ميتم الفيلة في سري لانكا.. تجربة من نوع آخر

رحلة إلى بلاد الشاي

TT

لا تكفي ثلاثة أيام للتعرف الى وسط سري لانكا، حيث الجبال الغرانيتية الشاهقة التي تزرع فيها نبتة الشاي، لكن التوجه الى الطرف الآخر من الجزيرة، هناك حيث يمكن الاستمتاع بجمال الشاطئ الغربي. وزيارة واحدة من أكبر محميات السلاحف البحرية في البلد، حيث تكمن روعتها بأنها انشئت بمبادرة شخصية من أحد محبي السلاحف.

من كاندي في الوسط الى بنتوتا في الجنوب الغربي ثمة حكايات كثيرة ومشاهد ساحرة وغرائب تشبه هذا البلد المحشو بالغرائب. وفي الطريق الطويلة والمتعرجة بين الأدغال، والتي هي نسخة من كافة الطرقات في سري لانكا البلد. لا يمكن الاستسلام الى النوم كما يحلو للبعض أن يفعل، حيث لا يترك بلا متعة وغرابة. إذ ان المناظر البديعة المتشكلة من التشابك المذهل للأشجار الاستوائية التي تنمو هنا، يحول البلد الى غابة كبيرة تمتد على كافة اليابس وصولا الى البحر. فكل ما تراه العين في هذا البلد هو الأدغال الكثيفة والمياه، مضافاً الى ذلك بالطبع القدرة على الحياة في قلب المناخ القاري الحار المصحوب بالأمطار الغزيرة في الكثير من أوقات النهار والليل.

قادتنا الرحلة بالسيارة في الطرقات المتعرجة إياها، والأقرب الى الوعرة بسبب الفقر المادي وعدم قدرة الدولة على الصيانة الدائمة للطرقات، لنصل الى حيث يوجد واحد من أغرب المياتم في العالم. فهذا الميتم، الكبير جداً غير مخصص للأولاد الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم وبعض عائلاتهم. بل ميتم للفيلة التي تفقد عائلاتها. إذ من المعروف أن الفيل الصغير، لا يمكنه أن يعيش خارج النظام العائلي الصارم كفرد من أفراد العائلة، حياة مختلفة يمكنها أن تميته أو ببساطة أكثر أن تدفعه الى الانتحار. قبل أن أصل الى هذا المكان لم أكن أصدق الذين قالوا لي إن في سري لانكا ميتماً للفيلة. استهجنت القصة. إذ ببساطة لم أكن أتوقع أن هذا البلد الفقير الذي يعيش أبناؤه تحت الأشجار وفي الغابات، وهم في غالبيتهم من المعوزين والفقراء، أن يكون عندهم اهتمام مكلف جداً من هذا النوع. فالفيل البالغ يلزمه حوالي 400 كيلو غرام من قشور ثمار الموز في اليوم الواحد، في حين يصل استهلاك الفيل الرضيع من الحليب ما مقداره 20 ليتراً في الوجبة الواحدة. ما يعني أن الموضوع مكلف جداً بالنسبة لبلد فقير لا يجد سكانه في بعض الأحيان كفاف يومهم.

هذه الظاهرة العجيبة، لا تستحق التسجيل والتبجيل فقط. فمنظر الفيلة وهي تلعب وتعمل وتقف وتحافظ على أولادها من أطرف وأغرب المناظر في العالم. وأقول تحافظ على أولادها لأن بعض الفيلة الإناث جاء يتيم الى هنا وتزوج وأنجب وهو هنا، بحسب ما قال الدليل الذي صاحبنا، وأصبح أفراد الميتم من الفيلة هي عائلته التي لا يستغني عنها مطلقاً. وهي لا تتحرك إلا معاً كمجموعات تتنقل بين الزوار من السياح الأوروبيين الذين هم في غالبيتهم من الإنجليز والألمان. فمن الغريب في هذا البلد رؤية سائح عربي. إذ يندر أن يأتي العرب الى هذا البلد لأسباب لا يعرفها الناس هنا. لا يلفت في هذا المكان، فقط، منظر الفيلة وهي تمشي مع بعضها في جماعات متراصة على بعضها بعضا. ولكن ثمة مكانا يأتي إليه السياح في وقت الظهر لمشاهدته عن قرب، وهو منظر إرضاع الفيلة الصغار التي تلتهم زجاجات كبيرة من الحليب بنهم كبير.

