صقلية.. سحرها في مزجها بين الماضي والحاضر

مدينة الفوضى الجميلة

صقلية مزيج من الماضي والحاضر («الشرق الأوسط»)
TT

إذا سألت مجموعة من القراء عن كتاب لامبدوسا «ليوبارد»، ستجد بعضا منهم يقولون لك إنه كتابهم المفضل، بينما سيقول لك البعض الآخر إنه لم يسمع عن هذا الكتاب أو ربما يسألك إن كان لهذا الكتاب علاقة بفيلم فيسكونتي الذي قام ببطولته برت لنكستر (وبالطبع يوجد علاقة بين الاثنين). وأعتقد أنه من الممكن أن تجيب مجموعة من المسافرين بنفس الطريقة إذا سألتهم عن صقلية، وهي الجزيرة الساحرة المذكورة في «ليوبارد»: فهي إما أن تكون مكانا مفضلا لهم، أو أنهم لم يفكروا حتى في الذهاب إليها.

ولكن هل هذه المصادفة مهمة؟ في رأيي إذا أحببت الرواية أو (الفيلم)، فإنه ينبغي عليك أن تبدأ في التخطيط لرحلتك على الفور. ولكنك لن تجد صقلية التي وصفها لامبدوسا، بل ستجد الحنين الرومانسي الذي ساد في هذه الرواية وهو ما زال يميز الجزيرة التي تحمل عبء التاريخ المأساوي وتتحلى بجمال مذهل بدأ في الذبول.

ورث غيوزيبي توماسي دي لامبدوسا (1896-1957) قصرا في باليرمو (وكان أميرا)، ولو لم يتم تدمير هذا القصر بقنبلة الحلفاء في الخامس من إبريل عام 1943، لرمم هذا القصر تكريما لصاحبه الذي ألف رواية وحيدة نشرت بعد وفاته في عام 1958 وهي من أكثر الكتب المفضلة في إيطاليا.

تتناول رواية «ليوبارد» انهيار أسرة صقلية من النبلاء. يعي كبير العائلة، فابريزيو أمير سالينا (المستوحى من شخصية جد لامبدوسا الأكبر الأمير غوليو) هذا الانهيار. وفي باليرمو في أوائل الستينات من القرن التاسع عشر، وأثناء السنوات المضطربة تحت قيادة غاريبالدي عندما اتحدت صقلية مع إيطاليا المتحدة، تستدعي الرواية عقد حلقات دراسية للتأمل في التحولات السياسية والاجتماعية. (وكان أشهر سطر على لسان فابريزيو: «إذا أردنا أن تظل الأشياء كما هي، فإن عليها أن تتغير»). ولكن على الرغم من إثارتها للخلافات حول تاريخ صقلية، إلا أن معظم القراء يؤخذون بجمال الرواية وبشخصية الأمير ذاتها.

إن دون فابريزيو بحكمته وحيرته، بصرامته وتسامحه، بولائه ووحدته، رفيق لا يمكن الاستغناء عنه أثناء التجول في صقلية. فهو إحدى الشخصيات الأدبية التي لا يمكن نسيانها، التي تبدو حقيقية أكثر من أشخاص قابلناهم بالفعل. أما السمة المميزة للأمير فهي الكرامة، وهي نتيجة لرؤيته الواضحة لذاته. فهو يدعي أنه لا يعيش في أوهام، وأنه ليست لديه القدرة على خداع الذات. وهو ينظر في ذاته وفي صقلية بأمانة خالصة. ولكي ترى صقلية بوضوح، على طريقة أمير سالينا، فإن عليك أن تبدأ بمشاهدة الفوضى في باليرمو والمرور الذي لا يخضع لأي قوانين والقمامة والضوضاء وبعض المخاطر الغريبة الأخرى. وعليك ألا تشعر بالنفور فهي مدينة جميلة تمتلئ بآثار معمارية وفنية تعود إلى جميع القرون الماضية، وهي تقع ما بين الجبال الضخمة والبحر التيراني. وعلى الرغم من الفوضى التي تعيش فيها إلا أن باليرمو تعتبر مدينة صغيرة الحجم. وفي قلب المدينة في (فيا روما)، يمكنك أن تنظر إلى الشمال وترى عند نهاية الطريق «المنحدرات» التي تميز آخر البلدة. وإذا التفت إلى الجنوب، سترى مثل ذلك أيضا. عندما أراد لوشينو فيسكونتي تصوير الحفلة الرائعة في نهاية فيلم «ليوبارد»، اختار قصر فالغوارنيرا وغانغي على الطراز الباروكي في (بيازا كورس دي فيسبري)، وهو يبعد عن (فيا روما) بدقيقتين. هناك كانت القاعة التي رقص فيها الأمير، برت لنكستر، مع كلوديا كاردينال، بينما كان خطيبها آلان ديلون يشاهدهما.

