صحراء الران الكبرى.. كيانها الملح وليس الرمال

كوتش تبدو وكأنها قصة خرافية في ولاية كجرات غرب الهند

يتسلل نهر الإندوس الذي كان يتدفق من قبل في الكوتش في المسار الذي كانت تقوم حوله حضارة الإندوس ذات الخمسة آلاف عام
TT

عندما تفكر في الصحراء، فإن أول شيء يتداعى إلى ذهنك هو مساحة هائلة من الأرض القاحلة تخلو من نقطة ماء واحدة، وعصية على النباتات والكائنات الحية. ولكن بخلاف كل الصحراوات الأخرى، تكتسي صحراء الران الكبرى التي تقع في كوتش، بولاية كجرات، غربي الهند، باللون الأبيض لأنها تتكون من الملح وليس الرمال.

يحدها خليج الكوتش – بحر خطر وغادر - والران الصغرى والكبرى. وفي فصل الجفاف، تتحول الران إلى مساحات شاسعة من الطين القاسي والجاف. ومع بداية الرياح الموسمية، تغرقها أولا مياه البحر ثم مياه النهر العذبة. ويكون الملح منطقة المستنقع المنخفضة القاحلة.

وفي الجزر المتفرقة فوق مستوى المستنقع المالح هناك نباتات – أعشاب خشنة - توفر الطعام للحياة البرية بالمنطقة.

ويتسلل نهر الإندوس الذي كان يتدفق من قبل في الكوتش في المسار الذي كانت تقوم حوله حضارة الإندوس ذات الخمسة آلاف عام – حتى وقع زلزال قوي في عام 1819 وغير مساره، تاركا وراءه تلك الصحراء المالحة. ثم وقع زلزال قوي آخر في يناير (كانون الثاني) 2001 غير تكوين الأرض وأودى بحياة 30 ألف نسمة ودمر كثيرا من القرى على نحو كامل. وعلى الرغم من أن انعكاسات تلك المأساة سوف تستمر لعدة أجيال، أعاد السكان بناء حياتهم بعزيمة وما زالوا يرحبون بالزائرين بحفاوة بالغة.

ونظرا لانبهاري بمسطح الملح (سالار دي أويوني) في بوليفيا، أميركا الجنوبية والذي شاهدته في فيلم تسجيلي، فإنني رغم انشغالي بأعمال أخرى، هرعت إلى تنفيذ مهمة تغطية مهرجان الران الكبرى في كوتش عندما كلفت به، وصدقوني لم أندم.

تبدو الكوتش وكأنها أحد مشاهد حدوتة خرافية، تتلألأ باللون الأبيض؛ فتشعر أنك تستطيع التزلج عليها إلى الأبد.

يمثل المشهد الساحر واستثنائي الجمال جنة لمحبي المغامرة والحياة البرية الذين يحبون استكشاف الجمال الطبيعي والقيام بأشياء أخرى بخلاف مشاهدة المناظر الطبيعية. وكأن الطبيعة تقوم بخدع بصرية، فمن على مسافة، وعلى الرغم من دفء الجو، لا ترى سوى مشهد أبيض ممتد يلامس الأفق، وكأنه مسطح من الجليد.

ويمتد ذلك المشهد إلى أكثر من 16000 كيلومتر، ويعود اسم الران إلى كلمة ران الهندية التي تعني صحراء.

على الرغم من أن تلك الأرض التي تشبه السلحفاة (كاشبو تعني سلحفاة في كجرات) هي أرض مسطحة وجافة، تتناثر عليها القرى التي ينتج أهلها بعض أجود أنواع المنسوجات الهندية المرصعة بالمرايا والزخارف الدقيقة.

استقليت طائرة من «دلهي» إلى «بهوج» ثم انتقلت برا إلى المحطة التالية بـ«ماندفي»، وهي مدينة مزدهرة تشتهر بصناعة السفن القديمة، وتقع على بعد 60 كيلومترا جنوبي بهوج. وتم تأسيسها في عام 1585 وكانت ميناء شهيرا يتصل بجنوب أفريقيا، زنزبار، وشبه الجزيرة العربية، وماليزيا والصين واليابان. ولكنها تشتهر الآن بشاطئ ماندفي البكر.

