ريكيافيك.. مدينة البراكين

عاصمة آيسلندا الصغيرة عدد سكانها نصف عدد سكان البلاد بأكملها

TT

كعادة «كورال برنسيس»، السفينة السياحية المحيطية العملاقة الأنيقة (التابعة لشركة «برنسيس كروز» الأميركية)، في الليلة التي تسبق وصولها إلى دولة جديدة، خلال هذه الجولة الأوروبية الشاملة، ترتب ندوة عن الدولة. هذه المرة، كانت الندوة عن آيسلندا. وكانت الشركة رتبت ذلك مع أستاذ جامعي آيسلندي متقاعد.

مثل المحاضرات الجامعية، كانت هذه تقليدية ورتيبة: عن تاريخ، وجغرافية، واقتصاد آيسلندا. غير أنه، في فترة الأسئلة والأجوبة، سأل سائح أميركي عن «شقراوات آيسلندا». فوجئ الرجل العجوز، وتندر بما معناه: «ألا ليت الشباب يعود يوما..»، وصفق رجال، وصفقت نساء. وبعد تردد، تحدث عن الموضوع، غير أنه فعل ذلك بطريقة أكاديمية وعلمية.

* لكن.. في البداية تاريخ آيسلندا

* حسب آثار قديمة، يعتقد أن أناسا سكنوا آيسلندا في القرن الثامن الميلادي. ولا توجد آثار عن سكان قبل ذلك، وكانوا من آيرلندا، ثم عادوا إلى آيرلندا. وفي القرن التاسع، جاء مكتشفون سويديون.. كانوا يعتقدون أنها قارة كبيرة (ربما امتدادا لنظرية قديمة عن وصول مكتشفين اسكندينافيين إلى أميركا، قبل 800 عام من اكتشافات كريستوفر كولومبس)، لكنهم وجدوا جزيرة بعد أن طافوا بسفنهم حولها.

كان هؤلاء المكتشفون والمهاجرون وثنيين، يعبدون إلهين: «أسير» و«فانير». ولكل إله عائلة من صغار الآلهة والإلهات. وعكس آلهة اليونان مثلا، كان الإلهان يحارب كل منهما الآخر، ويختار الشخص هذا أو ذاك.. إذا انهزم، هو وإلهه، تقع عليهم اللعنة، ويموت الإله المنهزم، وتدمر الأصنام والتماثيل التي تمثله، ثم، بعد سنوات، يعود إلى الحياة، ويعتنق الإيمان به مؤيدون، وتبدأ المنافسات والمواجهات.

وفي القرن العاشر، دخلت المسيحية آيسلندا، عن طريق مبشرين من السويد والنرويج.

* أميركيون وآيسلنديون

* وتبجح المحاضر الآيسلندي العجوز أمام السياح في السفينة، وكانت أغلبيتهم أميركيين، وأغضب بعضهم.. قدم المعلومات الآتية عن مواطنيه، حسب إحصاءات جديدة:

أولا: قالت نسبة 85 في المائة من الآيسلنديين إن «الاستقلالية» (وليست فقط الفردية) هي «شيء مهم جدا» في حياتهم.

ثانيا: قالت نسبة 67 في المائة إنهم «مرتاحون» في حياتهم. وتوقعت نسبة 70 في المائة ذلك في المستقبل أيضا.

ثالثا: قالت نسبة 83 في المائة إنهم، في كل يوم، يواجهون محاسن أكثر من مساوئ، مما يجعلهم من أسعد شعوب العالم.

رابعا: قالت نسبة 75 في المائة إنهم مسيحيون، لكن قالت نسبة 23 في المائة إنهم إما يؤمنون بـ«شيء خالق»، أو إنهم ملحدون.

أغضب الأستاذ الآيسلندي السياح الأميركيين عندما أشار إلى أرقام توضح أن الأميركيين أقل سعادة، وأقل راحة في الحياة، وأكثر مشكلات نفسية، وأكثر عنفا، وأقل مساواة (أشار إلى وضع الزنوج الأميركيين).

ثم أغضبهم، مرة أخرى، خلال فترة الأسئلة والأجوبة، عندما أشاد بقوانين زواج المثليين والمثليات. وقال إن آيسلندا هي الأولى في العالم في هذا المجال. وانتقد الدول «المتحضرة» التي لم تفعل ذلك (قبل قرابة 20 عاما من موافقة المحكمة العليا الأميركية).

وقال إن آيسلندا سبقت أميركا وبقية العالم، عندما أصدرت قانونا يمنع «شراكة شخصين»، ويوجب «زواج شخصين»: رجل وامرأة، أو رجل ورجل، أو امرأة وامرأة. والهدف من ذلك هو التساوي في كل شيء: القوانين، الضرائب، الميراث، التبني، المساعدات الحكومية (حتى تكاليف اللقاح المعملي).

ثم أغضب الأميركيين، مرة أخرى، عندما فرق بين الفردية والاستقلالية.. قال إن الفردية «أميركية»، وأساسها هو أن يحمي الفرد نفسه (منذ أيام الكاوبويات)، وإنها سبب كثرة العنف في المجتمع الأميركي (كل شخص يحمل بندقية). لكن، كما قال، الاستقلالية «آيسلندية»، وإن أساسها هو أن يكون الشخص مستقلا عن الآخرين، وإن هذا يعني أنه يجب ألا يتعدى عليهم، ولا يستغلهم، ولا يستعبدهم (أشار إلى استعباد الزنوج في أميركا)، وأن يكون كل الناس متساوين.