للأسف هذا القصر الآن ليس مفتوحا للعامة، ولكن من أجل الحصول على فكرة جيدة عن الحياة الأرستقراطية في باليرمو يمكنك السير في الشوارع الخلفية باتجاه مدخل قصر ميرتو. وإذا توقفت دقيقة أمام البوابات، سترى حولك سحر وإحباط باليرمو. فإذا نظرت إلى شعار أمراء ميرتو ستجده نسرا ذا رأسين محفورا على حجر لونه عسلي فوق البوابات الضخمة. (أما شعار أمير سالينا فكان النمر ليوبارد واقفا). وعلى يسار البوابات تجد كاميرا مراقبة. وعلى اليمين تجد أحد شوارع باليرمو النموذجية مرصوفا وبه شرفات ونظيفا على غير العادة وتتدلى الملابس المغسولة من الحبال في شرفاته. وخلفك توجد السوق التي تقدم الحلي الصغيرة، بالإضافة إلى كنوز قليلة لا تقدر بثمن.

وفي داخل قصر ميرتو، الذي تسلمته الدولة عام 1982 من آخر وريث للعائلة، مجموعة من الغرف الفخمة مثل قاعة الرقص الكبرى التي وصفها لامبدوسا في «ليوبارد» بأن كل شيء فيها ذهبي: الأركان وإطارات الأبواب، «وكأنها صندوق مجوهرات منعزل عن العالم الحقير». من السهل تخيل أنه حتى بعد مرور 145 عاما، ما زالت تفوح من قصر ميرتو رائحة «العظمة الجائرة بعض الشيء»، كما وصف لامبدوسا منزل أمير سالينا والأرستقراطية الصقلية عامة حوالي عام 1860. إن هذه الغرف اليوم محفوظة، ولكن يعلو التراب حوافها البالية. وقد شاهدت أحد المرشدين يشير أمام سائح إيطالي إلى صورة داكنة لرجل ذي شارب قائلا: «هذا هو الأمير الأخير».

أما القصر الذي ظهر في «ليوبارد» فليس في باليرمو ولكن على بعد 45 ميلا أو أكثر في الشمال الغربي في مدينة أطلق عليها لامبدوسا اسم دونافوغاتا. وقد استوحاها من إقليم سانتا مارغريتا دي بيليس، حيث كان يمضي إجازاته الصيفية عندما كان طفلا في قصر فيلانغري كوتو، وهو يعود إلى القرن الثامن عشر وكان ملكا لعائلة والدته. وكان هذا القصر، المستقل بذاته، بالنسبة له «كالفاتيكان» وقد ذكر أن حديقته مثل «جنة الروائح الطيبة».

في العقد الأول من القرن العشرين، عندما كان لامبدوسا طفلا، كانت الرحلة من باليرمو إلى سانتا مارغريتا تستغرق 12 ساعة، نصفها بالقطار والنصف الآخر بعربة يجرها حصان. وفي «ليوبارد»، عندما قام الأمير وعائلته بنفس الجولة في آخر شهر أغسطس (آب) عام 1860، كانت مغامرة صعبة استمرت لمدة ثلاثة أيام وكان يقوم بهذه المغامرة قافلة تتكون من خمس عربات تسير في طرق موحشة. الآن لا تستغرق الرحلة إلى سانتا مارغريتا أكثر من ساعة، فالطرق جيدة وتقريبا فارغة، والمناظر خلابة. عندما نظر الأمير إلى ما يسميه بـ«صقلية الحقيقية» –وهي المنظر الطبيعي المحيط بدونافوغاتا – وجدها «متموجة خالية من الحياة، رابية وراء رابية، غير مريحة ..ليس لها حدود يستوعبها العقل، يمكن فهمها في لحظة إبداع انفعالية؛ بحر تحجر فجأة في اللحظة التي أثار تغير الرياح جنون أمواجه».

إن وصف لامبدوسا مبالغ فيه لإحداث الأثر الشعري في النفس، ولكنه كان دقيقا لدرجة كانت لترهب المؤلف عند اكتشافها. ففي عام 1968، بعد عام من وفاته، تزلزل هذا البحر المتحجر مجددا، حيث ضرب زلزال سانتا مارغريتا ودمرها تماما.

وعندما زار دافيد غيلمور مؤلف سيرة لامبدوسا الذاتية البلدة المعاد بناؤها في أواخر الثمانينات من القرن العشرين، بعد 20 عاما من الزلزال، كان القصر مشهدا يدل على الدمار، حيث ظلت أنقاضه كما هي. واليوم بعد مرور 20 عاما تقريبا، تم ترميم الواجهة. ولم يعد القصر متهدما، ولكنه لم يعد جميلا، فقد ذهب المبنى الرائع الذي أعجبنا في الصور القديمة إلى الأبد. وما زالت بيازا تحت الترميم.

