سياحة وقصص من قلب الواقع

الوجه الآخر لإيران

تشتهر ايران بحرفيات عديدة من بينها صناعة السجاد («الشرق الأوسط»)
TT

أين المدرسة الإسلامية؟

بعدما خرجت من فندقي واتجهت الى طريق جهار باغ عباسي في اصفهان الذي تظلله الاشجار، توجهت الى طريق ضيق عند تقاطع «تأخي» في الجنوب واتجهت يمينا ويسارا وضللت الطريق. وكنت احاول السير في طريق طوله 7 اميال موجود في الدليل السياحي الذي احمله - ولكن لم تكن هناك اية اشارة او أي خريطة محلية - فوجدت نفسي وسط مجموعة من الحارات الضيقة التي تحيط بها الاشجار.

وابتسم لي رجل يعمل في جراج صغير ووجهني للطريق وقال «مدرسة؟» مشيرا الى اليمين.

واذا كنت ستضل الطريق فإن اصفهان، المدينة التي يقطنها 1.3 مليون نسمة، وتقع على بعد 200 ميل جنوب طهران هي مكان غير عادي تضل الطريق فيه. وهناك مثل قديم قدم الازل يقول إن اصفهان هي «نصف العالم» أي انها تحتوي على نصف عجائب العالم.

ويقول جان غاردين وهو رحالة فرنسي من القرن السابع عشر، إن اصفهان «تأسست لمتعة الحب» وفي الثلاثينات قيم الشاعر والرحالة البريطاني روبرت بايرون المدينة «من بين هذه الاماكن النادرة مثل اثينا وروما وهي متعة الانسانية».

وكنت وصلت ايران قبل اسبوعين، في شهر مايو (أيار) الماضي، شاعرا بالقلق. وقلت بفارسية مبدئية نقلا عن كتاب للعبارات «اعذريني يا سيدتي» لرجل ملتحٍ.

ومعلوماتي عن ايران لا تزيد عن المعلومات الاخبارية المطروحة في كل مكان: دولة مارقة تطور تكنولوجيا نووية، من دول محور الشر، والعدو الاخلاقي للشيطان الاكبر، الولايات المتحدة. وكنت آمل في معرفة البلد عن قرب، اردت معرفة شعور المواطن الاميركي في ايران.

وسألني سائح الماني في اول يوم لي في طهران «من اين اتيت؟» وعندما قلت «الولايات المتحدة»، ابرقت عيناه، وقال «لن اقول لأحد».

ولا تعطيك ايران صورة نمطية سلبية، على الاقل في البداية. وسرت تحت نظرات دليلي الايراني - في شوارع واسعة مزدحمة بسيارات ودراجات بخارية - الذي اوضح لي انه من الخطر السير وحدي. ومررنا بلوحات اعلانية تحمل صورة آية الله خميني ووصلنا الى مقر السفارة الاميركية السابق، ومقر وكالة الاستخبارات المركزية الذي رُتب منه انقلاب عام 1953 الذي اعاد الشاه – ومقر ازمة الرهائن بين عامي 1979 حتى عام 81، والمقر تحول الآن الى متحف وموقع تاريخي معروف بإسم عرين التجسس الاميركي.

ومررت تحت شعار مكتوب بلغة انجليزية ركيكة – «الولايات المتحدة الاميركية محتلة القدس هي اكثر النظم المكروهة بالنسبة لنا» - وفي لوحة اخرى «تسقط الولايات المتحدة الاميركية». ووقف رجل مبتسم امامي. والتقط صورة سرا او هكذا اعتقدت، ولكنه هرع خلفي. وقال «لا اكره اميركا. احب اميركا».

وبعد ثلاثة عقود من الثورة الاسلامية، تشهد ايران عملية تحول هادئة، هذه المرة في قطاع السياحة. ففي شهر يوليو(تموز) الماضي، اعلن مسؤول حكومي حملة عالمية لدعم السياحة، وافتتاح مكاتب سياحية جديدة في 20 دولة.

وجاء ذلك في اعقاب الانباء التي انتشرت بأن ايران ستقدم مكافآت نقدية الى وكلاء السياحة الذين يمكنهم جذب نوعيات معينة من السياح، لا سيما من الاوروبيين والاميركيين. وقد اعلن الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد، الذي يأمل في اعطاء الاحساس بالنيات السلمية، ان السياح الاجانب سيتمكنون من زيارة المواقع النووية الايرانية المثيرة للجدل.

