متحف «قلعة البحرين» يحيي الذاكرة المطمورة بين الرمال

فيه تلتقي بغلغامش ودلمون وتايلوس

جانب من المتحف يظهر فيه الجدار الذي يتوسط الصالة (الصور لـ «الشرق الأوسط»)
TT

قد يرى البعض ان السياحة في دول الخليج لا تسمح إلا بزيارة المخازن الكبرى والتسوق من الماركات العالمية وارتياد المطاعم الفاخرة وتذوّق أطيب أطباق السمك. قد يصحّ هذا الأمر، لكن أكثر ما يجهله هؤلاء هو أن إحدى هذه الدول، وهي مملكة البحرين، تزخر بالكثير الكثير من الآثار التي ترقى إلى حقبات ما قبل الميلاد. لا بل يمكن القول إن هذه المملكة في جزئها الصحراوي تشبه بشكل ما أراضي الأساطير، حيث تتمتع الصحاري بـ«سحر» ما يجذب الفضوليين والباحثين عن «كنز» مدفون بين الرمال الذهبية.

في شمال جزيرة المنامة، وهي واحدة من أرخبيل المملكة المؤلف من ثلاث وثلاثين جزيرة، تقع «قلعة البحرين». وبخلاف السائد، ان هذه القلعة قديمة جدا ولا تعود فقط الى حقبة الاستعمار البرتغالي للبحرين، وإن كان له دور رئيسي في توسيعها والاهتمام بها لأهداف عسكرية. فالأبحاث والاكتشافات التي بدأت منذ عام 1954، مع البعثة الدانماركية، أظهرت وتظهر تعاقب حضارات متنوعة على هذه الرقعة التي أدرجتها منظمة «اليونسكو» في عام 2005 ضمن قائمة التراث العالمي.

أما سبب تعاقب حضارات مختلفة، فيرجع الى موقع البحرين الاستراتيجي كونها تربط غرب القارة الآسيوية بشرقها وتشكل نقطة جغرافية مهمة في الوصول الى شبه الجزيرة الهندية، إضافة إلى كونها تربط بلاد ما بين النهرين بالهند. وبتحوّل الجزيرة نقطة مرور جوهرية، لا بل ورقة أساسية للسيطرة على طرق التجارة والمواصلات، باتت محطّ الأنظار طوال قرون وهذا ما جعلها تغتني بآثار حضارات مختلفة كما تظهر الحفريات. ويضاف الى موقع الجزيرة المميّز، تمتّعها بالمياه ما أتاح ازدهار الزراعة وما تستتبعه من استقرار في حياة السكان، فضلا عن اشتهارها بصيد اللؤلؤ. وبالعودة الى المكان، دشّن قبل بضعة أشهر متحفٌ شيّد على مسافة قريبة جدا من القلعة الأثرية، وذلك وفق تصميم عصري يسمح بتلاقي الضوء والهواء، ورؤية ذكية تتيح للزائر التعرف الى الحقبات الخمس الرئيسية عبر طريقة ترتيب اللُقى الأثرية وعرضها. وقد اختار القيمون، شركة «ولهرت» الدانماركية للهندسة، وهي الشركة نفسها التي صممت القصر الملكي في كوبنهاغن، فيما يترأس بعثة التنقيب الفرنسية عالم الآثار الدكتور بيار لومبار منذ عام 1989، وهي تركز في أبحاثها على المراحل المتأخرة من حضارة دلمون (1500 ـ 500 ق.م).

بداية، لا بد من الإشارة إلى أن هذا المتحف وهو الثاني في البلاد، يقسم إلى قسمين تفصل بينهما باحة مصممة بشكل يشعر الزائر بالهواء الطبيعي بفضل الأبواب ـ النوافذ والسقف المفتوح. والى اليمين، يقع المقهى وأقسام الإدارة والغرف المخصصة لإقامة علماء الآثار واوديتوريوم معدّ لاستقبال نحو 45 شخصا. والى اليسار، رتبت الآثار المكتشفة بشكل واضح، يفصل بينها جدار كبير صمّم ليكون دليلا اثريا أو واجهة تعرض الطبقات الخمس الرئيسية التي تعود كل منها الى حضارة معينة، وكأنه بذلك يمثل مجسما حيا ويضفي على المكان «هيبة التاريخ» ويلخص ذاكرة البحرين التي تمتد من ألفي سنة قبل الميلاد وحتى الفترة الإسلامية. وقد استعملت في بنائه حجارة تراثية وأخرى مكتشفة في المكان.

أولى الحقبات تعود الى حضارة دلمون التي شكلت البحرين عاصمتها، والتي تقسم إلى 3 فترات رئيسية: دلمون الباكرة، دلمون الوسطى، دلمون المتأخرة. من الألفية الثالثة قبل الميلاد الى القرن الثالث قبل الميلاد.

