فيينا.. مدينة الرقص والفرح

لياليها أنس.. وفالس

مبنى الاوبرا في فيينا مقصد محبي الفن الرفيع («الشرق الأوسط»)
TT

اتحادات رجال المطافي، والقضاة، وعمال القمامة، والدبلوماسيين، والشرطة، وموظفي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وطلاب المدارس الثانوية والخبازين.... كل هؤلاء وغيرهم من مختلف قطاعات المجتمع النمساوي تجدهم هذه الايام مشغولين جدا بتنظيم حفلهم السنوي الراقص قبل ان ينتهي موسم الـ Balls الذي يبدأ نهاية اكتوبر (تشرين الاول) ويستمر لما قبل احتفالات شم النسيم، حيث يسعى كل قطاع للاستمتاع بحفل اجتماعي ثقافي، وكثيرا ما يكون لاغراض خيرية دعما لتمويل نشاط بعينة.

عرف النمساويون منذ القرن الثامن عشر تنظيم حفلات كهذه يؤدون فيها رقصة الفالس، التي تحورت مع بدايات القران التاسع عشر لصورة اقرب لاسلوبها حاليا. وكأي جديد يمس الموروثات كانت فضيحة ان يرقص ابناء الطبقة الارستقراطية بتلك الحميمية علنا، وبخطوات متسارعة مرحة استمدوها من رقصات الفلاحين بعيدا عن المدن الكبيرة حيث الارضيات الخشبية (الباركيه) التي كانت تساعد على الحركة السريعة الرشيقة عكس الارضيات المغطاة بالسجاد الفخم في القصور.

ثم ومع ظهور موسيقيين شباب امثال يوهان اشتراوس وجوزيف لاننر، انتشر الفالس بخطوات اسرع والتفاتات ودورات خفيفة يمينا ويسارا. ومنذ ذلك الحين اصبح الفالس الرقصة المفضلة في الحفلات. واضحت تلك تقاليدا يتوارثها النمساويون أبا عن جد، بل يدفعون من اجل ان تتسنى لابنائهم، عند بلوغهم سن الشباب وبدء الظهور للمجتمع، دراسة تلك الاصول حتى لا تندثر، لا سيما مع هذه العولمة، وموجات الرقص الحديث، خاصة تلك التي تتسم بنكهة اميركية.

يعتز النمساويون كثيرا بالتقاليد التي تسود هذه الحفلات، ويسعدهم ان يوضحوا مدى اختلافهم عن جيرانهم، وفي مقدمتهم الالمان على سبيل المثال ممن يحتفلون في ذات الفترة بالكرنفالات، حيث الازياء التنكرية والالوان الصارخة، والاستمتاع بالمأكولات الشعبية. فيما يحرص النمساويون على اقامة حفلات راقية، يقيمونها في قاعات فخمة وقصور، ويتأنقون لحضورها بملابس السهرة كاملة ويزينون صدورهم بأجمل النياشين والاوسمة الرسمية واوشحة من علم البلاد، كما هناك حفلات تشجع على لبس الهندام النمساوي التقليدي «تراختن سوخ»، كالفساتين المعروفة باسم الدندل للنساء، والبدلة النمساوية للرجال، واشهر تلك الحفلات تلك المعروفة باسم «حفل الصيادين» الذي يستمر طيلة الليل.

وبالطبع تغلب على هذه الحفلات طبيعة من ينظمونها، ففي حفل الفرقة الموسيقية فيينا فيلهارمونيكا، وهي اشهر فرقة موسيقية اوروبية، الذي يقام سنويا بقاعة الميوزيك فراين، يتوقع الجمهور الاستمتاع في المقام الاول بأرقى انواع الموسيقى، خاصة انها اسم ارتبط بأسماء الموسيقيين العمالقة امثال موزارت وبيتهوفن وهايدن، بينما يولي منظمو حفل الازهار عناية شديدة لطرق واسلوب تنظيم القاعة بالزهور وانواع الورود المختلفة بصورة تفوق الحفلات الاخرى (وإن كان للورود دور مهم في جميع هذه الاحتفالات). هذا بينما يحرص الخبازون على اختيار أجمل الفتيات، ويمطرونها بهدايا مختلفة من مخبوزاتهم.  هذا ويعتبر «الاوبرن بال» الذي يقام بقاعة اوبرا فيينا افخم هذه الحفلات مجتمعة واكبرها واعلاها دخلا واشهرها عالميا ويتم نقله على شاشات التلفزيون مباشرة على الهواء. يفتتح بالنشيد القومي مع وصول رئيس الجمهورية ترافقه السيدة الاولى، وضيوف الحكومة، ثم يبدأ البرنامج برقصة فالس جماعية يشارك فيها اكثر من 180 شابا وشابة، تنظمها مدرسة ألميير، وهي احسن مدرسة للرقص بفيينا .  وتحضره سنويا شخصيات عالمية في مقدمتها ملوك وامراء من الاسر الاوروبية والعالمية الحاكمة حتى من دول اسلامية، بالاضافة لبعض السفراء المعتمدين لدى النمسا، وشخصيات دولية من مديرين ورؤساء وكالات الامم المتحدة التي تتخذ من العاصمة النمساوية مقرا لها، ومنظمة الدول المصدرة للنفط (اوبك)، بالاضافة لكبار النجوم والمشاهير ووجهاء المجتمع النمساوي من علماء ورجال مال واعمال.

