كورسيكا.. جزيرة الجمال الفرنسية

فيها الغنى والثراء ونسيم المتوسط

طبيعة خلابة فيها عطر البحر المتوسط («الشرق الأوسط»)
TT

يمكن للقطار فعل أي شيء غير أن يوضح ماهية جمال البلاد، فلا يمكنك على الإطلاق أن ترى هذا الجمال وأنت تسمع صرير عرباته التي يعلوها الصدأ، وتجلس على مقاعده الصلدة. لكن بعد رحلة استمرت 20 دقيقة من أجاسيو، أكبر المدن الساحلية في كورسيكا إلى كورت ـ وهي إحدى المقاطعات النائية ـ حينها بدأت الأمور تتغير تماما.

فقد منحت الروائح النابعة من أشجار النخيل والرياح التي تهب من البحر المتوسط نكهة وطابعا خاصا لغابات الصنوبر والنباتات النضرة هناك. وبعد مرور 20 دقيقة أخرى، ترى أنك تتحرك عاليا مخلفا واديا مغمورا وسلاسل الجبال التي يعتليها الجليد. ويمكنك حينها رؤية منازل القرى الجبلية ذات الأسقف الحمراء، والأشجار التي دمرتها العواصف الرعدية. وكل ما ستفقده حينئذ هو أن يكون هناك أحد الشعراء البارزين ليصوغ تلك الطبيعة النضرة في صورة أبيات من الشعر.

وغالبا ما يدفع جميع الركاب وجوههم عبر الزجاج المتسخ، وهم يتساءلون ما الذي ستجسده لهم الطبيعة في المنعطف القادم. ثم تأتي تعبيرات الاندهاش والإعجاب على اختلاف اللغات، المتفقة جميعها على الإحساس بالروعة. وفي الطريق، كان يبدو أن مجموعة المسافرين مشدودون إلى النماذج التاريخية. وفي هذه الألفية، وصل الزائرون إلى كورسيكا من أجل أن يتأثروا بفتنة وسحر هذا المكان. لقد أبحر اليونانيون القدامى في مياهها الفيروزية اللامعة، وأعلنوا حينها عن جزيرة كاليست، وهي أكثر الجزر روعة وجمالا.

وفي هذه الأيام، تمتلئ الأكشاك من مدينتي نورماندي حتى نيس الفرنسيتين بأغلفة المجلات التي تصور الشواطئ الرملية هلالية الشكل، والآثار الرومانية، والموانئ. وتلك العوامل مجتمعة هي ما وهبت مدينة كورسيكا اسمها الجديد: جزيرة الجمال.

وبالرغم من وجود كورسيكا بالقرب من أماكن العبادة في فرنسا ودول الجوار الأوروبية، إلا أنها تظل مجهولة بالنسبة للأميركيين بالولايات المتحدة. فمن أكثر من 3 ملايين أميركي يسافرون سنويا إلى فرنسا، يتجه 6000 فقط منهم لقضاء ليلة في هذه الجزيرة الساحرة الصغيرة التي تساوي في مساحتها تقريبا مساحة ولاية نيو هامشاير الأميركية، طبقا لمكتب السياحة بالحكومة الفرنسية. وينزلنا القطار في حصن كورت الجبلي، وهو مصدر الفخر الواضح في جزيرة كورسيكا. وهناك نرى نوافذ المحلات وهي تمتلئ على نحو مغر بالأطعمة التقليدية الفرنسية اللذيذة، التي نرى منها لفائف النقانق، وقطع الجبن الفرنسي، وقارورات العسل. كما تجد على الكافيتريات والمقاهي الرجال الذين يتجاذبون أطراف الحديث باللغة الكورسيكية. كما يمكنك رؤية الكثير من الحوائط عبر الجزيرة المرسوم عليها النقوش المنادية بشعارات من أجل استقلال كورسيكا.

