توزلا.. أرض البحيرات النائمة بين هضاب من ذهب

مدينة عدد سكانها أكثر من عدد شعب الجبل الأسود

TT

كانت الرحلة بين سراييفو وتوزلا (120 كيلومترا) ممتعة جدا هذه المرة، فلم تكن كسابقاتها ضمن زيارات عمل روتينية، مع شخصيات اعتبارية. وكانت الطريق المتعرجة حينا والمستقيمة حينا آخر، بين العاصمة والمدينة النائمة بين هضاب غنية بمناجم الفحم والثروات الطبيعية الأخرى، حتى أطلق عليها لقب، هضاب من ذهب، تسحر الألباب. لقد فضلت التوجه إلى توزلا من سراييفو عبر، فوغوتشا، تلك الضاحية التي تشهد تغييرات مستمرة وتطورا مطردا، واختار الكثير من الكتاب والشعراء الإقامة فيها، وهي رغم صغرها، تحتوي على الكثير من المرافق الرياضية والدينية والاعلامية، والترفيهية، والفنادق وغير ذلك. وقد جمعت بين خصائص المدن، ورحابة الريف. وما أن تتقدم مسافة 10 كيلومترات حتى تتراءى لك منطقة، ساميز وفاتس، ومطاعمها التي يفضلها الجميع، لا سيما في عطل نهاية الأسبوع، والمناسبات الخاصة. ثم تبدأ المنعرجات بين الجبال الخضراء ولمسافات طويلة. وقبل الوصول إلى أولوفو،(35 كيلومترا شمال سراييفو) حيث توجد منابع الماء الساخن، والعلاج بالمياه الكبريتية، تكون قد مررت بالعديد من المطاعم والاستراحات الجميلة التي تقدم الطعام الطازج، واللحوم المشوية في الهواء الطلق، أو الأماكن المخصصة لذلك في ظروف صحية تامة. وقبل الوصول إلى توزلا تكون قد استمتعت فعلا بجمال المناظر الطبيعية الرائعة. وما أن تشرف على مداخل المدينة، حتى تبادرك توزلا بالترحيب، لا سيما إذا كان الفصل ربيعا أو صيفا، حيث تتحول سهول ووديان وهضاب وجبال البوسنة،إلى جنة فوق الأرض. فعلى مقربة من توزلا، لا سيما مداخلها المختلفة يعتني السكان المحاذون للطريق العام بالزهور التي تتسلق أسوار منازلهم وشرفاتهم ونوافذ بيوتهم. وتغمرك رائحة تلك الأزهار من كل جانب، وكأنك في عرس كوني، تنبعث من جنباته رائحة البخور الزكية، ويردد الصدى أصوات المؤذنين لصلاتي الظهر والعصر، فالمساجد لا تكاد تغيب عن ناظريك، وأنت في الطريق من سراييفو إلى توزلا، أو أي مدينة أخرى في البوسنة.

ولا غرابة فإن البوسنيين قد ورثوا حب الجمال من أسلافهم الاليريين، ونظموا ذلك في حياتهم اليومية بعد دخولهم الاسلام، إن الله جميل يحب الجمال، ويقسمون ذلك إلى جمال داخلي، روحي، قابل للبقاء، وجمال ظاهري معرض للزوال لا محالة. وكان الاليريون يبنون مساكنهم على ضفاف الأنهار، فهي شواطئهم عند المصيف وهي مكان سمرهم في الشتاء، حيث يوقدون النار ويتجمعون حولها على مقربة من الينابيع أو ممرات الأنهار. وقد زاد شغفهم بالماء بعد دخولهم الاسلام حيث تتوفر المنازل العتيقة التي بنيت منذ القرن الخامس عشر وحتى التاسع عشر على ساحات داخلية بها نافورات ماء تستخدم للزينة وللوضوء. وإذ كنت من زائري توزلا في الربيع أو الصيف فلا تنس زيارة بحيرة توزلا الصناعية أو بحيراتها، واستئجار مركب صغير يعمل بمحرك للوصول إلى ضفافها والتحدث لسكانها المضيافين الكرماء، والاستمتاع بلحظات جميلة وسط غناء الطبيعة وعطائها الوافر. ويعد فندق توزلا من المعالم البارزة في المدينة، وهو ينتصب في قلب المدينة ويطل على جميع مرافقها وهو من فنادق الدرجة الأولى رغم تواضع أسعاره، وسهولة الوصول إليه فهو يبعد 6 كيلومترات عن المطار الدولي بتوزلا، و5 دقائق عن محطة الحافلات لمن لا يملك وسيلة نقل خاصة. وتوجد مواقف خاصة لسيارات نزلاء الفندق. كما تنتشر الفنادق من مختلف الفئات في تلك المنطقة . أما تاريخ المدينة فقد شهد عدة محطات، حيث عكر الرومان على أهل توزلا هدوءهم وحياتهم المستقرة، بعيدا عن الحروب، فبعد احتلال البوسنة من قبل الرومان في القرن الخامس، تم ربط مدينة توزلا بمنطقة دالماسيا الكرواتية على البحر الادرياتيكي، والتي كانت في القرن الثاني عشر تابعة للبوسنة، في عهد الملك تفرتكو. وعندما قدم العثمانيون إلى المنطقة وفتحوا البوسنة عام 1463 قاموا ببناء العديد من المدن أو قاموا بتوسيعها مثل توزلا، سريبرينتسا، جردتشانيتسا، بيالينا، زفورنيك، صابنا وغيرها من البلدات. وتعد الآثار العثمانية اليوم من أهم الروافد السياحية في البوسنة، بما في ذلك توزلا. ومنها ساحة تشرشيا، وحاجي حسانوفا وكورتشومليا، والمعالم الحضارية في كلادن وغرديتشاس وغيرها. وإلى جانب انتاج الفحم الحجري الذي يمكن للزائر الوقوف على طريقة استخراجه وتصنيعه، الذي بدأ استخراجه في سنة 1888. وتنتج توزلا كميات تجارية كبيرة من الملح، وهو من العلامات المميزة في المنطقة، ويصدر إلى العديد من الدول في العالم بما فيها دول عربية. وقد بدأ الانتاج في سنة 1885 وأقيم أول مصنع متقدم سنة 1891 في منطقة كريكي، ويعمل في القطاع 30 ألف عامل،ومصنع الصودا،في لوكافاتس،ثم مصنع البتروكيميات، وفي 29 أبريل سنة 1886 تم مد السكة الحديد. كما تزدهر في توزلا صناعة الأخشاب.

