في مكسيكو سيتي: «ارقص بالتي هي أحسن»

بين تعاويذ الهنود الحمر وابتهالات شعب المايا

المكسيك شمس الحضارات («الشرق الأوسط»)
TT

لحظة وصولك إليها، تفرض العاصمة مكسيكو سيتي عليك قوانينها. أول هذه القوانين تحظر ارتكاب جنحة القلق والهموم. أما ثانيها فهو إعلان للفرح المتواصل الذي يتفشى في فضائها ويصيب زائرها بالعدوى مهما حاول التحصن والامتناع. قد يتعبك إيقاعها او مناخها الصيفي المتقلب، لكنك في نهاية الأمر تحبها وتغادرها وفي قرارة نفسك انك ستقطع المحيط الأطلسي مرة ثانية وتطير أكثر من عشر ساعات لتشاهد التحف المعمارية التي تعود الى أربعة قرون على اقل تقدير، او تتأمل نسخا تحتل البسطات كما المتاحف من أعمال الفنانة التشكيلية فريدا خاولو ونمنمات أصابعها على القماش والورق في موطنها. كذلك لا بد لك من ان تستعيد عبير أزهار الزنبق ومواسم حصادها التي تشكل موضوعا خصبا للريشة واللون والخيال. او تستسيغ طعم فاكهة الصبار التي تترك في الفم حلاوة لا تشبه سواها، الى جانب اللذعة الحارة لأنواع الفلفل الممزوج بالحامض والمضاف إلى أي نوع من أنواع الطعام حتى الحلويات.

خلابة العاصمة المكسيكية، تقف فيها على سجادة التاريخ الموغل في القرون الماضية. تقع أسير حضارتين تتزاوجان على رقعة واحدة من دون تصادم او تنابذ. فالأهرامات التي تعود الى 2500 عام قبل الميلاد، والتي بناها شعب المايا تكريما للشمس والقمر وكهنتهما، لا تنافس تعاويذ توارثها الهنود الحمر الذين لا يغيبون عن المشهد الثقافي والسياحي وكأنهم لم يغادروا مرحلة ما قبل كريستوفر كولومبوس. من لا يصدق يكفيه ان يقرر الطيران فوق المحيط ليعرف ان ما ينتظره يستحق هذا العناء. فالمكسيك هي «الشمس» كما يدل الاسم في ترجمة للكلمة القديمة «مكسيكا» في لغة شعب «ناهواتل». وهي ارض الذهب والأحجار النادرة التي أغرت الإسبان فغزوها واحتلوها وغرسوا فيها لغتهم، لتصبح مزيجا متناقضا من تراكمات تجمع بين سحر الماضي والحاضر.

العاصمة مكسيكو سيتي، او ما يتيسر من مشاهدها نظرا لاتساعها، لها خصوصيتها التي قلما يصادفها السائح في بلاد أخرى. هنا الترفيه الشعبي يتزاوج والأماكن الأنيقة. الفنادق الفخمة بنجومها الخمسة في الوسط التاريخي تطل على «الاميدا بارك»، وهي الحديقة التي لا تنام ولا ترتاح ولا تتعب من بث الموسيقى لإبقاء نار الاحتفالات الشعبية مستعرة وسط طقس يميل الى البرودة ويحمل أمطارا مفاجئة لا تتورع عن كسر إيقاع الصيف ولا تحول دون مواصلة مهرجانات الشارع، التي يحييها الفنانون والراقصون والمهرجون والمسرحيون وكل من يطيب له إظهار موهبته على مسارح من العشب الأخضر في الهواء الطلق. أكشاك باعة الذرة والفاهيتا والتورتيا والفلفل الحار والتشيبس لا تحتاج الى مواسم او مواعيد لتجذب نزلاء هذه الفنادق وتحثهم على الاستسلام لنزوة تذوق ما لذ وطاب بعيدا عن وصايا الصحة العامة. بمواجهة المطاعم الرفيعة المستوى تستطيع ان تتوقف في فرن بسيط وحميم لتأكل حتى التخمة بحوالي خمسة دولارات، كما تستطيع ان تنتظر دورك عند كشك صباحي لتأخذ ما تيسر من القوت وتنطلق الى مغامرة اكتشاف حضارات شكلت النواة الثقافية للقارة الجديدة.

في بداية جولتك قد يعترضك المهرج الحاضر ليتحرش بالمارة ويبتسم لعدسات السائحين ويدعوهم الى التقاط الصور معه. يمازحهم ويداعبهم ويطالبهم بعشرة بيزوس، أي ما يعادل دولارا. وإذا لم يلبوا يصب غضبه عليهم بكلمات اسبانية تضحك جمهوره حتى القهقهة.

تتابع جولتك لتتأكد أن لا غربة في مكسيكو سيتي. سرعان ما تشعر انك دخلت مسلسلا كنت تشاهده مدبلجا على الشاشة. تبحث عن انطونيو وراكيل وماريا مارسيدس وغيرهم من وجوه شكلت خلال الأعوام الماضية ذاكرة العرب عن بلد الفرح والحب. الوجوه الأليفة التي تحسب انك تعرف أصحابها عن كثب تجعلك تشعر كل لحظة انك تنتمي الى المكان الواسع والمكتظ. لوهلة قد تحدثك نفسك بالبحث عن العربية الفصحى في أفواه من يرطن بالاسبانية ويحملك قسرا الى إيقاعها الجزل. لكنك ترغم على استعادة واقعك وتحمّل غضب سائق التاكسي عندما تعجز عن التفاهم معه بأي من اللغات الخالية من النغمات الاسبانية.