عندما شاهدت أكواخ القش والمياه الزرقاء الرقراقة، شعرت وكأنني انتقلت فجأة إلى «بالي» أو «المالديف». إن الشاطئ يمثل جنة لمحبي الرياضات المائية؛ حيث يمكنك استئجار الزلاجات والتزلج على المياه أو أن تركب قاربا بخاريا وتطفو بعيدا فوق تلك المياه التركوازية. ويجب عليك أيضا زيارة «قصر الفيلات بفيجاي» وهو أحد القصور الملكية الذي يقع وسط حدائق حسنة التنسيق وقنوات مائية ونوافير من المرمر. وللقصر شاطئ خاص مزود بخيام مكيفة.

شاطئ خاص وخيام مكيفة الهواء.. إنه حقا مكان يجب زيارته لمن يحب الخصوصية والتمتع بالجمال الطبيعي. ولهذه الأسباب، صورت الكثير من الأفلام الهندية مشاهدها في هذا القصر والذي أصبح مزارا سياحيا الآن.

إن أفضل طريق لدخول الصحراء هو عبر «دهوردو» التي تقع على مسافة 86 كيلومترا من «بهوج» والتي أنشأتها حكومة جوجارات باعتبارها بوابة الران. تقع الدهوردو على حافة الران، ولكي تمر بها فإنك تمر عبر عدة نقاط تفتيش أمنية، وهو إجراء ضروري لأنها تقع على مقربة من الحدود الباكستانية.

ومن الأفضل أن تتخذ منها أو من «هودكا» مستقرا، تقوم عبره بجولاتك. وتعج الرحلة من معسكرات «الران أوتساف» إلى الصحراء البيضاء بالمغامرات حيث إن الرمال خادعة للغاية وإذا لم تكن حذرا أثناء القيادة يمكنك أن تعلق بسهولة ومن ثم تحتاج إلى جرار لسحب السيارة.

كما يجب عليك زيارة الكوتش بونجاز (أكواخالطين) المزينة بالحرف التقليدية. يمكنك الحصول على غرفة مزدوجة مكيفة في مقابل 3500 روبية لليلة مضاف إليها الوجبات. ومن الخيارات الأخرى، هو «شام الصرهاد» وهو منتجع قروي في هودكا التي تعد واحدة من الوجهات السياحية الريفية في الهند. ويمكنك الاختيار بين الإقامة في الخيام في مقابل (3200 روبية لليلة في غرفة مزدوجة) أو البونغاز التقليدية (مقابل 4800 روبية لليلة في الغرفة المزدوجة) وملحق بكليهما حمام خاص ومياه جارية.

ولكي تجرب كل شيء، عليك بالذهاب إلى كوتش، ويجب عليك بالطبع زيارة مهرجان الران. يبدأ المهرجان الذي يستمر لمدة شهر في ديسمبر (كانون الأول) ويستمر حتى يناير ويمتد الاحتفال به إلى كثير من المناطق في كوتش وهو يظهر تنوع المنطقة وثرائها. وفي ظل التضاريس المتنوعة، وتحت ضوء القمر ونيران التدفئة تمتد الخيام الفاخرة المتعددة التي توفر لك الراحة، ويقدم لك المهرجان الأجواء الملائمة للاسترخاء والاستمتاع بأشكال متنوعة من الفنون والثقافات التقليدية.

يخضع المهرجان لتنظيم إدارة السياحة بكجرات ويجذب نحو 800 سائح سنويا، وهو يعج بالموسيقى الشعبية، والرقص والمهرجانات والمسابقات. وعلى الرغم من أن المهرجان كان يقام سنويا، فإنه احتوى خلال العام الحالي على 450 خيمة أنشأتها دهوردو.