يقول جان مارك أوليفيسي، مدير المتاحف في كورسيكا والموجود بالمدينة للتخطيط لمعرض كبير لعام 2009، حول أشهر شخصية نشأت في كورسيكا ألا وهو نابليون بونابرت: «إنه بالنسبة لسكان كورسيكا، فإن كورت تعتبر رمزا لهويتنا، وهي المكان الذي تم تغييره عبر الدخلاء على الأقل»، ويضيف أوليفيسي: «أن المدن الساحلية مثل كالفي، أجاسيو، باستيا، بونيفاسيو، وبورتو فيتشينو، لديها تاريخ متلخص في جنوا أو في فرنسا»، وهما القوتان اللتان سيطرتا على كورسيكا بنجاح منذ مئات السنين. ونتيجة لهذا، تم تحديد كورت عاصمة لكورسيكا أثناء الاضطراب طويل الأمد للجزيرة من أجل الحصول على الاستقلال عن جمهورية جنوا، بداية من عام 1755 حتى 1769. وقد كان زعيم حملة الاستقلال هو باسكال باولي، وكان هذا الرجل من المعشوقين بالمدينة، فاسمه يزين العديد من الأماكن بالمدينة مثل الجامعة، والشارع الرئيسي، بل حتى محل الحلويات في الميدان الرئيسي للمدينة الذي يحمل هو الآخر اسمه. وقد وُضع له في قلب الميدان تمثالا ليخلد ذكراه. وفي المساء، أسير إلى كنيسة سانت كروا، للصلاة مع جماعة فوس فينتو، وهي الجماعة التي تحيي الصلوات عن طريق التراتيل الغنائية القديمة. وهناك يمكنك أن ترى أن حوالي نصف المدينة، بداية من الجدات المسنات، والعائلات الصغيرة، وطلاب الجامعات المحلية، وحتى المسافرين الأجانب المرهقين من السفر. وأثناء الصلاة سترى 5 رجال في زي السواد وبعض الموسيقيين المرافقين لهم.

يقول فريدريك بوجي قائد الجماعة: «إن هذه الأغنية للثناء». ويقول عن الأغنية إنها ترتيل باللغة الكورسيكية اسمه: «من الآن فصاعدا يجب أن أتعلم أن أكون صغيرا». وتبدأ هذه الأغنية بصوت طويل، ثم ينضم إليه صوت ثاني فثالث، ثم تُنشد بعد ذلك باقي المجموعة، ثم تعمل المجموعة بعد ذلك على تغيير وتنويع طبقات الصوت الصادرة منهم.

وبعد أن تنتهي الحفلة الموسيقية وينتهي التصفيق، يبدأ بوجي في تقديم الثناء مع بداية الأغنية التي تقول كلماتها بعد ترجمتها: إننا جزء صغير فقط على الأرض، إلا أننا ما زلنا جزءا شديد الشموخ على الأرض.

وإذا كان ممكنا، فإن الوصول إلى مدينة بونيفاسيو جنوبا عبر البحر يعتبر مذهلا أكثر من الوصول إلى كورت بواسطة القطار، حيث يمكنك حينها رؤية الجُرُف المكتسية باللون الأبيض. وعبر البحر، يمكنك رؤية العديد من الكهوف المظلمة في حوائط الجُرُف، التي تنعكس منها الشموع المتدلية من الرواسب الكلسية داخل المغارات، بينما عملت الرياح على تآكل الرواسي الصخرية، التي يبدو البعض منها بحجم البنايات السكنية الضخمة في مانهاتن. وقد كشفت جزيرة كورسيكا عن نفسها على أنها بديل مميز لمدن جنوب فرنسا المشهورة بمنتجعاتها السياحية.

يقول باتريس أريند، مالك محل لبيع التحف البحرية: «في كورسيكا، لا يمكنك أن ترى المواد الاصطناعية الموجودة في كوت دي آزور». وبينما كان يتحدث عن الأصالة الفريدة للمنطقة، أشار إلى أن المطرب العالمي ستينج كان من الذين جاءوا لزيارة هذا المكان الرائع، كما أشار إلى أنه منذ سنوات قليلة ماضية، هرع خارج المحل ليصافح بيل جيتس أثناء زياراته للمنطقة. وأضاف أن العديد من الأشخاص المشهورين يأتون إلى زيارة الجزيرة، إلا أنهم يأتون إلى هنا من أجل ألا يعرفهم أحد. وإذا ما أبحرت شرقا من بونيفاسيو، فسوف تمر على ملعب للغولف، مطل على البحر صممه روبرت ترينت جونز، ويضم الملعب أيضا العديد من الفيلات الخاصة، ويعتبر هذا المكان من النوعية التي سيحاول لاعبو الغولف فيه مرارا قذف كرات الغولف في مياه البحر، حتى يبرروا ذهابهم للغطس في مياهه الفيروزية المتلألئة.