ما ان تشبع من «الاميدا بارك» حتى يستوقفك على بعد تقاطعين القصر الأزرق الذي يطل عند زاوية شارع لوس ازيجيلوس، بني عام 1737، بانيه كان متهما بالفشل، لكنه دحض الاتهام بتحفته الفنية هذه التي تذكر بالدور الدمشقية والقصور الأندلسية، حيث صحن الدار نقطة الارتكاز التي تنعشها بركة مياه تزاوج بين الشرق المتوسطي والأسلوب الأوروبي وتحديدا الايطالي، وحيث الغرف تحيط بصحن الدار والطبقة العليا تطل عليه بشرفات تزينها المنمنمات الشرقية إضافة الى واجهات الفسيفساء. لكن الرسوم التي تشكلها الفسيفساء تردنا الى الحضارة المكسيكية الجامعة حضارات العالمين القديم والجديد. للقصر حكايته التي تفيد بأن مالكه قارب على الإفلاس فباعه بـ6500 بيزوس الى رجل نبيل قدمه بدوره الى ابنته لمناسبة زواجها. والقصر الأزرق انتقل من ملكية الى أخرى وجلب السعادة لعدد كبير من قاطنيه على امتداد الأيام، كما شهد جرائم قتل وتعرض الى الزلازل ولا يزال منتصبا كعلامة فارقة وسط الفن العمراني للشارع، ليرتاح من حكاياته ويفتح أبوابه للتجارة والسياحة. فأقسامه وأجنحته الحالية تضم مطعما ومقهى ومتجرا للألعاب والحلويات ومكتبة.

وتحويل القصور والدور الى متاجر ليس حالة استثنائية في الوسط التاريخي للعاصمة المكسيكية. إلا أن أحلى ما يميز هذه الحالة هو المحافظة على التجهيزات والديكور الداخلي الذي يجعل هذه المتاجر أشبه بالمتاحف.

لا تكتمل زيارة مكسيكو سيتي من دون المشاركة في حياة الهنود الحمر وإن لبضع ساعات. مكان الإقامة زاوية من ساحة سوكالو، عفوا زوكالو. هنا تلفظ السين زينا او يكتب حرف الزين سينا. وهنا تكتشف بعض ملامح الموطن الحقيقي للهنود الحمر الذين لا يزالون يعيشون أجواء رحلة الشتاء والصيف. لهم جبالهم يحتمون بها، ولهم ساحات يصطادون فيها اهتمام العابرين والعدسات. يعرفون خصوصيتهم التي لم تمحها كل محاولات إبادتهم. احدهم ينظر الى الكاميرا وكأنها مستوطن جاء يطرده من مملكته، ثم ومن دون مقدمات يفرد شعره الطويل والأملس بإغواء قبل أن يتموضع فخورا بجذبه جمهور الساحة.

اتورو هيراري واحد من هؤلاء فهو لا يبارح «عيادته»، حيث يقوم بأعمال التدليك، إلا إلى الساحة ليستقبل الراغبين في العلاج من هموم الحياة وهواجسها على قارعة الطريق. يقول انه جاء من تشيواوا، يضيف ان اسمه باللغة الهندية التي يجيدها هو: راراموهي، أي القدم القوية التي تركض بسرعة. عدة الشغل لدى اتورو شتلة حبق ونبتة اكليل الجبل وقوارير تحوي زيوتا من كوبا ومبخرة. قبل تقديم خدماته يستعرض صاحب القدم القوية مهارته فيمسك الجمر بيده او يسير عليه. يباشر تلاوة تعويذاته ويدور بالحبق حول «مريضه»، ينفث «ضبابه» حول الرأس وبين خصل الشعر وتحت الإبطين. يخص الأقدام بعناية مميزة. بعد ذلك يأتي دور إكليل الجبل ويختم بالمبخرة والزيوت التي يمسح بها الجبين واليدين ليحصل الزبون على البركة والقوة وتفتح دروب الحياة في وجهه. قبل ان ينهي الجلسة يخبر الرجل زبونه بأنه مطلق ولا أولاد لديه. المحطة الهندية الثانية في الساحة تبدأ مع متابعة التحضيرات التي تقوم بها فرقة استعراضية للرقص. الظاهر أن أفراد الفرقة عائلة واحدة. أزياؤهم الوفية لتراث يعود إلى مئات السنين على اقل قدر تشكل ألف لوحة ولوحة. جلد وريش وتمائم وحليّ وغناء من بطون الحكايات وإيقاع على الطبل يمزق الحاضر ليخطف المتحلقين حول الفرقة الى صفحات من حضارة أزهقت. المرارة المرتسمة على وجوه أفراد الفرقة تدفع إلى هذا الاستنتاج. كذلك النظرة الصارمة وربما الغاضبة والمستاءة من هدر الكبرياء في الساحات العامة التي تلوح في عيون فتاة تحمل قبعة لتجمع المال من الجمهور.

الهنود يقدمون استعراضهم منفردين. لكن كل مظاهر الفرح الأخرى في المدينة تضع القانون الثالث للسائح الذي ينص على ضرورة التمايل مع الإيقاعات التي تكتسح الساحات والشوارع لأسباب متنوعة، قد تبدأ بالتعبير عن مطالب لا تصل الى مقر رئاسة الجمهورية المواجه لساحة زوكالو إلا بقرع الطبول، وقد تنتهي باستنباط الاحتفالات الدينية التي تجمع المتوارث من حضارة المايا الى المعتنق من الكاثوليكية في ابتهالات مع نغمات الاوكورديون والبوق ورنين الأجراس. وكأن كل ما في الساحة يقول: «ارقص بالتي هي أحسن».