الأقصر وأسوان.. قصة حب لا تنتهي سياحيا

تتأهبان لاستعادة دوريهما رغم جراح العنف والفوضى

معبد حتشبسوت في وادي الملوك
TT

لم يمر يوم عليهما إلا وهما يعزفان لحنا هادئا راقيا على إيقاع تاريخ أعرق الحضارات التي عرفتها الإنسانية، ولا يزال التاريخ يكتب سطور حكاية مدينتين اسمهما «الأقصر وأسوان». مدينتان حفظا بقلبيهما أغلى إرث، ودافعتا بروحهيما عن أروع الكنوز التي لا تزال تبوح أرضهما يوميا بالمزيد من أسرارها وعجائبها، ليجلس في ظلهما الزوار من كل بقاع العالم يتنسمون عبق الفن والجمال وعدالة الحياة وفجر الضمير. إنهما تاريخ حي ينبض من جنبات المعابد والقصور والصخور، بل تسمع رنينه يترقرق على صفحة النيل، ويترنم في أشرعة المراكب، ومواويل البشر الممزوجة بعرق الحياة وخضرة الروح المصرية الأصيلة.

* لعنة الفراعنة

* في هذا الفضاء المشمس، قد يصدق زائر المدينتين ما يقال عن خرافة «لعنة الفراعنة»، إذ إن قلبه يظل معلقا بالمدينتين، ولا يستطيع أن يغادرهما، ويتحرر بسهولة من سحرهما، فالرحلة إلى الأقصر وأسوان أشبه بحلم يتشكل على شكل أسطورة أو أسطورة تتشكل على شكل حلم.

ورغم هذا السحر الذي ينبعث من كل ركن في المدينتين، فإن أول شعور ينتاب زوارهما لن يخلو من إحساس بالألم والحسرة على حال الأقصر وأسوان، اللتين تعانيان بشدة الركود السياحي، إذ تكاد نسب الإشغال فيهما تصل إلى 10%، ومعظم السائحين بهما من المصريين، على عكس ما كان سائدا خلال السنوات السابقة في هذا الوقت من العام، حيث كانت نسب الإشغالات في الفنادق والبواخر النيلية العائمة كاملة العدد من السائحين الأجانب القادمين من دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، أما الآن فمعظم الزوار من المصريين، الذين كانوا نادرا ما يزورونهما بسبب ارتفاع الأسعار قبل عامين ولصعوبة إيجاد غرف شاغرة في أي من الفنادق في موسم السياحة بالأقصر وأسوان الذي يبدأ في شهر أكتوبر (تشرين الأول) وينتهي بنهاية أبريل (نيسان).

* مغناطيس الملوك والأمراء

* وفي الماضي، طالما جذبت المدينتان الملوك والأمراء لتمضية فصل الشتاء بهما، وفي الآونة الأخيرة زارهما عدد من نجوم هوليوود الذين أمضوا فيهما عطلاتهم بهدوء بعيدا عن ملاحقة عدسات المصورين، ففي العام الماضي رغم الاضطرابات الأمنية التي منيت بها مصر بعد أحداث ثورة 25 يناير والتي لم يكن لها أي صدى يذكر في الأقصر وأسوان البعيدتين عن بؤرة الاضطرابات - أمضى ثنائي هوليوود أنجلينا جولي وبراد بيت إجازة سرية، استمرت عدة أيام، زارا خلالها عددا من المعابد الفرعونية في الأقصر وأسوان، وأقاما في فندق كتراكت أسوان التاريخي، وأيضا قضيا ليلة في الجناح الملكي لفندق ونتر بالاس بالأقصر.

* النجوم والمشاهير

* وقبلهما، زار نجما فيلم «تايتانيك» كيت وينسلت وليوناردو دي كابريو الأقصر وأسوان في سرية تامة، وأيضا عارضة الأزياء الشهيرة ناعومي كامبل، كذلك أمضى الرئيس السابق نيكولا ساركوزي عطلة برفقة زوجته كارلا بروني في أسوان منذ نحو ثلاث سنوات.