وإذا ما استمررت في الإبحار، فسوف تلمح جزيرة إيل دو كافيللو، وهي جزيرة تضم مجتمعا معزولا، وتصفها الصحف الفرنسية بأنها جزيرة المليارديرات. بعد ذلك يمكنك أن ترسو عند فندق كاسا ديل مارو في مدينة بورتو فيتشينو، وهو الفندق الوحيد في كورسيكا الذي يضم مرسى لليخوت. وسرعان ما احدث هذا الفندق ـ الذي صممه جان فرانسواز بودين ـ ضجة كبيرة، وجذب إليه الكثير من الأشخاص من أمثال جورجيو أرماني، ومارك جاكوبس. وبحلول المساء في بورتو فيتشينو، مضيت إلى الشوارع القديمة بالقرية، ووجدت حينها القرية وهي تتحول إلى قبلة كورسيكا للحياة الليلية، حيث تكتظ الشواطئ بالرواد، كما تمتلئ المقاهي بالجالسين لاحتساء صنوف المشروبات المختلفة والغريبة في نفس الوقت. ولم يكن هذا كله سوى تمهيد فقط لفيا نوت، وهو معبد لا تفتح أبوابه سوى في الليل فقط. وطوابق هذا المعبد مرتفعة للغاية، حيث كان نابليون بونابرت من أمر بأن تكون كذلك. وهناك حوالي 7 بارات ومطاعم منتشرة عبر المستويات المختلفة من المبنى. وفي الداخل يوجد كشك الـ«دي جي»، الذي يعمل فيه 3 رجال على إدارة لوحة تحكم كبيرة مليئة بالأضواء كما لو كانوا يحاولون الإبحار بسفينة فضاء. في ذلك الوقت يندفع الراقصون على أرضية الرقص وهم يتمايلون وسط أضواء الليزر الساطعة. يقول هنري باستيليكا مالك المكان: «إن لدينا أكبر مساحة في أوروبا»، حيث تقدر مساحة الأرضية بحوالي 20.000 قدم مربع، ومن أجل هذا يؤكد على أنه يمكن لحوالي «4000 شخص أن يحتفلوا هنا» دفعة واحدة.

ويضيف المالك عن المكان بأنه قدم الخدمات وأقام الحفلات لألمع النجوم والشخصيات البارزة حول العالم، ومنهم المصمم جان بول جالتيير، وعارضة الأزياء لاتيتا كاستا، ولاعب الكرة الشهير زين الدين زيدان، بالإضافة إلى «كل الممثلين الفرنسيين الكبار». ومع ذلك رفض باستيليكا تماما مقارنة المكان الذي يملكه بالمنتجعات الفرنسية الشهيرة، حيث أشار إلى أن الحفلات التي تُقام في فندق سانت تروبيز عادة ما تفسد بسبب المصورين، الذين يمثلون دائما صداعا مزمنا في الرأس. أما هنا فلا يمكن لأحد أن يضايق الضيوف والحضور، بل إنهم لا يحتاجون حتى إلى حارس خاص.

في الجهة المقابلة من ناحية الشمال، يمكن لنا أن نرى قلعة كالفي بالغة الجمال، التي يمكن لنا منها أن نشتم عبق التاريخ. وفي أحد ممرات القلعة تصادف مروري حول أحد المنازل، الذي يعتقد البعض أنه كان مسقط الرأس الحقيقي لكريستوفر كولومبوس، والمفترض بصورة متفق عليها أنه إسباني الجنسية. ويوجد بالقرب من هنا مبنى صغير عاش فيه نابليون بونابرت، حيث كان يختبئ من مواطني كورسيكا أثناء قيام الثورة الفرنسية.

وعبر احد الشوارع الصغيرة الأخرى، نرى نادي تشي تاو الليلي، الذي أسسه ضابط أجنبي بالجيش الروسي كان يُدعى تاو كيريكوف منذ عقود ماضية. وأثناء الثورة الروسية، واجه كيريكوف الكثير من المقاومة المسلحة، حينها فر إلى نيويورك، حيث التقى الأمير فليز يوسوبوف ـ أحد المتآمرين على راسبوتين ـ الذي أقنعه في ذلك الوقت بالذهاب إلى كالفي، حيث أسس الملهى الليلي الخاص به الذي حمل اسمه في عام 1935، وما زال هذا الملهى حتى وقتنا الحالي يعج بالزائرين الموسميين من باريس ولندن، وباقي عواصم العالم. وتحول أحد التجاويف الموجودة بالقلعة إلى متحف للفيلق الفرنسي الذي أبقى على قاعدة له خارج كالفي. وتظهر لنا التماثيل المعروضة بالمتحف في الزي العسكري، تفاصيل تاريخ هذه الفرقة العسكرية، التي قيل عنها إنها كانت تقبل المجندين من أي خلفية ثقافية ومن أي دولة، من دون حتى توجيه أي أسئلة لهم.

وفي هذه المنطقة الخلابة من العالم تقف مشغلة الـ«دي جي» الأميركية ماندي مون، حيث تشغل مقاطع الموسيقى والأغاني التي تعمل على جذب مرتادي الشواطئ، وتحاول بتلك الموسيقى والأغاني إقناعهم بترك حمامات الشمس التي يرقدون تحتها، والقدوم للتمايل والرقص على الأغاني التي تديرها. وعبر المناظر الخلابة التي تحيط بهم من جميع الجهات من حيث قمم الجبال المكتسية بالبياض، والقلعة، والمياه الفيروزية المتلألئة يبدو أنها تبذل جهدا مهولا لجذب انتباه الأفراد نحو الموسيقى التي تديرها.