يوجد داخل الجزء المرمم في القصر متحف صغير، باركو ديل غاتوباردو، مخصص للامبدوسا، وغرفة علوية بها مخطوطات لرواية «ليوبارد» معروضة في صناديق زجاجية مع نسخ أجنبية من الرواية، وصور عائلية وصور لسانتا مارغريتا قبل الزلزال. ويوجد بالأسفل مقهى ربما يكون أكثر المقاهي كآبة في صقلية. قد يبكي دون فابريزيو لو رأى هذا.

أثناء سيره في شوارع دونافوغاتا في الصباح الباكر، ملاحظا فقر سكان البلدة، توصل الأمير الحزين إلى أنه: «لا ينبغي أن يستمر كل هذا، ولكنه سيستمر دوما. ودوما تعني لدى البشر قرنا أو اثنين.. وبعد ذلك سيختلف الوضع، ولكن للأسوأ. لقد كنا نمورا وأسودا؛ ولكن الذين سيحلون مكاننا سيكونون ضباعا. وجميعنا نمور وضباع وخراف سنظل نظن أنفسنا الأفضل».

ربما تظن أن الوقوف في الصباح والنظر إلى بقايا قصر فيلانغري كوتو ستكون تجربة كئيبة. أما معنى «دوما» لدى البشر، فقد كان هشا لدرجة لم يتخيلها الأمير المتشائم. ولكن يتم الآن إصلاح سانتا مارغريتا، عن طريق ما وصفه لامبدوسا بتيار صقلية البطيء لحل المشاكل، لتصبح بلدة على التل ينعشها النسيم المعتدل حتى في شهور الصيف الحارة، إنها البلدة التي يمكنك أن ترى من أي شارع فيها السماء الزرقاء. ويقبع خلف كل هذا كما يخبرنا الروائي الكبير: «الصمت السحيق لصقلية الريفية». قصور تمثل المعمار الباروكي الوصول إلى هناك تقدم شركة أليتاليا للخطوط الجوية، وبعض الشركات الأخرى التي أدرجت حديثا على قوائم البحث، رحلات جوية يومية مع وسيلة للوصول إلى روما. وإذا كنت تريد استئجار سيارة، فكن حذرا، فقيادة السيارة في أرجاء باليرمو تمثل تحديا كبيرا، بسبب عدم الالتزام بالقواعد المتعارف عليها دوليا لقيادة السيارات وعشوائية إشارات المرور. وتعد السيارة الخيار الأمثل لأي مكان في الجزيرة. أماكن الإقامة إذا كنت تبغي الرفاهية في باليرمو، فيمكن حجز غرفة في فندق «سنترال بالاس» (www.angalahotels.it - 39-091-336-666)، كما يمكنك الذهاب إلى «كورسو فيتوريو إمانولي»، وهو مبنى يعود للقرن الثامن عشر أعيد ترميمه عام 2003، وتتكلف الغرفة المزدوجة نحو 190 يورو (302 دولار بسعر 1.59 دولار لليورو). وهناك فندق «أوكسيارهوم» (www.hotelucciardhome.com- 39-091-348-426)، وهو أصغر حجما وهو فندق جذاب وأرخص، حيث تبلغ الغرفة المزدوجة 120 يورو. هناك أيضا فندق «فيتشيو بورجو» (www.classicahotels.com - 39-091-611-1446)، وتبلغ فيه الغرف المزدوجة 100 يورو. أماكن تناول الطعام من السهل العثور على أماكن لتناول طعام جيد في باليرمو، حيث تبلغ الوجبة الكاملة في مطعم جيد، 100 يورو. وهناك مطعم «أوستيريا دي فيسبري»، وهو إلى اليمين تحت أسوار «فالجورنيرا جانجي» في ميدان كروس دي فيسبري، والوجبات في هذا المطعم أغلى قليلا ولكنها بالطبع تستحق ذلك. وعنوان المطعم على شبكة الانترنت هو (www.osteriadeivespri.it) ويمكنك الاتصال به على (; 39-091-617-1631) مطعم «بيلوتيرو» (39-091-582-158) وهو مطعم صغير ورسمي، يقدم وجبات تقليدية رائعة وهناك مطعم «انتيكا فوكاسيرا سان فرانسيسكو» حيث يكون الطعام فيه أرخص ثمنا ولكنه أكثر شعبية ويقع في مكان رائع أمام واجهة سان فرانسيسكو، تلك الكنيسة التي تعود إلى القرن الثالث عشر. يقع المطعم في 58 شارع باتيرنوسترو ورقم الهاتف به هو (39-091-320-264)، ويقدم الكثير والكثير من الوجبات المختلفة. ماذا تقرأ يمكنك قراءة سيرة لامبدوسا التي كتبها ديفيد جيلمو تحت عنوان «النمر الأخير». وفي الثالث عشر من ديسمبر (كانون الأول) عام 1991 كتب فرناندا إبيرستادت عن باليرمو وابن لامبدوسا بالتبني جيواتشينو لانزا توماسي.

* خدمة «نيويورك تايمز»