قصبة الأوداية في الرباط.. صمت المكان وروعة البنيان

متعة التنزه في رحاب التاريخ

سياح يستمتعون بأجواء قصبة الأوداية
TT

الصعود من مدينة الرباط، مشيا على الأقدام، إلى حي قصبة الأوداية الأثري، هو صعود لملاقاة الروح، ومناجاة النفس، والابتعاد عن صخب المدينة.

فهذا المكان الأثري الضارب في عمق التاريخ،يعتبر من أجمل الأماكن الغارقة في السكينة والهدوء. كثيرون يحجون إليه للجلوس مع ذواتهم، أو مع أصدقائهم، وأفراد عائلاتهم، متأملين ملكوت الله، الممتد امام ناظريهم.

هنا، عند المصب، يلتقي الوادي والبحر: نهر أبي رقراق والمحيط الأطلسي، حيث يتلاشى الموج الصغير في جوف الموج الكبير، بعد رحلة عبر الحقول والسهول.

ثمة زوارق صغيرة زرقاء، تبدو مرمية فوق صفحة الوادي، دون حراك كجثث بدون أرواح، «في ليلة ضاع فيها المجداف والملاح»،حسب التعبير الغنائي، بصوت كوكب الشرق، أم كلثوم في أغنية «هذه ليلتي».

كانت هذه القوارب الصغيرة في الماضي، أشهر وسيلة لتنقل السكان بين العدوتين: الرباط وسلا، أو للقيام بالنزهات والرحلات الربيعية والصيفية، على ضفاف الوادي، الذي طالما ترددت فوق أمواجه حكايات حب، وقصائد غزل، قبل أن يدور الزمن دورته، وتتوقف حركة إبحار القوارب في انتظار انتهاء أشغال تهيئة ضفة الوادي.

يتوصل أصحاب هذه القوارب حاليا، بتعويضات شهرية معينة، حسب مصدر مقرب من وكالة تهيئة أبي رقراق،لكن حنينهم إلى استئناف عملهم اليومي المعتاد،يظل مشتعلا في أعماقهم،مثل جذوة من الشوق لا تنطفئ أبدا.

تعتلي قصبة الأوداية، بكل شموخ هضبة صخرية عالية، تتيح لزائرها أن يتمتع برؤية بانورامية شاملة، دون الحاجة إلى عدسة مقربة.

ضريح محمد الخامس، وصومعة حسان، والرباط وسلا وشالة، كلها معالم فاتنة وجميلة، خاصة في المساء حين يغرق المشهد برمته، وسط كتلة من الأضواء والظلال المتماوجة على صفحة الوادي، كنجوم هبطت من السماء إلى الأرض.

وقلعة الأوداية لم تنبت فجأة، مثل البنايات الجديدة التي صارت كالفطر، كل يوم عمارة أو إقامة سكنية، تفتقر لأبسط مقومات الانتماء إلى الهندسة العربية والإسلامية.

إن وراء الأوداية تاريخا عريقا، كقلعة عتيقة موغلة في الزمن السحيق، عاشت عدة مراحل وتحولات. لقد كانت حصنا حصينا أنشأه المرابطون، واهتم به الموحدون، وأضافوا إليه بعض المرافق، وكذلك فعل العلويون، هذا ما تستخلصه القراءات في الكتب والمرجعيات التاريخية باختصار شديد.

وما زالت فوهات المدافع المنصوبة فوق الأسوار، تحكي صفحات من تاريخ جهاد الأجداد، وخروجهم للمعارك.

وتكاد الأقواس والأبواب والممرات المزخرفة بالنقوش، تنطق بلسان فصيح لتروي للأجيال ما عاشته من ملاحم تاريخية.

والقلعة التي كانت بالأمس البعيد تضج برائحة البارود، غدت اليوم تجمعا سكنيا، ومزارا سياحيا، وموقعا أثريا، ضمن لائحة التراث الإنساني العالمي، الذي توصي به منظمة «اليونيسكو» خيرا.

ولقصبة الأوداية طراز معماري عربي أندلسي، يتجلى في الكثير من أبوابها وأركانها وحديقتها الظليلة الفيحاء، المزدانة بالزهور والورود والنافورات المتدفقة بالماء.

وهذا من تأثير تفاعلها مع الموريسكيين، الذين قدموا إليها من «الفردوس المفقود» بحضارتهم وفكرهم وفنهم وهندستهم، فاستقروا فيها، واندمجوا في مجتمعها، ومنحوها من لمساتهم، بكل سخاء، الشيء الكثير.

يمكن الدخول إلى الأوداية من «الباب الكبير»، وهو بالفعل اسم على مسمى، ما أن يجتاز الزائر عتبته، حتى تنفتح أمامه عوالم غير مألوفة بالنسبة إليه.

الشرفات الصغيرة المشرعة للسماء تتدلى منها أغصان الأغراس والورود وعرائس الرياحين، والنباتات تتسلق الجدران، وتضفي عليها هالة من الخضرة. والبيوت واطئة يتكئ بعضها على بعض، مجسدة صور التعاضد والتعاطف الاجتماعي، في أجمل معانيه بين السكان،الذين يبدون حريصين جدا على نظافة البيئة.

الأزقة ضيقة ومتقاربة، ويسودها اللونان الأزرق والأبيض، مما يعطيها مسحة من الإحساس بالألفة وشغف الاشتياق.

السكينة تلف القصبة من كل جانب، بغلالتها الشفافة، فتضفي عليها أجواء لطيفة من الشاعرية، وتحميها من صخب العاصمة وهديرها اليومي.