التجول بالجزيرة: أسهل الخيارات في جزيرة كورسيكا للتجول في ربوعها هي تأجير سيارة لمسافات طويلة. فالمواصلات العامة التي تربط المدن بالأقاليم شحيحة للغاية، كما أن منظر البحر والجبال يضفي السعادة على القيادة ويجعل منها متعة. أما لمن لا يجيدون القيادة، فإن خطوط السكك الحديدية في كورسيكا تربط المدن الشمالية (أجاسيو، كورت، كالفي، باستيا) ببعضها، ومع ذلك فإنها لا تمتد إلى الجانب الجنوبي من الجزيرة، حيث مدن (بونافيسيو، بورتو فيتشينو)، وهناك من قطارين إلى أربعة قطارات في اليوم الواحد، وذلك متوقف على الموسم. من ناحية أخرى توفر شركة يوروكورس فوياجس القليل من الحافلات في اليوم، التي تقود إلى مدن بورتو فيتشينو، بونيفاسيو، أجاسيو، وكورت.

أين يمكن الإقامة، وتناول الطعام، والتسوق، وحضور الحفلات؟

هناك بعض الشركات في كورسيكا التي تتوقف عن العمل في غير المواسم السياحية، والتي تدوم من فترة أطول أو أقل بداية من أبريل (نيسان) وحتى أكتوبر (تشرين الأول). ومن الأفضل دائما التحقق مقدما من ما إذا كانت الفنادق والمحال والمطاعم مفتوحة قبل الذهاب إلى هناك أو لا.

إليك بعضا من الفنادق الموجودة بمدن الجزيرة:

* كالفي: فندق سانت كريستوف ـ ثلاثة نجوم ـ (33-4-95-65-05-74; http://www.saintchristophecalvi.com/)، وتتكلف الغرفة المزدوجة من 98 إلى 165 يورو، أي من 150 إلى 252 دولارا عندما يكون سعر اليورو يساوي 1.53 دولار. ولتناول عشاء لذيذ أمام البحر هناك مطعم أوكتوبوسي (33-4-95-65-23-16). كما أن هناك ملهى تشي تاو الليلي (33-4-95-65-00-73; http://www.cheztao.com/) الذي يقدم صنوف المشروبات، ومجهز للرقص.

* كورت: فندق أوتيل دو لا بي (33-4-95-46-06-72; [email protected]) وهو من أفضل الفنادق بالمدينة، وتتكلف الغرفة المزدوجة فيه 54 يورو. ولمعرفة الكثير عن تاريخ كورسيكا يمكنك زيارة متحف موزي دو لا كورس (33-4-95-45-25-45; http://www.musee-corse.com/). ولتناول العشاء يمكنك الذهاب إلى فييل كاف (33-4-95-46-33-79)، وهناك يمكنك تذوق أطباق الجبن والسلمون المشوي.

* بونيفاسيو: تطل على مينائها الساحر، ورصيفها المليء بالمطاعم. وهناك يمكنك الإقامة في فندق لا كارفيل، وبالرغم من بساطته إلا أنه نظيف ومريح. وتبدأ الغرفة المزدوجة فيه من 97 دولارا (33-4-95-73-00-03; http://www.hotel-caravelle-corse.com/). ويوجد أيضا فندق كورسير (33-6-23-25-14-60). وأغلب تلك الفنادق تقدم رحلات مدتها ساعة طوال اليوم. أما إذا أردت شراء التحف البحرية، فيمكنك التوجه حينها إلى مير إي ديكوفيرت(33-4-95-73-54-39; http://www.meretdecouvertes.com/).

* بورتو فيتشينو: مهما كانت الوسيلة التي ذهبت بها إلى هناك، سيستقبلك فندق كاسا ديل مار (33-4-95-72-34-34; http://www.casadelmar.fr/)، ويبدأ سعر الغرفة المزدوجة فيه بـ350 يورو. ويمكنك تناول الطعام في لو تروبادور (33-4-95-70-08-62)، الذي يقدم صنوف الطعام المختلفة مثل تونا البحر المتوسط بعصير الليمون والأعشاب بسعر (21 يورو)، بالإضافة إلى الدجاج المحشو بخضراوات الربيع والليمون (22 يورو). ويمكنك الذهاب إلى أكبر النوادي الليلية هناك وهو لا فاي نوت (33-4-95-72-02-12; http://www.vianotte.com/).

* خدمة «نيويورك تايمز»