزيران) 2007، وهو عبارة عن ساحة مربعة الشكل، مغطاة بقبو ومدخله الرئيسي يقع بالجهة الغربية جرت له عمارات كثيرة في العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية والحديثة، وهو مشيد على الجهة الشمالية الشرقية لمعبد الأقصر، ويبلغ ارتفاع مدخله 12 مترا، ويخلو من الزخارف الهندسية والنباتية واللوحات الخطية المعروفة في العمارة الإسلامية. ويعلو المسجد شريط من الشرفات المبنية بالطوب الأحمر، لكن ما يميز المسجد عن بقية المساجد هو احتواؤه على ‏أعمدة‏ ‏وأعتاب‏ ‏ونقوش‏ مشابهة تماما لمعبد الأقصر، وقد جاء اكتشاف هذه النقوش بالصدفة البحتة بعد تعرض المسجد لحريق، وكانت المفاجأة عندما كشف العاملون بالترميم عن وجود أعمدة أثرية من الطراز الفرعوني مطمورة بالمسجد، وتبين أن هذه الأعمدة هي جزء من معبد فرعوني ضخم يغطيه تل من التراب والطمي وهو نفس التل الذي قام «العارف بالله» أبو الحجاج ببناء مسجده فوقه، أي أن المسجد تم بناؤه فوق معبد.

كما تُعد مئذنة المسجد الأثرية من أعرق وأشهر المآذن بمصر؛ فهي أقدم أجزاء المسجد القديم، وتعود إلى عصر أبو الحجاج، وتتكون من ثلاث طبقات؛ الأولى مربعة الشكل، والثانية والثالثة على شكل أسطواني، وقرب نهايتها مجموعة من النوافذ والفتحات، وهي مبنية بالطوب اللبن، والجزء الأسفل المربع مقوى بأعمدة خشبية، وتشبه مئذنة مسجد أبو الحجاج مآذن الصعيد القديمة ذات الطراز الفاطمي، ويبلغ ارتفاعها نحو 14 مترا.

وقد أجريت للمسجد عدة عمارات وتوسعات، وتم ترميمه أوائل القرن العشرين، وخلال النصف الأول من القرن نفسه أنشئ مسجد جديد على الطراز ذاته بجوار المسجد القديم. وفي عام 2009، انتهت أعمال ترميم في المسجد استغرقت عامين، وجرت تحت إشراف المجلس الأعلى للآثار، وبلغت تكلفتها 7 ملايين جنيه، وشملت العمارة الجديدة توسعة ساحة الصلاة وتدعيم القبة، وتغيير الأسقف، بعد أن تعرض المسجد لحريق عام 2007.

أما صاحب المسجد، وهو الشيخ أبو الحجاج الأقصري فهو يوسف بن عبد الرحيم بن عيسي الزاهد، ينتمي إلى أسرة كريمة، ميسورة الحال، عرفت بالتقوى والصلاح، وكان والده صاحب منصب كبير في الدولة العباسية. وينتهي نسبه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، وقد ولد الشيخ في أوائل القرن السادس الهجري بمدينة بغداد، في عهد الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله.

ترك أبو الحجاج العمل الرسمي، وتفرغ للعلم والزهد والعبادة، وسافر إلى الإسكندرية والتقى فيها أعلام الصوفية خاصة من أصحاب الطريقتين الشاذلية والرفاعية، وتتلمذ على يد الشيخ عبد الرازق الجازولي، وأصبح أقرب تلاميذه ومريديه.

عاد أبو الحجاج إلى الأقصر، والتقى الشيخ عبد الرحيم القنائي (صاحب مسجد قنا الشهير)، وأقام واستقر بالأقصر، حتى وفاته في عهد الملك الصالح نجم الدين الأيوبي عن 90 عاما، وكان له مجلس علم يقصده الناس من كل مكان.

ترك أبو الحجاج تراثا علميا، من أشهره منظومته الشعرية في علم التوحيد، وتقع في 99 بابا، وتشتمل على 1233 بيتا، وتوفي الشيخ بالأقصر عام 642هـ. ويقال إنه كان كثير الاعتكاف والانعزال بمعبد الأقصر، وربما لهذا السبب أقام مسجده به.

ويقام للشيخ أبو الحجاج مولد في الرابع عشر من شهر شعبان من كل عام، ويحمل ذلك الاحتفال الذي يسمى «دورة أبو الحجاج» طابعا خاصا وعادات وموروثات ترجع إلى العصور الفرعونية وتشبه طقوس احتفال المصريين القدماء بالإله آمون، حيث يخرج الناس إلى ساحة مسجد أبو الحجاج يتحركون منها إلى شوارع الأقصر يذكرون الله وينشدون الأناشيد الدينية ويرتلون القرآن ويلعبون لعبة التحطيب والرقص بالعصا والرقص بالخيل، وينتهي الاحتفال بركوب الجمال التي تحمل توابيت من القماش المزركش.

ويرى عبد المنعم عبد العظيم، مدير مركز دراسات تراث الصعيد بالأقصر، أن الحضارات الفرعونية والقبطية والإسلامية تمتزج معا داخل هذا المسجد، حيث تم الكشف في الفترة الأخيرة عن أعمدة فرعونية داخل المسجد، لكنها كانت مغطاة بطبقة من الطين «الملاط»، وهو المستخدم في المبنى القديم للمسجد، بالإضافة إلى كنيسة قبطية بنيت على أطلال جزء من معبد الأقصر وتقع أسفل المسجد، وقد أنشأتها فتاة رومانية قديسة تدعى تريزا.

وأضاف عبد العظيم أن السياح الذين يأتون لزيارة معبد الأقصر يرون امتزاج الحضارات في هذه البقعة التي يتصف أهلها بالتسامح، مضيفا: «أتمنى أن يعود المسجد مدرسة للفقه الإسلامي وتعاليم الدين الصحيح كما كان أيام الشيخ الفقيه».