وعلى صفحات نهر النيل، يعيش الفرد تجربة لا تنسى على متن البواخر النيلية التي تتنقل بين الأقصر وأسوان والعكس، فيصعب أن يغمض عينيه ولو للحظات حتى لا يفوت عليه متعة مشاهدة الطبيعة النقية الخلابة التي لم تشوهها يد المدنية، الطبيعة الهادئة التي تريح العين والروح، خاصة مع النسمات الرقيقة التي تتخللها أشعة الشمس الدافئة. ومن سحر ما بهذه الرحلة من متعة وتشويق، اختارتها الروائية الإنجليزية الشهيرة أجاثا كريستي لتكون مسرحا لإحدى أشهر رواياتها (Death on the Nile) أو «جريمة على سطح النيل»، التي صورت في فيلم عالمي، قام ببطولته الإنجليزيان ديفيد نيفين وبيتر أوستينوف. فعلى ضفاف النهر، توجد صورة رائعة لمنظر طبيعي أخاذ، حيث الأراضي الزراعية المحاذية للنهر مباشرة التي بها الماشية والمزارعون السمر، يعلوها مستوى ثان من الحدائق وأشجار كثيفة، وفي الخلفية تلال وجبال سمراء مبعثر عليها بيوت المزارعين البيضاء الصغيرة.

وفي هذه الرحلة، على الأرجح، ستقع عيناك على بعض الهياكل الفرعونية المبعثرة في الجبال على جانبي النهر، وبسؤال أهل البلد سيردون ببساطة بأنها بعض المقابر والمعابد الفرعونية القديمة، ولكنها لا تخص الملوك، وإنما قد تكون تخص كبار المهندسين أو الأغنياء. وفي الأقصر بالذات، يستوقف الزائر وجود عدد كبير من البعثات الاستكشافية التي تنقب عن المزيد من الآثار المبعثرة، إما في الجبال وحتى الأراضي الزراعية.

ومن أجمل الرحلات النيلية، تلك التي تأخذ ثلاثة أيام باتجاه الجنوب حتى تصل إلى واحد من أشهر المواقع الأثرية في أسوان وأروعها، معبد «أبو سمبل» - المعبد الذي كان محفورا في قلب الجبل والذي تم نقله في ستينات القرن الماضي حتى لا تغمره مياه الفيضان، وفي هذا المعبد تحدث ظاهرة تعامد الشمس التي تتكرر مرتين سنويا واحتار العلماء في تفسيرها لسنوات، فكانت الشمس تتعامد على وجه تمثال رمسيس الثاني الموجود داخل المعبد في حجرة قدس الأقداس، الذي شيد المعبد في عهده مرة في 21 أكتوبر (تشرين الأول) والثانية في 21 فبراير (شباط)، وكان يعتقد حتى وقت قريب أن تواريخ هذا التعامد تأتي في ذكرى ميلاد رمسيس الثاني وذكرى توليه العرش، إلا أن العلماء أرجعوا مؤخرا هذه الظاهرة إلى بداية فصلي الصيف والشتاء من كل عام، وتعد بمثابة تحفيز للمصريين على زراعة الأرض والحصاد.

* لون مياه النيل في أسوان

* وفي أسوان، يستغرب سكان القاهرة من الفرق الكبير في لون مياه النيل هناك عنه في القاهرة، حيث يستشعر القاهري أن مياه النيل نقية لدرجة أنه يستطيع أن يرى أعماق النهر، والرحلات النيلية لا تنتهي في أسوان، فالمراكب الشراعية تأخذك لتجد نفسك محاطا بجزر من صخور سمراء موجودة في قلب النهر، أبدعت قدرة الخالق في تكوينها وصقلها، وبعد عشر دقائق تظهر في الأفق جزيرة «فيلة»، ويرجع تسميتها بهذا الاسم إلى اللغة اليونانية التي تعني (الحبيبة) أو (الحبيبات)، أما الاسم العربي لها فهو (أنس الوجود) نسبة لأسطورة «أنس» الموجودة في قصص ألف ليلة وليلة، أما الاسم المصري القديم والقبطي فهو «بيلاك» أو «بيلاخ» ويعني الحد، لأنها كانت آخر حدود مصر في الجنوب.

وكانت الجزيرة تغمر بمياه الفيضان عند استكمال بناء خزان أسوان، وفي الستينات تم نقل المعابد بالجزيرة إلى جزيرة أجيليكا التي تبعد عن «فيلة» نحو 500 متر، وتم تفكيك معبد فيلة إلى أجزاء كبيرة، تم تجميعها مرة أخرى على جزيرة أجيليكا لتطابق نفس الشكل الذي كانت عليه في الجزيرة الأصلية.