وبعد قضاء ليلة في خيام دهوردو، وقبل أن يستيقظ الديك، كنا قد استيقظنا وارتدينا ملابس ثقيلة، حيث كانت الحرارة تصل إلى أربعة تحت الصفر وكانت الرياح الباردة الآتية من الصحراء تجعلها أسوأ. ولكن ألوان السماء قبل بزوغ أشعة الشمس كانت تجربة رائعة.

كانت الساعة 7:30 صباحا عندما عدنا إلى الخيام للحصول على حمام دافئ ولكننا لم نجد ماء دافئا، حيث كان الماء يفقد حرارته في الأنابيب المعدنية قبل أن يصل إلينا، لذلك كان علينا التخلي عن فكرة الحمام التقليدي واللجوء للحمام الفرنسي. تناولنا إفطارنا وغادرنا متجهين لزيارة كالو دانغار، التي كان علينا الوصول إليها قبل الساعة الثانية عشرة بعد الظهر، لأننا علمنا أن السكان هناك معتادين على إطعام ابن أوى قبل طهو طعامهم. وكنا ندرك أن ذلك المشهد سيكون رائعا. والطريق إلى كالو دانغار طريق مميز نظرا لتنوع المشاهد الطبيعية. ونظرا لأنها صحراء، فإنها قاحلة وبها صخور وحياة نباتية قليلة. وفي الطريق إلى كالو دانغار، توقفنا عند «خافدا» حيث كانت هناك كثير من الطيور المهاجرة – فلامنجو، طائر الكركي السيبيري، البجع والبط البري والنسور والصقور وغيرها. في الشتاء، تعد منطقة الران الكبرى منطقة ثرية بالفلامنجو والبجع. وهي المكان الوحيد في الهند الذي توجد فيه طيور الفلامنجو، كما تعد أيضا موطنا لـ13 نوعا من القنبرة.

وعلى الرغم من أن النسور كانت تحوم في الهواء، كان المشهد رائعا ومسالما. وعندما هبطت الشمس في مزيج بديع من البرتقالي، شعرت بمدى اتساع العالم وأنني أشاهد مكانا قد يقع فعليا على حافة العالم حيث تستطيع إذا ما تجاوزت خط الأفق أن تسقط في الهوة.

تعد الجبال السوداء أو (الكالو دانغار) هي أعلى نقطة في كوتش حيث تقع على ارتفاع 462 مترا فوق مستوى البحر. ومن هنا، يختفي الأفق الشمالي بالكامل في الران الكبرى، حيث لا تستطيع التمييز بين الصحراء والسماء. ويمكنك بسهولة تسلق التل الذي لا يزيد ارتفاعه عن 462 مترا فقط. وعند القمة، هناك موقع ديني معروف في الهند اسمه «معبد داتاتريا» حيث يمكنك أن تشاهد رجال الدين وهم يطعمون ابن أوى في كل صباح ومساء. وعندما توشك الشمس على الغروب، يتحول لون الجبل تدريجيا من اللون الأحمر إلى الرمادي ثم الأسود، وترى الملح وهو يعكس تلك الألوان المتغيرة للشمس. قمنا بجولة سريعة حول ابن أوى ودعوناها للطعام.

دقت الأجراس، ووضع المحليون الطعام على طاولة كبيرة وخلال دقائق التفت ابن أوى حولها والتهمت الأرز الحلو. كان الأمر لا يصدق أن ترى آكلي اللحوم وهم يقبلون بنهم على تناول الأرز.

وبقدر سحر المشهد الطبيعي، يهيمن سكان الران على المشهد. فهم يقولون، يحب أهل الصحراء الألوان لأنها تساعدهم على الرؤية عبر الضباب الأصفر. وبالمثل، تهدئ الموسيقى من الرياح العنيفة التي يعيشون حولها. ولكن الأكثر من ذلك هو أن تلك الأشياء تساعدهم على أن يروا الحياة بألوان مختلفة. فإذا ما اقتربت أكثر من الصورة، ستجد أن الألوان الحية في ذلك المشهد تنبعث من ملابس سكانها المزخرفة وقبعاتهم المستديرة المعروفة باسم بونغاز والمزينة بالمرايا الصغيرة بالإضافة إلى طعامهم (اسأل عن الثالي وسوف تجد قوس قزح مصفوفا في طبق). وبالتالي فإن أي رحلة إلى كوتش، وخصوصا الران، من دون التسلل إلى عالم القبليين بها لن تكتمل أبدا.