وحملة الجاذبية لم تترجم حتى الآن الى تسهيل عملية زيارة السياح الاميركيين. فالسياحة المستقلة شبه مستحيلة، فأنت تحتاج لمضيف، في العادة شركة تجارية - والانتظار للحصول على تأشيرة يستمر في العادة عدة أشهر. وقد سافرت مع المصور غريج فون دورستين، وبالرغم من انه رتب اجراءات السفر قبل مدة من الزمن مع شركة سياحة اسمها «ايرانيين مونتين غيدز»، فإنه اجبر على زيارة السفارة الباكستانية في واشنطن، التي ترعى المصالح الايرانية في اميركا، صباح يوم السفر لأخذ التأشيرة. ووصل الى نيويورك في وقت يسمح لنا، بالكاد، بركوب الطائرة في المساء.

وايران مليئة بالآثار قبل الآثار الاسلامية، والمساجد المغطاة بالموزاييك، والمدن التي تقدم الواجهة الدينية المتشددة، والغربية التي تعبر عن الفرحة والبهجة. وصحاريها اكبر من صحاري الجنوب الغربي، وجبالها اعلى من جبال الروكيز الاميركية.

وستنقلنا رحلتنا من طهران الى اعلى قمة في الشرق الاوسط، وهو جبل دامافاند الذي يصل ارتفاعه الى 18606 أقدام، والى برسبوليس جوهرة حضارة الاخمنيين، اول امبراطورية فارسية. اما اهم مراحل الرحلة، فقد كان الجولة في اصفهان.

فبعدما اتبعت نصيحة ميكانيكي الدراجات البخارية، وقفت امام مجموعة من الابواب الخشبية الضخمة ذات الوان باهتة وسلاسل متدلية. كان ذلك مدخل مدرسة نيورفاند وهي مدرسة صغيرة معروفة باهتمامها بالزوار الاجانب.

وشاهدت الطلاب الذين يحملون الكتب وهم يعبرون ساحة المدرسة الداخلية، كان هناك اصوات همس وزقزقة طيور. ومضى امامي الملا، بذقن رمادية بعمامة بيضاء، وانتهى بنا الامر بنقاش استمر ساعة عبر المترجم.

ولم يخجل الملا عبد الله دهشان، من طرح اسئلة صعبة: هل تعتقد ان الاسلام يتميز بالعنف؟ اذا كان لديك امنية واحدة للعالم فما هي؟ هل تؤمن بالله؟ وقلت ربما.

وسألته هل نحن في حاجة الى قساوسة وحاخامات وملالي؟ ابتسم الملا دهشان، وقال اذا رغبت في الذهاب لشيراز، ستحتاج الى سيارة وطريق وخريطة. من الصعب الوصول الى اماكن بعيدة من دون مساعدة. وبعدما غادرت المدرسة سرت في مجموعة من الحواري في طرف السوق الكبير في شمال شرقي المدينة، وهو واحد من اكبر اسواقها. وقد اقيم اساسا في القرن السادس عشر، بينما يرجع بعض مبانيه الى 700 بعد الميلاد، وطرقه مغطاة لعدة اميال.

واسقف السوق مرتفعة. والباعة بضائعهم مكدسة في اماكن صغيرة، يبيعون التوابل وسراويل الجينز ومساحيق التجميل والعاب الاطفال البلاستيكية الرخيصة.

الا ان العديد من المحلات تبيع الصناعات اليدوية التي يأمل الانسان في العثور عليها، سجاد فارسي، العديد منه من نسج البدو مثل التركمان واللور واخيرا توجد منمنمات تصور رحلات صيد ومباريات بولو وزهريات وأطباق من النحاس والفضة والذهب.

وبدأ الطريق يتسع ويصبح ساطعا. ومررت ببوابة القيصرية، وهي بوابة باهتة تعتليها جداريات ملونة تظهر شاه عباس الاول وهو يقاتل الاوزباك. وتدين اصفهان بالكثير من عظمتها لشاه عباس، الذي، بعدما طرد العثمانيين من بلاد فارس في القرن السادس عشر، انطلق في حملة تعمير لتمجيد عاصمته. فحدائقه الخضراء وقصوره الشامخة وميدان الاحتفالات العظيم، والجسور والمساجد كلها سهلة الاتصال في جولات سيرا على الاقدام.

وخرجت من البوابة الى الميدان العظيم الذي يصل طوله الى 1680 قدما وعرضه 535 أي ما يقرب من 20 فدانا – ميدان الايمان وهو واحد من اكبر الميادين في العالم، ويحتوي على ما يمكن القول بأنه اكبر تجمع للعمارة الاسلامية.

