الفرنسيون وثقافتهم.. فخر وقلق

آداب وفنون من رحم الثورة

TT

خرج ثلاثة آلاف سائح، أغلبيتهم أميركيون، من «أميرالد برنسيس»، السفينة السياحية المحيطية العملاقة (تابعة لشركة «برنسيس كروز») في ميناء لو هارف في فرنسا، ليستقلوا حافلات فاخرة تنقلهم إلى باريس، وإلى مقابر نورماندي (مقابر الجنود الأميركيين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية عندما كانوا يشتركون في تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني الهتلري).

كان رجل الجوازات الفرنسي أول من قابلوهم عندما خرجوا من السفينة. ربما كان الذنب ذنب السائحة الأميركية التي إما تعمدت خلق مشاكل، أو تصرفت بحسن نية. بادرت وقالت للفرنسي: «بونجوز» (صباح الخير). لكنها لم تقلها بصورة صحيحة. وسارع الفرنسي وصححها، ثم قال، في لغة إنجليزية مكسرة جدا، وهو يخاطب زوجها: «تهانينا. يبدو أن زوجتك تعرف كلمة فرنسية واحدة». ورد الزوج، في خليط من نكاية وغضب: «فرنسيتها أحسن من إنجليزيتك».

* «حرب ثقافية»

* ثم بدأت «حرب» ثقافية أميركية فرنسية. هذه المرة بين «بريجيت»، مرشدة سياحية داخل الحافلة، و«بيل» عجوز أميركي. كانت الفرنسية تتحدث، وتشرح، في ميكروفون، وهي تجلس إلى جوار سائق الحافلة. وكان «بيل» في المقعد الخلفي. عمره تسعون سنة تقريبا. واشترك مع القوات الأميركية التي حررت فرنسا من احتلال ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية.

لم يتناقشا، ولا حتى تبادلا الحديث. لكن، كان «بيل» يعلق، في سخرية، على ما تقول: «بريجيت»، ولا يسمعه غير الذين يجلسون بالقرب منه:

قالت الفرنسية: «سنزور مقابر نورماندي التي تصور تعاون الحلفاء ضد النازية». وهمس الأميركي: «أي تعاون؟ نحن الذين حررناكم». وقالت الفرنسية: «هناك أشياء كثيرة تربط بين الفرنسيين والأميركيين». وهمس الأميركي: «نساؤكم لا يغتسلن كثيرا كما تغتسل الأميركيات، ولا يحلقن شعورهن». وهكذا.

لكن، في وقت لاحق، عندما تجولت الحافلة في شوارع باريس، صمت الأميركي عندما قالت الفرنسية إن باريس هي المدينة الأولى في العالم في عدد السياح الذين يزورنها (30 مليون كل سنة). ومتحف اللوفر هو الأول في العالم (عشرة ملايين زائر كل سنة). وتوجد في باريس أربعة مواقع تراثية في قائمة اليونيسكو العالمية.

على الأقل، لم تقل المرشدة الفرنسية إن واشنطن تأسست بعد باريس بألف سنة تقريبا. وإن في فرنسا أربعين موقعا أثريا في قائمة اليونيسكو (عشرون في الولايات المتحدة). وإن حجم متاحف «سمثونيان» في واشنطن (التي يفتخر بها الأميركيون كثيرا) ليس إلا ربع جملة متاحف باريس. وإن برج إيفل في باريس أعلى قرابة مرتين من نصب جورج واشنطن (أعلى نصب في واشنطن).

وصمت السائح الأميركي خلال جولة في شارع «مونتيغ»، شارع روائح وموضات راقية مثل: «شانيل» و«ديور» و«جيفنشي» و«برادا». وعندما قالت الفرنسية: «هنا مركز الرقي في العالم»، تمتم الأميركي بأنه لا يهتم بالمواضيع النسائية.

* اسم «باريس»

* يعود اسم «باريس» (ينطقه الفرنسيون «باغي») إلى قبيلة «باريغي» (باريسي) التي سكنت في المنطقة في بداية حكم الإمبراطورية الرومانية (القرن الأول). ويعني اسم القبيلة «الحرفيين». وكان اسم المدينة «لويتتيا باريسيوم» (منارة الباريسيين). وصارت، في وقت لاحق: «باريس» وتسمى، أيضا: «لا فيل لومينيه» (مدينة النور). لأكثر من سبب:

أولا: كانت مركز الآداب والفنون في عصر «انلايتنمنت»، التنوير (القرن 17).

ثانيا: كانت من أوائل المدن الأوروبية التي وضعت مصابيح في شوارعها الرئيسية (القرن 17).

ثالثا: أمر نابليون الثالث (القرن 19) بهدم الشوارع الضيقة المظلمة من القرون الوسطى، وبناء شوارع واسعة «أضاءت» المدينة.

اليوم، سكان باريس مليونا شخص تقريبا، وسكانها وضواحيها عشرة ملايين شخص تقريبا. وتظل مركزا للتنوير والآداب والفنون. وفيها رئاسة منظمة اليونيسكو (التابعة للأمم المتحدة)، ووكالة الفضاء الأوروبية، وغيرهما.

* المقصلة

* وفي «بليس دي لا كونكورد» (ميدان كونكورد)، مكان المقصلة التي أعدم فيها أعداء الثورة الفرنسية التي بدأت سنة 1789. وحسب معلومات في المكان، ظل الفرنسيون يستعملون المقصلة حتى سنة 1981، عندما قرر البرلمان الفرنسي وقف عقوبة الإعدام. وكان آخر من أعدمته المقصلة هو حميدة جندوبي، في سنة 1977. مهاجر من تونس، وحوكم بالإعدام لأنه عذب وقتل صديقته الفرنسية مارسيل شيفالير. بشهادة طفلتين فرنسيتين، ضربها، وحرق وجهها، ونهديها، وأماكن حساسة في جسدها، وعندما لم تمت، خنقها، حتى ماتت.

لكن، أشهر من أعدمته المقصلة كان الملك لويس السادس عشر، والملكة ماري أنطوانيت. أعدما، وغيرهما، بأوامر ماكمسيليان روبسبير، قائد الثورة الفرنسية. والذي تطرف في ثوريته، حتى عرفت سنوات بعد الثورة بأنها «سنوات الإرهاب». أعدم المتطرفون والرعاع أكثر من خمسين ألف شخص، منهم ثلاثة آلاف في باريس. ومن مفارقات التاريخ أن روبسبير نفسه أعدم تحت المقصلة، بعد أن تمرد عليه الجناح المعتدل في الثورة.

«لي انفاليد» Les Invalides في هذا المجمع الأثري العملاق: «لي انفاليدز» (مكان المحاربين القدامى) الذي فيه متحف التاريخ العسكري الفرنسي، والذي يخلد ضحايا الحروب الفرنسية، يوجد قبر نابليون بونابرت.

كانت الثورة الفرنسية أعدمت الملك لويس السادس عشر، وماري أنطوانيت، ثم أسست ملكية دستورية. وكان نابليون بونابرت جنرالا في الجيش الفرنسي. وقاد توسعات عسكرية في الدول المجاورة بهدف نشر مبادئ الثورة الفرنسية. ثم قام بانقلاب عسكري، وصار إمبراطورا. وواصل غزواته العسكرية، واحتل ألمانيا، وحاول احتلال روسيا. لكنه انهزم في معركة «بورودينو» التي بدأت يوم 7 - 9 - 1812.

وتحالفت روسيا، وألمانيا، وبريطانيا ضده. وانتقمت بأن غزت فرنسا، واحتلت باريس، واعتقلته، ونفته إلى جزيرة «ألبا» (قرب ساحل إيطاليا). ثم إلى جزيرة «سنت هيلينا» (قرب ساحل جنوب أفريقيا) حيث توفي سنة 1821.

لكن، لم يدفن بونابرت في قبره الحالي إلا بعد وفاته بعشرين سنة، وذلك لأن البريطانيين كانوا دفنوه في سانت هيلينا، وحتى رفضوا كتابة اسمه على قبره.

* الثورة الثانية

* ويخلد «كولون دي جوليت» (نصب يوليو/تموز) ضحايا «الثورة الفرنسية الثانية» و«الثورة الفرنسية الثالثة».

في الحقيقة، استمرت الثورة الفرنسية ربما سبعون سنة، حتى استقرت. وتنقلت فرنسا عدة مرات، بين جمهورية، وملكية، وملكية دستورية، وملكية مطلقة، وأخيرا جمهورية. وشهدت «إرهاب» روبسبير، ثم انتصارات نابليون، ثم هزيمته، ثم صعود ملوك عائلة بوربون، ثم هزيمتهم، ثم صعود ملوك عائلة أورلينز، ثم هزيمتهم. وهكذا، كانت الثورة الفرنسية مجموعة ثورات.

وفي سنة 1830. بعد أربعين سنة من الثورة الأصلية، ثار الفرنسيون مرة ثانية. هذه المرة بقرار من البرلمان، ومع مظاهرات صحافيين غاضبين من استمرار الملكية. وقضوا على الملك، وأنهوا الملكية. لكن، حدث هذا بعد اشتباكات عنيفة، وطويلة، بين الجمهوريين والملكيين.

هذه هي الثورة التي خلدتها لوحة «ماريان: الحرية تقود الشعب»: امرأة جميلة، مكشوفة النهدين، ترفع العلم الفرنسي بيد، وبندقية بيد أخرى. وبسبب اللوحة، صارت للمرأة الفرنسية أهمية خاصة في الثقافة الفرنسية. وصار اسم «ماريان» يرمز لشعارات الثورة الفرنسية الثلاثة: الحرية، المساواة، الإخاء. وصارت لها تماثيل، ربما في كل مدينة فرنسية رئيسة. وتمثال داخل مبنى مجلس الشيوخ. وتمثال عملاق في «بلاس دو لا ناسيون» (ميدان الأمة).

بعد نصف قرن، وعلى خطى «ماريان»، صمم الفرنسي فردريك بارثولدي تمثال الحرية الذي أهداه الفرنسيون إلى الأميركيين، ويقف اليوم عاليا عند مدخل ميناء نيويورك. وهو، أيضا، يمثل امرأة تحمل شعلة الحرية. (كان ينوي تصميمها عارية النهدين، لكن قيل له بأن الأميركيين «متدينون»).

وبعد نصف قرن آخر (القرن 20)، عندما ثار الآيرلنديون ضد الاستعمار البريطاني، رسموا، ونحتوا «ماريان»: امرأة ترفع شعلة الحرية (وغير عارية، وهم الكاثوليك).

وبعد نصف قرن آخر (نهاية القرن 20)، رفع المتظاهرون الصينيون تمثال الحرية (امرأة تحمل شعلة) مثل الذي في نيويورك. وكان ذلك بداية انتقال الصين من الشيوعية المتشددة إلى الشيوعية الرأسمالية.

رسم اللوحة الفرنسية الأصلية أيوجين ديلا كرو، أبو الرسامين الرومانسيين، في نفس سنة 1930. وهي موجودة اليوم في متحف «لوف» في باريس. والذي فيه، أيضا، لوحة «موناليزا» وتمثال «فينوس» وتمثال «الكاتب» الفرعوني.

* جان دي آرك (جان دارك)

* عادة، تدعو شركة السفينة المحيطية السياحية «ايمرالد برنسيس» أساتذة جامعات متقاعدين، وخبراء، لإلقاء محاضرات للسياح في الليلة التي تسبق وصول السفينة إلى دولة معينة. وفي الليلة التي سبقت زيارة فرنسا، تحدث إيان سميث، أستاذ تاريخ متقاعد في جامعة سيدني (في أستراليا) عن فرنسا. وتحدث عن المتاحف والتماثيل في باريس. وأشار إلى تماثيل «ماريان»، وتماثيل «جون دي أرك». وقال: «تفصل بين المرأتين (جان دي أرك، الحقيقية، وماريان الخيالية) أربعمائة سنة. لكنهما صارتا، ليس فقط رمزا للثورة الفرنسية، ولكن، أيضا، رمزا للثقافة الفرنسية».

في اليوم التالي، شاهد السياح تمثال جين دي أرك المطلي بالذهب في «بليس دي بريماديز»، ميدان الأهرامات، ذكرى انتصار نابليون على المصريين (نهاية القرن 18). لامعة، وفخورة، وعالية، تستقل جين دي أرك حصانا، وترفع علم فرنسا.

وقرأ السياح المعلومات التي تقول: إنها كانت متدينة، وتمردت ضد الاحتلال البريطاني لفرنسا. وقالت: إنها تلقت وحيا إلهيا بأن تحرر فرنسا. ويوم 30 - 5 - 1431. حرقت بناء على أوامر قس بريطاني انتقل إلى فرنسا. (كان عمرها 18 سنة فقط).

وبعد خمسمائة سنة تقريبا (القرن 20)، أعيد الاعتبار لها، وأعلنت قديسة.

* الثقافة الفرنسية

* ركز أيان سميث، في محاضرته للسياح عن فرنسا، على دور المرأة الفرنسية في التاريخ الفرنسي. وتحدث، أيضا، عن الثقافة الفرنسية. ومما قال: «لا يركز شعب غربي على ثقافته مثل الشعب الفرنسي».

وقال: «إنها ثقافة المثقفين، ثقافة باريس والمدن الكبيرة. إنها، في هذا، تختلف عن «الثقافة الأميركية» التي يمكن وصفها بأنها ثقافة «ميلتنغ بوت» (طنجة الخلطة) التي «تطبخ» الطفل الأميركي ليكون متساويا مع غيره، ولا يضع اعتبارات كثيرة لاختلافات الدين، والعرق، ووطن الآباء والأجداد، وحياة المدينة، وحياة الريف».

وفرق بين الثقافة البريطانية، وقال: إنها تتقسم حسب الطبقات الاجتماعية، وبين الثقافة الفرنسية، وقال: إنها تتقسم حسب مراكز العلم. يقود البريطانية الأغنياء، ويقود الفرنسية المثقفون. ولهذا، اشتهر الفرنسيون بشيئين:

أولا: النقاش الفكري والفلسفي.

ثانيا: الفنون والآداب وقال سميث إن الفرنسيين أكثر الشعوب الأوروبية التي تربط الثقافة بالوطنية. وكانت الثورة الفرنسية فلسفية وفكرية وفنية وأدبية مثلما كانت سياسية. وعكس الثورة الأميركية مثلا، سبقها قرن كامل من المناقشات الفلسفية والفكرية المركزة. واشتهر: جين جاك روسو، البارون مونتسيكيو، فولتير.

وأيضا، عكس الثورة الأميركية، صورت الثورة الفرنسية رسومات فنية غاية في الروعة. مثل لوحات: «الهجوم على الباستيل» و«الحرية تقود الشعب».

ومن هنا كان اهتمام الحكومة الفرنسية، ربما أكثر من أي حكومة أوروبية، بدعم الفنون والآداب. وربما هذا هو سبب اهتمام الفرنسيين بفنونهم وآدابهم، ربما أكثر من أي شعب آخر. وربما هذا هو سبب قلقهم على انتشار الثقافة الأميركية التي لا يترددون في وصفها بأنها «ثقافة الاستهلاك». أو «ثقافة كاوبويات».

ولم ينس أن الأستاذ الجامعي الأسترالي أن يقول: «بينما المرأة الأميركية جميلة أيضا، لكن الفرنسية أكثر أناقة وأنوثة. وهي نحيفة رغم أنها تستهلك كثيرا من الوجبات الدسمة، والجبن. هناك شيء مثير عن المرأة الفرنسية. واسألوا المرأة الأميركية».