موسكو تتقن لغة التاريخ

مدينة الفقر والثراء

يمتد التصميم الرائع الى شبكة مترو الانفاق التي تعطي إحساساً بأن الزائر داخل متحف («الشرق الأوسط»)
TT

في احدى ليالي الشتاء وبعد فترة طويلة من الظلام خارج نافذة الطائرة، رأيت اخيرا اضواء مدينة كبيرة لم استطع معرفة حدودها، وما ان اقتربت الطائرة من الأرض خيل لي بأنني أرى صورة بالأبيض والأسود لكثرة الثلوج التي تغطيها. فليالي الشتاء في تلك العاصمة طويلة وباردة، واما ايام الصيف، تبقى الشمس تضيئها الى ما قبل منتصف الليل. عندما نزلت الى ارض المطار شعرت بأنني قد رجعت الى فترة الثمانينات بسبب شكل المبنى وسيارات الخدمة التي تدور حوله. العاصمة موسكو التي كانت مقيدة لفترة اكثر من 70 عاما تحت النظام الشيوعي الذي حد من مواكبتها للتطور الذي شهده باقي العالم لفترة طويلة، لكن لكل شيء نهاية وايذان لبداية شيء جديد. ربما تكون القبب الملونة والمباني المذهبة هي الصورة الراسخة في مخيلة الكثيرين عن موسكو ولكن لمن يزورها اليوم سوف تتغير لديه تلك الصورة بصور اخرى اكثر عصرية. فشهدت العاصمة الروسية في السنوات الماضية اكبر نسب النمو من بين عواصم العالم في أسواقها المالية وأصبح سكانها يمثلون جزءا كبيرا من القوى الشرائية التي تؤثر بشكل ملحوظ في اسواق عديدة. فقد كان للشعب الروسي يد في ارتفاع اسعار العقارات في العاصمة البريطانية لندن، وازدهار السياحة على شواطئ جنوب فرنسا، واختلاف نوعية المتزلجين على جبال الألب، ومبالغة مصممي المجوهرات حول العالم في التشكيلات التي يقدمونها في كل عام. ارتفع عدد الأغنياء في تلك المدينة ولكن ليس بشكل متساو، فترى الطبقية بين سكانها واضحة كالشمس.

قلب العاصمة الذي يسمى بالساحة الحمراء (Red Square) تتجمع فيه اجمل معالم المدينة واعرق مبانيها التي تحتوي على جزء كبير من الثقافة الروسية وتتوج بشعار الفيدرالية المصنوع من الذهب الخالص. هناك سور كبير من الطوب الأحمر يحيط بمبنى الكرملين، الذي هو مقر الحكومة هناك، وتتشابك اطرافه بعدة قلاع تعتليها نجوم حمراء مضيئة تلفت الانتباه. لم تكن تلك النجوم جزءا من زينة موسم الأعياد وانما هي جزء من المباني التي كانت شاهدة على تغير مظاهر الحياة حولها. فهذه النجوم يفوق طولها اطول لاعبي كرة السلة وأما المثير فيها فهو انها مصنوعة بالكامل من الاحجار الكريمة، وعندها تستطيع ان تتعرف على نوعية الحياة خلال ايام الامبراطورية السابقة. الجهة الثانية من المنطقة تقف عليها كاتدرائية سانت بازيل الشهيرة والتي تنتشر صورها على اغلفة كتب الإرشاد السياحية المتعلقة بالعاصمة الروسية. ليست كبيرة بحجمها وانما ما فيها من الفن المعماري والمعاني التي تسجل التاريخ هو ما يجعلها تكون احد اجمل معالم العالم.

إن العشاق في العاصمة محظوظون، ففي المساء عندما تنير تلك النجوم الحمراء لتزين افق العاصمة الروسية، وتتساقط فوقها الثلوج التي تنعكس عليها انوار الكرملين، وتدق اجراس الكاتدرائية بانتظام، يتكون منظر من الصعب نسيانه.

محطات المترو تعطيك الاحساس بأنك تدخل الى متحف وليس باحثا عن وسيلة مواصلات، فتأثير الامبراطورية الروسية واضح في ديكوراتها الداخلية. كل محطة تختلف عن غيرها من ناحية التصميم الذي ترى فيه اعمال الموزاييك الملونة والمجسمات التي هي من صنع احسن الحرفيين خلال فترة النظام الشيوعي. ما من زائر يزور موسكو الا ويسمع عن قصة المباني السبعة التي تنتشر في ارجاء العاصمة الروسية. فهي جزء من بصمات ستالين التي تركها على موسكو واراد ان يحدد بها محيط العاصمة ويرسم خريطتها. فالمباني السبعة التي تم بناؤها في اواخر عهد الديكتاتور جوزيف ستالين استوحيت تصاميمها من العصور الوسطى، فيها من المجسمات الضخمة وأعمال النحت الدقيقة ما يذكرك بالمباني التي تظهر في سلسلة افلام باتمان الأميركية. مبنى جامعة موسكو، فندق اوكرينا، ومبنى وزارة الخارجية هي بعض هؤلاء منها التي لا تزال تنبض بداخلها الحياة بينما الباقية تكاد ان تكون مهجورة. فاقت تكلفة انشائها حين ذاك قدرات الاتحاد السوفياتي، وتأجلت مشاريع تنموية كانت الدولة تخطط لها بسببها. سكان موسكو يحبون التطلع الى المزيد دائما، وما يملكونه اليوم يريدون ما يبدله غدا. فالقصور القديمة اصبحت فنادق تشتت تركيزك لكثرة ما فيها من ديكورات مختلفة ومكلفة، طهاة المطاعم هم في تحد مستمر لينافسوا ألان دوكاس وغوردون رامسي، وحتى الأسواق تم تحويلها من مراكز لتدريب القوات الى مجمعات لبيع اشهر الماركات العالمية ولا تختلف كثيرا عن ما هو عليه الحال في «بوند ستريت» في لندن او «روديو درايف» بلوس انجليس. أعمدة ضخمة من الرخام، وفازات البورسلان واللوحات الفنية المأخوذة من مدارس الفنون المختلفة تزين اغلب الفنادق والمطاعم وحتى المقاهي، ولكل منها طابعه الخاص. تتبدل المطاعم في موسكو بكثرة مثلما تبدل زوجات اصحاب الثروات الروس ملابسهن، فالمطعم المفضل لدى المجتمع عند زيارتك الأولى سوف يصبح جزءا من التاريخ عند زيارتك التالية. ولكن يبقى بوشكين كافيه الذي لا يتنازل الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون عن تناول الكافيار فيه عند زيارته للعاصمة الروسية يتربع على القمة هناك. فالمطعم الذي يفتح على مدار الساعة يعيدك بملامحه الى القرن التاسع عشر وكأنك تتناول وجبتك في احد منازل الأمراء الروس، وعنده تستطيع ان تتعرف على أطيب ما يقدم لك المطبخ الروسي التقليدي. وعند الذهاب لأي مطعم ترى سكان العاصمة بأفضل حلة، كأنهم في طريقهم لحضور حفل افتتاح الأوبرا الملكية في فيينا، فمنظر السيدات بمجوهرات غراف وفساتين فالينتينو هو امر طبيعي، لكن رجال الاعمال الروس يزينون مظهرهم بارتداء الساعات السويسرية المعقدة الميكانيكية التي يندر وجودها. لم اتوقع ان ارى مطاعم مثل التي رأيتها في موسكو، فمما لا شك فيه ان المطاعم في موسكو من بين افضل مطاعم العالم، فهي متنوعة تقدم خدمة فائقة الجودة والطعام الممتاز ما يجعل العديد من الطهاة حول العالم يقفون في منطقة حرجة. في السنوات الماضية ازداد اهتمام العالم بتلك العاصمة الغريبة، واعتقد الكثير بأنها قد تكون من اخطر مدن العالم لكثرة القصص التي تدور عن العصابات والمشاكل المختلفة هناك. لم اشاهد ذلك ابدا خلال وجودي، او على الأقل في قلب المدينة الذي يحتوي على أجمل ما يمكن مشاهدته واهم ما يجب زيارته. مسرح البلشوي الذي يعتبر من أجزاء الحضارة الروسية تأجل افتتاحه الى العام المقبل بسبب مشاكل في المبنى العريق، لكن عند افتتاحه من جديد سوف يكون احد اروع المسارح حول العالم. اخيرا ورد خبر بناء المعماري المشهور، اللورد البريطاني نورمان فوستر لاضخم مبنى في العالم في وسط العاصمة موسكو والذي سوف يحتوي على وحدات سكنية ومكاتب وفندق وغيرها من المرافق والخدمات. وعلى الرغم مما اكتسبته موسكو من تسليط للأضواء الا انه لم ينقص ذلك في أي يوم من شأن مدينة التراث الروسي، سانت بيترسبورغ. فمتحف الايرميتاج هناك لا يزال اعرق ما يؤرخ حياة الأميرات الروس تاتيانا وانيستيشيا اللتين قامتا بإخفاء مجوهراتهما الثمينة داخل فساتينهن للهروب بها عندما سقطت امبراطوريتهما.