وتحملك مياه النيل كأنها بساط سحري، فالمركب الشراعي يطير ويطفو على سطح النهر كأنه راقص باليه، ثم يرسو بانسيابية في محطات تروي قصصا واقعية أشبه بالخيال، فعلى إحدى هضاب البر الغربي بأسوان المقابلة لحديقة النباتات، يظهر من بعيد هيكل لا يمت إلى المعمار الفرعوني بصلة، ولكنه يميل أكثر إلى المعمار الإسلامي، وبالأخص الطراز الفاطمي، إنه قبر الأغاخان الثالث أو السلطان محمد شاه الإمام الثامن والأربعون للطائفة الإسماعيلية النزارية، الذي اختار قبره ليكون في المدينة التي شهدت قصة حبه مع «إيفيت» ملكة جمال العالم في ذلك الوقت، التي غيرت اسمها ليصبح البيجوم؛ أي (الحبيبة)، وكانت تأتي كل عام بعد وفاته لتضع زهرة على قبره حتى وفاتها. وأصبح قبر الأغاخان، عاشق أسوان، إحدى أشهر المزارات السياحية في هذه المدينة، التي كانت رمالها الساخنة سببا في شفائه من مرض الروماتيزم.

* أجمل الرحلات صفحة النيل

* وتستمر الرحلة على صفحات النهر الخالد وصولا إلى مرسى معبد كوم أمبو، حيث تستقبلك البازارات عند نهاية المرسى وبها مجموعات جميلة من الملابس الفلكلورية للمنطقة والأوشحة الملونة والمطرزة، وإذا فرغت من البازارات تمشي لدقائق معدودة على الطريق المؤدي إلى المعبد، وهو يقع على ربوة عالية، فعلى يسارك ترى الأشجار والمزارع من تحتك ووراءها نهر النيل، وعلى يمينك تجد مطلعا طويلا يوصلك للمعبد، الذي قد لا يشبع زائره من تأمل جدرانه وأعمدته برؤوسها المختلفة عكس ما في المعابد الفرعونية القديمة، والمعبد أنشئ في عهد بطليموس السادس، لكن زخرفته لم تتم إلا في العصر الروماني، وقد زينت جدران هذا المعبد بزخرفة مصرية صميمة، تمتاز بدقة صنعها وحسن انسجامها، ومعبد كوم أمبو شاهد على عبقرية المصريين القدماء في مجال الطب، حيث إن الرسوم والنقوش على جدران المعبد تؤرخ ما توصلوا إليه من تقدم في مجال الطب من حيث الأدوات والعمليات الطبية، وبجانب المعبد يوجد متحف التماسيح الذي يحتوي على تماسيح نيلية محنطة من عهد الفراعنة، حيث كانوا يقدسون التمساح وسموه «سبك» رمز السلطة.

وبعد أن تترك كوم أمبو بساعات قليلة، تصل إلى المحطة الأخيرة لمدينة أسوان قبل الدخول إلى الأقصر، حيث تستقبلك مدينة إدفو، ومن عند المرسى تنتظرك العربات التي تجرها الأحصنة لتقلك إلى المعبد، وهذا المعبد الكبير تم اكتشافه عام 1860، فقد كان مغطى بأكمله بالرمال، ولذلك احتفظ بحالة جيدة، كما أن سطحه سليم، ويمكن بالتدقيق في جدران المعبد وأعمدته رؤية بقايا ألوانه. وعلى أسوار المعبد قبل الدخول إلى ساحته الواسعة، يوجد تمثالان للإله حورس الذي كان يعتبر حارس المدينة.

* مدينة الأقصر

* في اليوم التالي، يوصلك نهر النيل إلى مدينة الأقصر، وحدها تضم نحو ثلث آثار العالم، وذلك بعد حساب سنوات من الاستعمار الأجنبي وسرقة ونهب المعابد والمقابر وغيرها.

ويفضل المرشدون السياحيون أن تبدأ جولتك في مدينة الأقصر من وادي الملوك والملكات في الصباح الباكر، فتستقل الحافلة التي تأخذك من عند المرسى وسط الأراضي الزراعية، التي قد تجد في بقعة ما منها إحدى البعثات الاستكشافية تكشف الغبار عن أحد التماثيل أو الآثار مثل تمثالي «ممنون» الموجودين وسط الأراضي الزراعية، وهما كل ما تبقى من معبد تخليد ذكرى الفرعون «أمنحتب الثالث»، ويصل ارتفاع التمثال منهما إلى 19 مترا وثلث المتر، وقد أطلق الإغريق اسم «ممنون» عليهما عندما تصدع التمثال الشرقي منهما وأخرج صوتا شبهوه بالبطل الأسطوري «ممنون» الذي قتل في حروب طروادة وكان ينادي أمه «أيوس» إلهة الفجر كل صباح.