* ريكيافيك

* في صباح اليوم التالي، وصلت السفينة إلى ريكيافيك، العاصمة، وحملت حافلة أنيقة 50 سائحا تقريبا، أغلبيتهم أميركيون وأميركيات، في جولة استغرقت يوما كاملا.

ربما لا تحتاج المدينة إلى يوم كامل، لأنها مدينة صغيرة (130 ألف شخص)، وهم نحو نصف سكان آيسلندا (300 ألف شخص).

هذا هو شارع «لوغافنغور»، الشارع الرئيسي في المدينة (معناه «طريق غسل الملابس»، وذلك لأن الآيسلنديات، قبل وصول الكهرباء، كن يحملن الملابس المتسخة في هذا الطريق إلى نبع ماء ساخن ليغلسنها). وهذا هو «سافنا هوزيو» (مبنى المتحف).

وهذا هو «بنغسوشا» (مبنى البرلمان)، ربما أصغر مبنى برلمان في العالم، وحتى وقت قريب كانت جامعة آيسلندا تتشارك أجزاء منه، وكان فيه مكتب رئيس الجمهورية. وهذه هي «بلا لونيد» (البحيرة الزرقاء) ذات الماء الساخن، ويمكن اعتبارها أكبر «ساونا» في العالم.. يخرج الماء الساخن من تحت سطح الأرض، ثم يستعمل لمحطة توليد الكهرباء، ثم يستعمل لتسخين أنابيب الماء بالمدينة، ثم يتدفق نحو «البحيرة الزرقاء». لم يخض سائح أو سائحة من الحافلة في «البحيرة الزرقاء»، لكن أثار اهتمامهم قانونا، بأكثر من لغة، بأنه لا بد لكل من يريد أن يخوض أن يستحم، قبل وبعد، بماء عادي.

وسأل أميركيون المرشد الآيسلندي «يوهان»: «نعم، حوض سباحة، ولكن، بحيرة؟»، وأجاب بما معناه أن الآيسلنديين «حريصون على نظافة أنفسهم، ونظافة البيئة، أكثر من شعوب كثيرة»، وكان واضحا أن هذا غمز آخر للأميركيين، وكأن غمزات الأستاذ الجامعي الآيسلندي في الليلة السابقة لم تكف. وسارعت أميركية وتندرت: «قل هذا للفرنسيات».. هذه غمزة أميركية تقليدية عن الفرنسيين والفرنسيات: «إنه لولا القوات الأميركية لما خرجت قوات هتلر الألمانية من فرنسا (الحرب العالمية الثانية)، وإن الفرنسيات لا يستحممن كثيرا (قذرات)».

على أي حال، لم تكن السباحة في البحيرة في برنامج الحافلة السياحية. وأيضا، لم تكن زيارة بركان في البرنامج؛ إلا بركانين:

أولا: «بركان الماء المتفجر»: نافورة «ستروخور» التي تقذف الماء المغلي إلى ارتفاع 60 قدما في السماء، وتوجد حولها حمامات الطين، وحمامات الطحالب، وترى الآيسلنديين والآيسلنديات وقد غطت أجسامهم الطحالب والطين.

ثانيا: «بركان محطة الكهرباء» أو بركان «هنغل»، الذي يقع بالقرب من محطة لتوليد الكهرباء، وتربطها مواسير وأنابيب بطرف البركان، لتنتج منه طاقة كهربائية.

* أسئلة السياح

* وكان لا بد أن يسأل السياح عن بركان عام 2010، عندما ثار بركان «ايافياتيا»، وتسبب غباره في تعطيل، أو التأثير على، حركة النقل الجوي في كل العالم تقريبا. وتحدث المرشد «يوهان» عن ذلك، وقدم معلومات كثيرة؛ منها أن الغبار أغلق كل حركة النقل الجوي في شمال أوروبا وشمال المحيط الأطلسي. وكان أكبر إغلاق للمجال الجوي الأوروبي منذ الحرب العالمية الثانية، وقدرت خسائر شركات الطيران بملياري دولار تقريبا.

وكان لا بد أن يسأل السياح، أيضا، عن الأزمة الاقتصادية التي كادت تتسبب في إفلاس آيسلندا عامي 2008 و2009. وقال المرشد إن السبب الرئيسي كان إغراء من حكومة آيسلندا للبنوك العالمية الكبيرة بأنها لن تفرض عليها ضرائب عالية، أو أنها لن تفرض عليها أي ضرائب. وسارعت بنوك بريطانية وأوروبية كثيرة إلى فتح فروع في آيسلندا. وبدأت حركة إعمار واستثمار وبناء، وعندما بدأت الكارثة الاقتصادية العالمية (بدأت أولا في أميركا)، تجمدت نشاطات هذه البنوك في آيسلندا، واهتز الاقتصاد الآيسلندي، وكاد ينهار، لولا أن لجأ الآيسلنديون إلى بنك الاتحاد الأوروبي المركزي، وصندوق النقد العالمي.