تليها حقبة تايلوس التي تمتد من عام 300 قبل الميلاد إلى 400 بعد الميلاد، وختاما الحقبة الإسلامية التي تمتد من القرن الثالث عشر ميلادي الى السابع عشر ميلادي.

تقول المسؤولة عن المتحف نادين بقسماطي فتوح خلال الجولة الاستطلاعية لـ«الشرق الأوسط»: «يهمنا ان يدرك الناس ان هذه القلعة تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وأنها تحوّلت في القرن الرابع عشر بعد الميلاد إلى قلعة عسكرية وذلك خلال الحقبة الإسلامية».

يبلغ العدد الإجمالي للمقتنيات المعروضة نحو 450 قطعة. تبدأ مع الأواني الفخارية والأختام الدلمونية والرسوم والنقوش التي تعكس البيئة الدلمونية والأدوات المستخدمة في تلك الحقبة. وهناك لوحات طينية عليها كتابات مسمارية تمثل الأرشيف خلال الحكم الكاشي للمنطقة في حضارة دلمون. وفي ذلك العهد وسع المعبد، من هنا يعتقد العلماء ان الدين كان له وقتذاك، على غرار الحقبات الأخرى، أهمية كبرى. وهذا ما يفسّر مثلا العثور على تماثيل صغيرة جدا في الأرجاء كانت تمثّل تقدمات المصلين للآلهة، بما انه لم يكن متاحا للعامة الوصول الى كل مكان في المعبد. ومن الأمور التي عرفت عن هذا الحكم، ان الناس كانوا يدفنون موتاهم تحت البيوت مع بعض المقتنيات «المهمّة»، وهذا دليل آخر على إيمانهم بحياة ثانية ما بعد الموت. كذلك عرضت قطع تظهر أهمية التجارة منها الختم وقطع أخرى كانت تستخدم في المقايضة، فضلا عن المعروضات التي تدلّ على النشاط الحرفي وتفوّق أهالي البحرين القدامى.

ومن المقتنيات المثيرة للإعجاب، أوعية فخارية تعود الى القرن السادس قبل الميلاد، وضعت تحت الأرض وفوقها واجهة زجاجية فيها آثار أفاعٍ كانت تقدّم ذبائح بما أنها ترمز الى الخصب والتجدد في ذاك العهد. ومن الروايات المتداولة ان حضارة دلمون التي شهدت مجيء البطل الأسطوري غلغامش، الذي أتى إلى البحرين بحثا عن «زهرة الخلود» أو «لؤلؤة الخلود»، وبعدما حصل عليها أكلتها الأفعى حين كان نائما. من حضارة دلمون ينتقل الزائر الى حضارة «تايلوس»، وهو الاسم الإغريقي الذي أطلق على الجزيرة خلال فتوحات الاسكندر. وفي هذه المرحلة يظهر واضحا تمازج التأثيرين الإغريقي والمحلي من خلال اللقى المختلفة المكتشفة. هناك مثلا قطع خزفية وأدوات للخياطة والصيد وغيرها من القطع التي تستخدم في الحياة اليومية. وهناك نوعان من الكتابة: اليونانية اللغة الرسمية المعتمدة، والآرامية القديمة وهي لغة سورية الطبيعية. ومن أجمل الآثار، الشواهد التي توضع على مقابر الأغنياء والشخصيات المهمة، والتي تشبه المجسمات الصغيرة لصورة الميت وأحيانا تكون مذيّلة ببعض الكتابات.

ومن تركات فتوحات الاسكندر، تظهر جليا جهوده المبذولة لتوحيد العملة التي لم تنجح كليا، لأن السكان الأصليين كانوا يحاولون المحافظة على هويتهم عبر الإصرار على استخدام عملاتهم ولغتهم.

ومن حقبة تايلوس وحكم الاسكندر، الذي يشوبه طيف من التأثير الفارسي، يصعد الزائر إلى الجزء الأخير المخصص لعرض الفترة الإسلامية. وفي أي حال من الأحوال، يزخر المتحف بقطع واوانٍ فخارية تشير بوضوح إلى العلاقة التجارية بين البحرين والصين من جهة وبينها وبين بلاد فارس من جهة أخرى. كذلك هناك أسلحة للرمي ومنجنيق يعيد تصوير ملامح من تلك الحقبة الغابرة. وهذا دليل إضافي على الفتوحات المتلاحقة التي شهدتها البحرين بسبب غناها بالموارد وموقعها الاستراتيجي.

يخرج زائر أي متحف وفي رأسه فصول من التاريخ تختزل آلاف السنين، فيكون قد تلقى درسا غنيا بالمعلومات والأفكار في إطار زيارة مسلية ومفيدة معا. وهذا تماما حال زائر متحف البحرين، حيث تتعايش حقبات التاريخ في بلاد يبدو أنها تحسن قراءة تاريخها لتحسن استشراف مستقبلها.