طيلة هذا الموسم تظهر جهات ومحال تجارية خاصة تساعد في توفير ما تحتاجه من خدمات، كالشركات التي تؤجر القاعات وتقدم الطعام وتنظم الموسيقى، وتلك التي تعمل على إعطاء دروس ودورات سريعة، تساعد في الالمام بأصول رقص الفالس، واخرى توفر خدمة تأجير ملابس سهرة من فساتين طويلة وبدل «سموكن» رسمية إضافة الى مختلف الاكسسوارات خاصة التيجان الصغيرة التي تزين بها الصغيرات رؤوسهن اذا ما تم اختيارهن للمشاركة في رقصة الافتتاح، وذاك شرف لا يتسنى للكل في الحفلات الكبيرة، كحفل الاوبرا، إلا لبنات وابناء العائلات الثرية ووجهاء المجتمع بعد تصفيات قاسية، حيث تبذل الاسر ما يتوفر لها من امكاناتها لتدريب ابنائها ممن ترغب في تقديمهم للمجتمع. بالطبع بإمكان السياح المشاركة وحضور الحفلات التي تنظمها مسارح وقاعات تجارية، وبعضها لا يتطلب الكثير من المشقة للحصول على تذاكر توفرها الفنادق ومكاتب السياحة. أما اسعار تذاكر الدخول فتتفاوت على حسب السمعة التاريخية للحفل وموقعه، وهناك تذاكر تبدأ بـ 60 يورو واخرى تصل الى 17 الف يورو، كما تتوفر روزنامة خاصة توضح تاريخ ومكان الحفلات طيلة الموسم. مع مراعاة ان حفلا كحفل الاوبرا الذي يقام سنويا في 31 يناير (كانون الثاني) يتطلب حجزا مبكر جدا، رغم ان عدد تذاكره قد يصل الى 7 آلاف تذكرة ارخصها لا يقل عن 200 يورو، واغلاها قد يصل الى 17 ألف يورو، لحجز جناح خاص. وهناك جماعات تعرف باسم «اصدقاء الاوبرا» يتبرعون سنويا آلاف اليوروات دعما لنشاطها .

ووفقا لدراسة صدرت حديثا، فان الاوبرا ومسرحي البورغ والفولكس، يدرون سنويا ما لا يقل عن 494 مليون يورو، تصبح بالاضافة لما توفره الحفلات الراقصة، مصدر دخل محترما للاقتصاد النمساوي، بل هي تاج الحياة الثقافية النمساوية، وهي حياة ثرية غنية من كل النواحي، تصب ثراء وحركة على قطاعات اخرى بما تخلقه من وظائف في قطاع السياحة والفنادق والمطاعم، بما يزيد عن 8 آلاف وظيفة بعضها موسمي وبعضها دائم .    من جهة اخرى، وبعيدا عن كل هذه الاحتفالات التقليدية، دأبت فيينا منذ عام 1993، في شهر مايو (ايار) من كل عام، على تنظيم حفل خاص عصريا جدا، يسمونه الـ«لايف بول» تمكن حتى العام الماضي في جمع ما يفوق 9 ملاين يورو، وزعت على مؤسسات تهتم وترعى مرضى الايدز، في بعض الدول الفقيرة عالميا . يستهل برنامج الـ«لايف بول» سنويا بعرض ازياء مجاني ضخم يقام في الهواء الطلق، بساحة مبنى البلدية، التي تتحول لممر عريض للـ  Cat Walk يشترك فيه اشهر المصممين العالميين امثال فيفيان ويستوود، وهذريت ترافرينز، وريتشي ريتش ، وعارضات من شبيهات ناعومي كامبل وهايدي كلوم وايفا بت بيرغ، ثم يختتم بحفل راقص يتم الدخول اليه بالتذاكر، يقام داخل القاعة الرئيسية بمبنى البلدية، ويكتسب بذلك دعما سياسيا ورعاية عمدة العاصمة النمساوية فيينا، الذي يرحب بكبار الضيوف امثال السير التون جون وبوب غلدوف وشارون ستون، أما بقية الحضور فيتبارون في البهرجة بآخر صرعات انواع الرقص المختلفة، والموضة والمكياج الصارخ، والملابس الغريبة لمن ينادون بالحرية المثلية.