وتزدهر الحرف التقليدية الثرية لكوتش في مراعي باني؛ حيث تعد تلك الأدغال الشاسعة التي تحيط بالران الكبرى موطنا للجماعات الرعوية من الهندوس والمسلمين، التي لكل منها أسلوبه المميز، من الغرز والزخارف. فتشتهر قرية الهودكا بموتيفات كوتش التقليدية، والمنتجات الجلدية والتطريز الذي تقوم به السيدات.

وعلى الرغم من أن رجال القرية يبتعدون لرعي الغنم، تقضي النساء نحو 16 - 18 ساعة في العمل يوميا. دخلنا أحد النجوع الذي يسكنه المسلمون. في أحد المنازل، كانت هناك شابتان تقومان بتطريز أثواب عرسهما. وقفنا نراقبهما وهما تعملان، فاقترب منا أحد القرويون وسألنا إذا كنا نرغب في أن نرى المزيد، وعندما أومأنا بالإيجاب اصطحبنا إلى منزله، فانبهرنا بالتطريز على الجلود من الحقائب إلى المراوح وسروج الأحصنة، وأكياس الوسائد وأطر المرايا. وشاهدنا أيضا خزاف يقوم بصنع المنتجات الفخارية التي تقوم النساء بتزيينها باستخدام الفرش المصنوعة من أوراق الخيزران.

وحول «الخادفا»، هناك عدد من القرى المتخصصة في الحرف المختلفة بما في ذلك المنسوجات المصنوعة من شعر الماعز والجمال، والهدايا القيمة. ومن الأفضل أن تخرج من الران في الساعات المبكرة من النهار أو المساء لأن الملح يؤثر على الرؤية. وتعد أيام اكتمال القمر، هو الوقت المناسب لرؤيتها وهناك برامج ثقافية دائمة الانعقاد عند دهوردو، كما يمكنك تجربة رحلة السفاري السحرية بالجمل على ضوء القمر.

ويعد أفضل وقت لزيارة الران هو فصل الشتاء. فهدوء هذا المكان يمكنه شفاؤك من الضغط العصبي الناتج عن الحياة في المدن، إنه مكان ترغب حقا أن تتيه فيه إلى الأبد، نظرا لاتساعه والفلسفة العميقة التي تشع مع كل لحظة يكبر فيها القمر.

وإليك بعض النصائح التي يجب اتباعها خلال تلك الرحلة السحرية: لكي تستطيع الشعور بروح الران، لا تقوم برحلة السفاري على النحو التقليدي، فابتعد عن سيارات الدفع الرباعي المفتوحة، وجرب الرحلة على ظهر حصان أو جمال. ولكي تصبح الرحلة أكثر إثارة، يمكنك الذهاب لمشاهدة سحر الليل سيرا على هدي ضوء القمر.

لا تتناول طعام كوتشي إذا كنت ممن يعانون من معدة حساسة، وإلا ستتقيأ. احتفظ معك بالمزيد من النقد لأنك قد تحتاج لشراء الملابس، والحقائب وأغطية الهواتف الجوالة، والقطع الفنية المصنوعة من الطين والخزف. ويمكنك إنهاء الرحلة بزيارة حصن بهوج الذي يقع فيه قصري «البراغمهال» و«الأينا محل». تم تصميم قصر «البراغمهال» على يد الكولونيل هنري سانت ولكينز على الطراز المعماري القوطي الذي يبدو غير متلائم مع المكان بين أطلال الآثار المعمارية الهندية. والقصر حاليا تحت الترميم. وهناك أيضا «الأينا محل» أو قصر «المرايا» والذي بناه حاكم لاكباجتي في القرن الثامن عشر. وهو حاليا متحف يضم حرفا تقليدية مثل الساعة القمرية والباب العاجي وحتى وثائق الوقف.