* بعد الخضرة تأتي الصحراء

* وبعد ذلك، يتحول المشهد إلى النقيض، فتجد أمامك صحراء، وجبالا صخرية لونها أبيض بعد الخضرة، وهذه الجبال أيضا لا تخلو من البعثات الاستكشافية، وبعد عدة أمتار تجد على يسارك منزلا أو استراحة من الطراز الريفي المريح، وستجد لافتة مكتوبا عليها بالإنجليزية (Howard Carter›s)، أي منزل هوارد كارتر مكتشف مقبرة توت عنخ أمون، ومنزل كارتر القريب من وادي الملوك يعد واحدا من المزارات السياحة التي تجذب السائحين لرؤيتها.

وعند وصولك إلى موقع الوادي، تدخل إلى قاعة كبيرة، فيها مجسم كبير لشكل الوادي وعليه علامات تخص كل مقبرة، وفي القاعة توجد شاشات عرض تعرض بشكل متواصل فيلما تسجيليا قصيرا فيه لقطات نادرة لعملية اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون وإخراج محتوياتها، وفيه أيضا يظهر كارتر أثناء عمله في الوادي، واللورد كارنارفن ممول المشروع أثناء تفقده لسير العمل.

وعند الدخول إلى الوادي، لا تستغرب من اختيار ملوك الفراعنة لهذا المكان دون غيره ليشيدوا فيه مقابرهم، فالمكان فريد من نوعه، وتستشعر بروح غريبة تنتابك، فهو وإن كان مجرد واد محاط بالجبال البيضاء، إلا أنه في غاية الجمال، ناهيك بأن الجو في تلك المنطقة في غاية الروعة والصفاء والنقاء، وتم اكتشاف نحو 63 مقبرة، وتتميز المقابر الملكية باحتوائها على رسومات ونقوش من الميثولوجيا المصرية القديمة، توضح العقائد الدينية والمراسم التأبينية في ذلك الوقت، وكلها محتفظة بألوانها الأصلية. ورغم حوادث السرقة التي تعرضت لها هذه القبور في العصور القديمة، فإنها بقيت دليلا دامغا على قوة ورخاء ملوك ذلك الزمان. وبالنسبة لمقبرة توت عنخ أمون، فمعظم محتوياتها موجودة في المتحف المصري بالقاهرة، ويتم فتح المقابر بالتناوب للحفاظ عليها، وهناك مقبرة نفرتاري التي شيدها لها زوجها الفرعون رمسيس الثاني، وتلك المقبرة تعد من أجمل المقابر الفرعونية وأكثرها فخامة، ولا يتم فتحها للجمهور إلا بتصريح مسبق من وزارة الآثار، وتخضع لرسوم زيارة خاصة.

* زيارة أشهر المعابد

* لن تفوتك في هذا المكان الساحر زيارة معبد أشهر ملكات الفراعنة حتشبسوت، التي شيدته لنفسها في الدير البحري في قلب الجبل، الموجود خلف وادي الملوك والملكات، وعلى الزائر أن يدقق في الجبل، فسيرى أنه فوق المعبد تم حفر صورة للملكة حتشبسوت وهي تضم أرجلها إليها، ولأن المعبد مبني على مرتفع عال، فسيتمكن الزائر من مشاهدة مشهد رائع للجبال المحيطة وللأراضي الزراعية في الأفق، وأيضا مواقع أثرية مبعثرة في الجبال والتلال، وكانت الملكة حتشبسوت تمارس فيه الطقوس التي تفيدها في العالم الآخر، أما اسم الدير البحري فهو اسم عربي حديث أطلق على هذه المنطقة في القرن السابع الميلادي بعد أن استخدم الأقباط هذا المعبد ديرا لهم. ويتكون المعبد من ثلاثة مدرجات متصاعدة، يقسمها طريق صاعد.

وفي طريقك للخروج من منطقة الدير البحري، ستجد عشرات من معامل الألباستر التي يتفنن في إتقانها أبناء الأقصر أسوة بالأجداد الفراعنة، فينحت العاملون تحفا من حجر الألباستر والحجر الجيري والبازلت.

ولا يذكر اسم الأقصر إلا ويتبادر في الأذهان على الفور طريق الكباش والبحيرة المقدسة والعمدان الفرعونية الضخمة، إنه معبد الكرنك الذي كان كل ملك من ملوك الفراعنة المتعاقبون يحاول أن يجعله أكثر روعة على الإطلاق ليتميز به عن سلفه، لذلك تحولت معابد الكرنك إلى دليل كامل لمراحل تطور الفن المصري القديم والهندسة المعمارية الفرعونية المتميزة، ومن روعة هذا المعبد وقع اختيار أعظم مخرجي السينما المصرية عليه ليصوروا فيه مشاهد من أفلامهم، مثل فيلم «صراع في الوادي» للمخرج العالمي يوسف شاهين، الذي كان من بطولة الفنان العالمي عمر الشريف وسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة.