بيهاتش تفتح أبوابها للمستقبل بدون نسيان الماضي

يوم حلو وآخر مر

TT

تبهرك بيهاتش، في الشمال الغربي للبوسنة، بتاريخها وسهولها المنبسطة مترامية الأطراف، وبموقعها الجغرافي القريب من البحر الادرياتيكي، وبمناخها المعتدل صيفا وشديد البرودة في الشتاء، حيث تغطي طبقات الثلج مساحات واسعة من أراضيها الخصبة الغنية المعطاءة. وقد عرفت المدينة عدة أسماء في السابق منها، بيهيق، وبايهاق، وبيشيش ، وبيهاق ، وغيرها. وتبلغ مساحة بياهتش 689 كيلومترا مربعا وتقع وسط منطقة فلاحية وصناعية، ففيها أكبر شركة للمعلبات، ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 231 مترا، وهي غنية بالمعادن والينابيع والمياه المعدنية والاستشفائية، وبالأخشاب والأنهار مثل نهر أونا البالغ طوله 80 كيلومترا، كما هي غنية بالغابات، وبالثروة الحيوانية، وبالفواكه والخضار المختلفة. وتنخفض درجة الحرارة في الشتاء لتصل إلى مستويات تحت الصفر من نوفمبر (تشرين الثاني) وحتى ابريل (نيسان) أحيانا، ويسجل سنويا هطول نحو 1.245 متر من الثلوج. كما يلف الضباب في فصل الشتاء بيهاتش في العديد من الأيام حتى أصبح سمة للشتاء في المنطقة. كما تضاعف عدد السكان بزيادة المواليد، فمن 5 آلاف إبان الفتح العثماني عام 1463، إلى 8.370 نسمة أثناء الاحتلال النمساوي 1878/ 1919 حسب احصاء سنة 1910، أي قبل 4 سنوات من اندلاع الحرب العالمية الاولى. وفي عام 1980 بلغ عدد السكان قرابة 66 ألفا، وهم اليوم أكثر من 100 ألف نسمة. وإذ استثنينا سهول بريتشكو وتوزلا فإن بيهاتش تعد لوحة فريدة في تضاريس البلاد إذ تخلو تقريبا من الطبيعة الجبلية التي تتسم بها منطقة البلقان ولا سيما البوسنة. لقد زرت بيهاتش عدة مرات، وفي فصول مختلفة، وكانت تبدو جديدة ومختلفة في كل مرة، فربيع بيهاتش يحول المنطقة إلى عرس موسيقاه أصوات النحل في البساتين، وخرير المياه بين الحقول، وأصوات الفلاحين تردد أهازيج الزمن الجميل، وصور الصمود في الملمات. وصيف بيهاتش مفعم بالحيوية، مشاهد الأسواق التي تعج بالمتسوقين، والمعروضات متراصفة ومرصوصة بما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، بينما تغدو ضفاف الأنهار شواطئ للكثيرين ولا سيما الأطفال واليافعين. وتقدم السهول والهضاب في بيهاتش لمسة جمالية للمكان والزمان بأعشابها الخضراء وزهورها النضرة، وقطعان الماشية الغادية منها لاستراحة الاجترار عند الضحى، وهي تنوء بحملها، لاهثة وبطيئة الخطى، تسير الهوينة، وفي الانتظار قرب الديار، نساء ينتظرن وصولها لحلبها وصنع الجبن من لبنها أو تقديمه طازجا لأفراد الأسرة والجيران والضيوف، فللضيف حقوق في بيهاتش كما يعتقدون. وشوارع بيهاتش نظيفة وجميلة، وكذلك مطاعمها ومقاهيها وسكانها وكل ما فيها، حتى الجماد، فلا أوساخ في الشارع، ولا أحد يلقي بالمعلبات وبقايا السندويشات بعد الانتهاء من الشرب والأكل، وحتى إن كان هناك من يخالف القاعدة فالبلدية بالمرصاد، ففي كل حي عمال مهمتهم الحفاظ على النظافة وباستمرار وليس مرة في اليوم أو الاسبوع أوالسنة. ولا يمكن لزائر بيهاتش أن يستغني عن مطاعم وفنادق سط المدينة، ولا سيما فندق سيدرا الأنيق الجميل والذي تجري من تحته الأنهار في جو بديع صيفا وشتاء. أو جامع الفتح، أو ساحة الحرية، أو شاطئ بيتون على نهر أونا أو ساحة المدينة، أو شلال مارتين برود بالغ الروعة، وميلينوفي وقلاع القرون الوسطى. ولا حاجة للتذكير بأماكن صيد السمك على الطريقة التقليدية، فقد تككرت في تغطياتي السابقة. ومما شدني أكثر في بيهاتش هو أن الأشجار في كل مكان، ترافقك في الشوارع وفي الساحات وفي أماكن الرياضة وفي المستشفيات وفي الملاعب وفي المدارس والمعاهد والكليات وفي أماكن العمل والمنتزهات، وكما قلت في كل مكان .