ففي الطرف الجنوبي تحرس المنارتان مدخل مسجد امام، الذي تغطيه قباب بصلية الشكل. والى اليمين يوجد قصر علي كابو. وهو يرتفع 6 طوابق وتنتشر به اعمدة خشبية رفيعة تدعم سقفا يغطي شرفة مخصصة لمشاهدة مباريات البولو التي كانت تمارس قبل مئات السنين. والى اليسار توجد القبة الملونة العريضة لمسجد الشيخ لطف الله، والمقام تكريما لوالد زوجة عباس. وتجر الخيول عربات. وتجلس الاسر على الحشائش. واذا ما كان لدى المسافر اية شكوك بخصوص ضيافة الايرانيين تجاه الاميركيين، فإن هذا هو المكان الذي يقضي على هذه الشكوك. فإقامة علاقات صداقة جديدة لا يحتاج لجهد اكثر من الوقوف لمدة 30 سنة. فقد تقدمت مني في البداية ثلاث فتيات ضاحكات يرتدين الشادور الاسود، ثم دعاني رجل اكبر سنا لشرب الشاي مع ثلاثة من اصدقائه. واراد الجميع معرفة لماذا اتيت لإيران. وتساءلوا عما يفكر فيه الناس في الولايات المتحدة عن هذه الرحلة. وكانت لديهم فكرة واضحة بخصوص الاجابة.

وقال بائع سجاد اسمه وحيد موسويفارد «يعتقد الناس اننا كلنا من المتطرفين الدينيين نحمل اسلحة نووية وذقوننا تمتد حتى امعائنا. الا ان ايران بلد آمن للغاية للسياح». واراد العديد من الناس الحديث في السياسة، وإن كان ذلك يتم بشيء من الحذر. لأنه من المعروف ان رجال الشرطة السرية ينتشرون وسط التجمعات، كما اوضح دليلي لي. ولم يكن الناس الذين التقيتهم، كما هو متوقع، من انصار الرئيس بوش. وذكر شاب صغير «لديكم قوات في افغانستان وقوات في العراق، كم من الوقت سيمر قبل غزو ايران؟». وتجدر الاشارة الى ان مسجد امام هو اكبر المساجد في ميدان امام. الا ان مسجد الشيخ لطف الله هو الاجمل. فقبته مغطاة بالقرميد الابيض والاسود وتلك التي تحتوي على رسومات لزهور زرقاء، وهي تصميمات تماثل دقة منتجات الصين اكثر من مماثلتها لعمارة ضخمة بهذا الحجم. ويغطي قوس كبير مزين بآيات قرآنية مكتوبة بخطوط عربية المدخل.

وفي الداخل يؤدي ممر معتم الى ساحة الصلاة تحت القبة. ويتسلل الضوء عبر الزجاج المعشق، ويكشف عن موزاييك اكثر جمالا من تلك التي في الخارج. ويفخر الايرانيون بهذه الآثار التي ترجع للقرن السابع عشر، كما يفخرون بتاريخ بلاد فارس الذي يمتد عبر آلاف السنين. وخلال سفري، كان الناس يشتكون بحماس وتكرار عن الفيلم الاميركي (300) الذي يصور بلاد فارس القديمة بطريقة غير جيدة اكثر من شكواهم من القضايا السياسية المعاصرة. وفي شيراز على بعد 225 ميلا جنوب اصفهان، التقيت بدليل سياحي ايراني شاب اسمه مازيير رحيمي الذي قضى عدة ايام في برسبوليس. وذكر لي «عندما ذهبت إلى هناك تبين لي مدى عظمتنا آنذاك ومدى صغرنا الآن». وبعد ظهر يوم في اصفهان، قمت بجولة من ميدان امام حتى نهر زندة، الذي يمتد في قلب المدينة. وينتشر هنا المزيد من تراث شاه عباس وخلفائه، سلسلة من الجسور القديمة تمتد عبر النهر. وشاهدت عبر طريق ممتد على النهر، العديد من الاشخاص يتناولون العشاء وجماعات من الفتيات الضاحكات.

ووصلت الى جسر سيوسيه وهو الجسر المعروف بجسر الـ 33 قنطرة. والى الشرق، وبالقرب من قاعدة جسر تشوبي، يوجد مقهى يزدحم بالزبائن يجلسون جنبا الى جنب يدخنون الشيشة. وعندما شاهدوا ضيفا افسحوا لي مكانا.

واحضر نادل الشاي والسكر والشيشة. وكانت الرائحة حلوة وغنية، وكان هنا الكثير من الدخان في الغرفة لدرجة ان الاشخاص الذين يجلسون في الغرفة كانوا منتشين.وسألني شخص يجلس على يميني من اين اتيت؟. وقلت له اميركا، واصبحت الغرفة اهدأ. وبدأ الجميع ينظرون نحوي، ثم ربت الرجل على كتفي وابتسم وقال: «حكومتنا سيئة ولكن شعبنا طيب».

* خدمة «نيويورك تايمز»