كانت أربعة فيلة في فترة الرضاع، أحدها كان مريضاً بحسب السائس، الذي قال ان فرصة هذا المولود في الحياة ضعيفة جداً، ولكنهم يعملون ما بوسعهم لإنقاذ حياته. يقف وحيدا بعيداً عن انسبائه من سكان هذا الميتم، يشرب الحليب بنهم مثلهم، ولكن من يتطلع الى عينيه ملياً يكتشف بأن هذا الفيل الصغير يعاني من مرض كبير، لا من الجوع. فعلى الرغم من أنه في عمر انسبائه إلا أنه لا يكبر مثلهم على الرغم من تناوله نفس الوجبة من الحليب التي يتناولها نظراؤه. وهذا ربما بسبب مرضه الذي لم أفهم كيف يمكن ترجمته الى العربية. من الحالات الغريبة التي يمكن مشاهدتها في هذا الميتم. أنثى فيل تجر نفسها ببطء شديد تجذب الأنظار التي سرعان ما تكتشف بأنها تعاني من إعاقة في يدها اليمنى، تحيل عملية السير لديها الى أقل من غيرها، إذ تمشي على ثلاثة قوائم فقط. فوزنها الثقيل لا يمكنها من المشي بشكل طبيعي، ذكرتني هذه الأنثى بمشهد المعاقين من المتسولين في المدن العربية، الذين يستثمرون إعاقاتهم من أجل التكسب. ولكنها، ليست كالبشر تتسول مستثمرة هذه الإعاقة الخلقية في جسدها. إنما تعيش في مكان يحفظ لها كرامتها حتى الموت. وهذا ربما من أفظع الأمور التي يمكن للإنسان أن يفعلها من أجل الحيوانات التي تتقاسمه الطبيعة والحياة. فالفقر الذي يبدو على سكان هذا البلد، لا يمنعهم من الاهتمام بالسكان الآخرين في هذا البلد ألا وهم من الحيوانات. ومن ضمن الحالات الغريبة للفيلة التي رأيناها. زوجان من الفيلة فاقدان لنعمة البصر. هذان الزوجان يتلقيان رعاية خاصة، من قبل موظفي الميتم، لا يمكنهما التحرك من مكان وقوفهما بسبب عدم القدرة على الإبصار ما يعني أن الأكل يأتي إليهما. فثمة موظف خاص تآلفا معه ويعرفانه من صوته، وهو الوحيد الذي يمكنه الاقتراب منهما. غير ذلك، يمكن لأي أحد، أن يقف الى جوارهما ليأخذ الصور التذكارية معهما. والطرافة في الموضوع، ليست الندرة في وجود فيل أعمى، ولكن في وجود زوجين من هذا النوع. فالفيل الذي يبصر لا يمكنه أن يتزوج من أنثى فاقدة للبصر، ما جعل البحث عن فيل مشابه في الإعاقة مسألة صعبة بين حوالي أربعة آلاف فيل يعيشون في سري لانكا. إما في الحدائق التي تخصصها الدولة هنا، أو في الغابات المنتشرة على كافة أرض الجزيرة. في كل جانب من جوانب الميتم يمكن للزائر هنا أن يشاهد فيلة مربوطة بجنازير فولاذية لا يمكنها أن تترك مكانها، وهي حين تكون على هذا الشكل يعني أنها تعاني من مزاج سيئ، أو في غالب الأحيان تعاني من حالة اكتئاب، تجعلها غير قادرة على تقبل البشر الذين يأتون الى هنا للمزاح واللعب معها أو لتصويرها أو لإطعامها في مشهد يبدو مألوفا للسكان بينما يبدو غريبا ومستهجنا للزوار من الغربيين الذين لا يوجد في بلدانهم، حيث يعيشون حياة مشابهة. لم أقترب من الفيل الذي يستقبل الزائرين أول دخولهم الى الميتم. قال لي المرافق انه مربوط لأن مزاجه غير جيد. وبالتالي لا يمكنك الاقتراب منه أو تحمّل مسؤولية نفسك. فضربة واحدة من فيل متعكر المزاج تكفي لإدخالي الى المستشفى في أفضل الأحوال، أو قتلي في أسوأ الاحوال. الى جانب هذا الميتم، وعلى بعد ما يقرب الثلاثة كيلو مترات، يوجد مركز آخر للفيلة معظم سكانه من إناث الفيلة، هو مركز (فيل سفاري)، حيث يمكن للسائح أن يركب على ظهر فيل ويتجول في الغابات القريبة ولوقت محدد. وعلى الرغم من أن أجرة هذه الرحلة مكلفة في بلد فقير وهي تستخدم لمساعدة الفيلة على الطعام وتأمين الطبابة المناسبة لها، إلا أن المتعة التي توفرها تجعل كلفتها زهيدة بالمقارنة مع أية مغامرة من نوع مختلف. ركبنا على ظهر أنثى فيل اسمها (ابيبي) يقودها فتى صغير لا يتجاوز عمره الاثني عشر عاماً. يفهم عليها وتفهم عليه. يحركها بكلمات غريبة، قال لنا إنها اللغة التي تفهمها الفيلة وتتكلمها. زيارة سري لانكا. مغامرة فريدة من نوعها. فمن يحب أن يعيش في قلب الغابات، ويتجول بين الإشجار من كافة الأنواع فما عليه سوى أن يكون قادراً على تحمل المناخ القاري الاستوائي، حيث لا توجد ضوابط للطقس. ففي الوقت الذي تكون فيه السماء صافية والشمس مشرقة الى أقصى درجات الإشراق ما يجعل فروة الرأس تغلي يمكن أن يباغتك الطقس بشتاء قوي لا نشاهده في بلادنا إلا في السنوات التي ينعم الله علينا فيها بمطر غزير. بلاد يسكنها أناس بسطاء وفقراء، ومع ذلك لا تفارق البسمة وجوههم، ويشاطرهم في سكنها مجموعات كبيرة من الحيوانات البرية التي تأتي لتأكل معك بسبب تعودها على أن السكان من البشر لا يؤذونها أبداً.