فالأشجار هي بمثابة مصدر للإلهام في النهار وبالرومانسية في الليل.

وفي هذا الجو الجميل يمكن للزائر أن يستأجر إحدى العربات التي تجرها الخيول ليشهد عن كثب كل ما تم ذكره باختصار، فليس من شاهد كمن قرأ. فكل ما يتمناه السائح من الراحة والاستجمام والاكتشاف والمعرفة والثقافة والتداوي والاتصالات والمواصلات موجود في بيهاتش. وبيهاتش من الأماكن التاريخية التي لا تزال تضم بعض الآثار الرومانية مثل منطقة غولوبيتش التي كانت تسمى في العهد الروماني «رايتينيوم» أو «رايمونتس». وكانت ولا تزال من المناطق التي تحتوي على مرافق استشفائية بالمياه الكبريتية ومنذ العهد الروماني. كما تحتوي بيهاتش على ثلاث قلاع رومانية، أشهرها قلعة سيفيتاتيس. وتذكر المصادر التاريخية أن المدينة التي كانت محصنة وتحيط بها الاسوار من كل جانب كانت منفتحة على العالم الخارجي ولا سيما في المجال التجاري واستقدام العمالة من الدولتين الجارتين صربيا وكرواتيا، وذلك منذ 1262 ما أثر في عادات السكان وازداد احتكاكهم بالآخرين، كما ازدادت الأطماع الخارجية عبر التوطين ونزوح الأجانب إلى هذه الديار، ما جعل أهلها غرباء في أرضهم وأقلية لا تزيد عن 20 في المائة من عدد السكان. الأمر الذي ولد العنف وأسال الكثير من الدماء، في وقت لاحق، حيث اختلط على الجميع من هو الدخيل ومن هو صاحب الأرض الأصلي. وفي 1412 استطاع الغزاة الكروات السيطرة على بيهاتش وضمها إلى كرواتيا، وهم اليوم يحنون لذلك الماضي الاستعماري.

وفي عام 1463 أشرقت الشمس على بيهاتش، فبعد سقوط ياييتسا في يد العثمانيين أحس السكان بحريتهم تعود إليهم من جديد، وتحررت إرادتهم من الاكراه الديني، فدخلوا في الاسلام أفواجا. وفتحت المدن، المدينة تلو المدينة. وتشهد بيهاتش والمدن القريبة منها والتي هي ضمن سنجق (لواء) بيهاتش، وهي تسازين وبوجيم وبوسانسكي كروبا وكليوتش وغيرها العديد من الآثار العمرانية العثمانية، كالجسور والقلاع التي أبدع العثمانيون في تشييدها، كذلك المساجد التي يطلق على بعضها حتى اليوم إسم «مسجد الفتح».

وقد قسم العثمانيون البوسنة إلى سبع سناجق، منها سنجق بيهاتش. لكن الاحتلال النمساوي للبوسنة بعد مؤتمر برلين 1878 كان شؤما على البوسنة وأهلها حيث حدثت مجاعة، ورافقت الحرب العالمية الاولى 1914 التي سببها الاحتلال النمساوي للبوسنة حربا داخلية استهدفت المسلمين في البلاد. وفي الحرب العالمية الثانية سقطت بيهاتش في يد النازيين سنة 1941، وهي نفس الفترة التي وقعت فيها سراييفو تحت نير النازية المتحالفة مع الاستاشا الكروات. وقد عاشت بيهاتش كابوسا مرعبا في تلك الحقبة حيث تقاتلت الدول الاوروبية فوق أراضي بيهاتش والبوسنة، وكان الأهالي هم الضحايا، واستمرت التراجيديا حتى نهاية الحرب سنة 1945. لقد عاشت بيهاتش ظروفا قاسية يحكيها متحف المدينة، ففي سنة 1992 وتحديدا في السادس من أبريل (نيسان) من ذلك العام تعرضت البوسنة لعدوان ثنائي عمل خلاله الصرب والكروات على تقسيم المدينة في ظل اختلال موازين القوى حيث لم يكن لدى المسلمين واللواء الخامس التابع للجيش البوسني الشرعي أسلحة يدافعون بها عن أنفسهم مقابل تخمة من الترسانات العسكرية لدى الطرف الآخر. ومع ذلك شهدت بيهاتش آيات من البطولة والتضحية والفداء جديرة بمتابعتها من خلال متحف المدينة. واليوم ترنو بيهاتش للمستقبل من خلال الحرص والإصرار على ترميم ما هدمته الحرب من مصانع وغيرها، بمساعدة ومشاركة الأشقاء والأصدقاء الراغبين في أن يكونوا شركاء، تاركة الماضي وراء ظهرها بدون أن تنسى، وفاتحة ذراعيها للمستقبل بتفاؤل كبير.