هنا كل شيء ينساب برقة وهدوء مثل سمفونية موسيقية يعزفها بيتهوفن أو «باخ». لا معامل، لا ورشات، لا حافلات، ولا دخان، ولا عادم سيارات، ولا تسابق بين سيارات الاجرة.

قصبة الأوداية معلمة معمارية لها قيمة حضارية وتاريخية وجمالية، وهي بموقعها وتكوينها الهندسي القديم تعطي الانطباع بأنها تأبى الانخراط في النسيج العمراني الحديث لمدينة الرباط، وكأنها امرأة متمردة معتزة بذاتها وكيانها، ترفض التبعية والانصياع لتقاليد العائلة، فبقيت في مأمن من الزحف الإسمنتي المسلح الذي يغزو العاصمة، محافظة على روحها، متمسكة بعذريتها.

لذلك يرتادها الرسامون والمصورون والموسيقيون والشعراء، ويتخذون منها مسكنا، ومهبطا لإلهامهم، وعنوانا لسكناهم.

ومن أشهر الأسماء التي ارتبطت بها، لفترة طويلة من حياتها الفنية: المحجوبي أحرضان، الزعيم السياسي، والفنان التشكيلي، والرسام محمد بناني، صاحب الأسلوب والبصمة المتميزة في مضمار التشكيل، والإخوة محمد وحسن ويونس وجليلة، أعضاء مجموعة «ميكري» الموسيقية التي أوجدت ثورة في الموسيقى المغربية في عقد السبعينات من القرن الماضي، والفنان الميلودي نويجا، الذي أنشأ فيها، مع زوجته الفنانة الفرنسية، دومينيك، قاعة للعرض التشكيلي، وخلدها بعدسته الذكية، في كتاب ملون ضخم، وفي صور وبطاقات بريدية يتهافت السياح على اقتنائها وإرسالها إلى بلدانهم، عربونا على افتتانهم بهذه القصبة، التي لا تكتمل الرحلة السياحية إلى الرباط إلا بزيارة معالمها.

ويقول الرسام نويجا الذي ولد في مدينة الدار البيضاء، وترعرع في باريس، إنه وجد وزوجته الفرنسية ضالتهما المنشودة في الأوداية: «شيء ما يشدك إليها بوثاق سحري، فلا تستطيع منه فكاكا، أستيقظ الصباح، فأكتشف أنها جادت علي برؤية متجددة للحياة» تؤيده زوجته بإيماءة من رأسها.

«إذا كنتم في الرباط فلا تنسوا زيارة مقهى الأوداية»:نصيحة من الأستاذ العربي الرباطي والباحث المغربي المتخصص في تراث الأوداية. إنه يعرفها كما يعرف خطوط كفه.

وبالفعل، ولكي يستريح الزائر أو السائح من عناء التجوال في قصبة الأوداية، ليس هناك أحسن من الجلوس في مقهاها الوحيد، الذي يتميز هو الآخر بمشهده الأثري العتيق، وبكؤوس الشاي المغربي بالنعناع، على الطريقة التقليدية، مع قطع من الحلوى يقدمها نادل مرتدياً لباساً أصيلاً بطربوش أحمر، انسجاما مع المكان، الذي يطل على مدينة سلا وشاطئ أبي رقراق.

المقهى بسيط جدا، ويستقطب يوميا مئات السياح، الذين سرعان ما يؤخذون بسحر فضائه، فيطلقون العنان لكاميراتهم وعدساتهم لالتقاط الصور التذكارية، وسط قهقهاتهم،التي تعلن عن ابتهاجهم بلذة الاكتشاف.

وفي ركن قصي من أركان المقهى، تجلس شابة مغربية تنقش كف سائحة بالحناء، مقابل مبلغ مالي رمزي صغير، بينما تتمدد بجانبها قطة مسترخية تحت أشعة الشمس، تنعم بالأمان والاطمئنان.

بعد الخروج من المقهى، تبقى أمام الزائر خطوة ليختم بها جولته عبر الأوداية، هي متحف الأوداية للحلي الذي يشكل ذاكرة حقيقية للتحف الفنية المغربية، وهو مفتوح دائما في وجه الزوار المحليين والسياح الأجانب على السواء، ويتسم بتعدد قاعاته، وجمالية بنياته ومعماره ولا غرابة في ذلك، فهو في الأصل قصر صغير، تم بناؤه في عهد أحد ملوك المغرب الأقدمين، هو السلطان مولاي إسماعيل.

إن المعروضات في هذا المتحف،من ملبوسات ومنسوجات وأزياء تقليدية وقلائد ذهبية وجواهر تشهد بما للصناع التقليديين والحرفيين المغاربة المهرة، من أنامل ذهبية، استطاعت أن تثري تاريخ الإبداع الفني لثقافة التزيين واللباس الباذخ بلمسات، ما زالت حتى اليوم تلهم مصممي الفساتين المغربية صورا من التجدد والابتكار.

ولا يتعلق الأمر بعرض أزياء النساء فقط، فإن للرجال أيضا نصيبهم من الاهتمام والعناية بهندامهم، من خلال عرض ألبسة تحيل على زمن الأصالة المغربية والهوية الحقيقية ذات الانتماء العربي والإسلامي والأمازيغي والأفريقي.

هذه هي الأوداية، كانت وما زالت ملتقى الحضارات والثقافات، وحقلا خصبا للإبداعات والفنون، وفضاء للهدوء والسكون.