كما يوجد في توزلا جامعة علمية مرموقة أسست عام 1976، ويمكن للزائر الاطلاع على متحف المدينة، ومكتبتها الزاخرة بالمؤلفات المتعددة ويمكن التعريج على المسرح الذي يقدم باستمرار الجديد من المعالجات الثقافية الابداعية لما يدور داخل المجتمع من تفاعلات داخلية وخارجية، ومعارض الصور التي تقام بشكل دوري في توزلا. وفي 22 سبتمبر 1878 تعرضت توزلا لحملة نمساوية مأساوية قتل فيها عدد كبير من المدنيين بعد ثورتهم ضد الاحتلال النمساوي،وكان قائد المقاومة الشيخ محمد وهبي شمس الدين. ولأن المقاومة انطلقت من توزلا، فقد اتخذها النمساويون قاعدة عسكرية لهم. ولا تزال آثار تلك القاعدة بادية إلى اليوم،ولكنها آثار يزورها السياح، من جملة العابرين الذين عرفهم التاريخ، مسجلا أسماء البعض ومتجاهلا أسماء الآلاف وربما الملايين، وحتى من سجل أسماءهم ليسوا سواء،فبعضهم في سجلات من ذهب، وآخرون في مزبلته. عرفت توزلا في العهد النمساوي، تغييرات كبيرة، فقد انخفض مستوى المعيشة إلى 50 في المائة، كما تشير المصادر التاريخية،إضافة لشهود هجمة ديمغرافية حيث تزايد عدد الكروات في المدينة،مقابل هجرات للبوسنيين إلى تركيا ودول عربية واسلامية أخرى، ويوجد حاليا أعداد مختلفة من البوشناق في الدول العربية في المغرب والمشرق على حد سواء. ولم يوقف سيل الهجرة سوى فتوى المفتي محمد توفيق عزت باغيتش، الذي طلب من السكان عدم ترك منازلهم وأفتى بحرمة ترك الديار. وفي 1918 بقيت توزلا كما هي، ولكن المملكة الصربية الكرواتية السلوفينية، التي تحولت فيما بعد إلى المملكة اليوغسلافية، غيرت في حدود المناطق التابعة لتوزلا ومن ثم البوسنة. وفي 1929 حصلت تغييرات أكبر فخلال حكم الطاغية الالكسندر كراجورجوفيتش، تم تقسيم إقليم توزلا إلى 4 مقاطعات، فرباسكو، بريتشكو، يريمورسكو، زاتشكو، وفي تلك الفترة تمت مصادرة ممتلكات البوشناق الذين أصبحوا فقراء بعد سالف الغنى والمجد. وبعد الحرب العالمية الثانية وقيام يوغسلافيا الاتحادية 1945 / 1992 تم تقسيم توزلا إلى 19 بلدية، وشهدت المدينة تحولات اقتصادية لكنها أقل مما كان يجب أن يحدث، فالقليل من عائدات انتاجها كان يصرف على تنميتها، بينما كان القسط الأكبر يذهب إلى المركز في بلغراد، أو الأجنحة القوية في زغرب ولوبليانا وغيرها. وفي العدوان الذي تعرضت له البوسنة سنة 1992 ـ 1995، على إثر الاستفتاء الناجح للاستقلال في 29 فبرير و1 مارس 1992 حيث صوت 64 في المائة لصالح الاستقلال، قتل 25 ألف مدني في توزلا وهجر ما يزيد على 250 ألف من النساء والأطفال ومر 25 ألفا على المعتقلات الجماعية. ومع ذلك استمرت الحياة، ويوجد اليوم في توزلا 10 روضات و87 مدرسة ابتدائية بها 60 ألف طالب و35 مدرسة ثانوية بها 24 ألف طالب وجامعة علمية بها 6 آلاف طالب، وأماكن للرياضة وللراحة والاستجمام. آه نسيت القول ان سكان توزلا يزيد عددهم على سكان جمهورية الجبل الأسود فهم قرابة 800 ألف نسمة مقابل 700 ألف في منتنغرو. كانت هذه جولة سياحية وتاريخية في مدينة توزلا البوسنية، على أمل اللقاء في جولة قادمة.