الفيوم.. فيها طراوة المياه وعطر الفواكه

غنت لها أم كلثوم وفي حضنها تنعس بحيرة قارون ووادي الريان

بحر يوسف بالفيوم يذكرك بفينيسيا الإيطالية
TT

في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، أي في العصر اليوناني بدأت مدينة الفيوم، الواقعة على بعد نحو 100 كيلو متر من العاصمة المصرية رحلتها مع الشهرة، حين أطلق عليها حكام مصر آنذاك «مدينة التمساح» نسبة إلى الإقليم المحلي الذي كان يسمى عند الفراعنة «سبك»، إلى أن أطلق اليونانيون عليها اسم «أرسينوي»، وهو اسم زوجة «بطليموس الثاني» الشهيرة باسم «فيلادلفيوس» لإهدائه الإقليم لزوجته لتستمتع بما يدره عليها من خيرات. وفي العصر القبطي (منتصف القرن الميلادي الأول) تغير اسمها إلى «بيوم»، ومعناه «المياه» في إشارة إلى كثرة المياه فيها، ثم تحور هذا الاسم إلى «فيوم» وهو الاسم الذي تعرف به هذه المنطقة حتى اليوم. أطلق الاسم أيضا على العاصمة الحالية للمنطقة وهي مدينة الفيوم، حيث كانت العاصمة السابقة لها في منطقة «كيمان فارس» بالقرب من وسط المدينة الفيوم، وهي المنطقة التي لا تزال حاضرة إلى اليوم بآثارها وكنوزها التاريخية، برغم طغيان الامتداد العمراني. «الشرق الأوسط» زارت الفيوم لتنقل إلى قرائها أهم ما يميز هذه المدينة التي توقف التاريخ عندها بحقبه المتعددة لتميزها عن سائر مدن مصر، فهي لا تشرب من مياه العيون الغنية التي تمتلكها فقط، لكنها تروي حدائقها الغناء من نهر النيل برغم وقوعها في الظهير الصحراوي لمصر. وبرغم أن الفيوم ليست مدينة ساحلية، إلا أن الطبيعة لم تحرمها من أجمل الشواطئ، بخاصة ضفاف بحيرة قارون بموقعها الفريد تحت سفح هضبة عالية، تمنحك أرق وأجمل مشهد لبزوغ وغروب الشمس في العالم.

تسمية بحيرة قارون له دلالة عند أهالي المدينة، حيث يشيعون بأنها كانت موطنا لكنوز «قارون» وعندما خسف الله تعالى به الأرض تحولت تلك الخزائن إلى هذه البحيرة التي لا تزال حاضرة إلى يومنا، ويفد إليها الكثير من السائحين العرب والأجانب لينعموا بمشهد الجمال النادر على شواطئها وأمواجها الساجية. كثيرون وصفوا الفيوم بأنها «سويسرا الشرق»، أو أنها الجنة الوارفة الظلال، فأرضها خصبة تجود بأنواع من المحاصيل والفواكه الشهيرة، كما تشتهر بصناعات بيئية متميزة ولها طابع فولكلوري أصيل. وكثيرا ما تستهوي الفيوم هواة الراحة والهدوء وعشاق الطبيعة والجمال لكثرة ما بها من حدائق الفاكهة والمناظر الطبيعية الخلابة. ساعدها على نيل هذه المكانة، طبيعة أرضها التي تختلف مستوياتها ارتفاعا وانخفاضا وكذلك السواقي والطواحين التي تتميز بها وتدار بقوة اندفاع المياه، والتي لا تزال تعمل حتى اليوم. هذه السواقي التي غنت لها أم كلثوم «سبع سواقي بتنعي على حظ قليل» لفرط شهرتها اتخذتها إدارة المحافظة شعارا لها، فضلا عن إعدادها كمزار للسائحين في وسط المدينة، حتى أصبحت زيارة الفيوم مقترنة بسواقيها المنتشرة في وسط المدينة، أو الأخرى المنتشرة في بعض أريافها، ويطلق عليها العوام أحيانا «السبع سواقي». عيون طبيعية: تختلف الفيوم في طبيعتها عن وادي النيل، فبرغم إنها تعتمد في ري أرضها على مياه النهر تصله بها قناة تبدأ بالقرب من مدينة أسيوط في مصر العليا، وهى القناة الشهيرة باسم «بحر يوسف» نسبة إلى النبي يوسف عليه السلام بحسب التراث الشعبي للمدينة.ويذكرك هذا البحر برائحة مدينة فينيسيا الايطالية. وبداخل محافظة الفيوم قرية صغيرة معروفة باسم «السيللين»، تتميز بعيونها العذبة التي تنتشر بهذه القرية الصغيرة، حيث تندفع فيها المياه من باطن الأرض، وهي القرية الوحيدة في الفيوم التي تضخ مثل هذه المياه، التي يعتبرها الخبراء تحتوي على عناصر الكالسيوم، ما يجعلها وسيلة للاستشفاء. وتعد هذه العيون الطبيعية واحدة من أهم المزارات السياحية الطبيعية التي يتوقف عندها الزائرون للفيوم ما بين سياح عرب وأجانب، فضلا عن أنها كانت موطنا لتصوير العديد من الأعمال السينمائية، وحديثا أنشئ فيها أكبر وأضخم قصر ثقافة في مصر على هيئة هرم مقلوب. ومن المواقع التي تبدو فيها العيون الطبيعية غير قرية «السيللين» يأتي وادي الريان، ذلك الوادي الذي تتدفق منه ثلاث آبار، وهو يعتبر محمية طبيعية لغناه بالتكوينات الطبيعية والشلالات والحيوانات البرية والطيور ويقع في أقصى الغرب من مدينة الفيوم.وكان لهذا الوادي الذي تحول إلى محمية طبيعية دولية حضوره الفاتن في فيلم «المهاجر» للراحل يوسف شاهين،تتميز عيون وادي الريان بمياهها الدافئة شتاء، الباردة صيفا، كما ترتفع المياه في آبارها نتيجة زيادة الضغط على الرمال ، والطريف أنه عند زيارة هذا الوادي يلاحظ الزائر بئرا ومن فوقها بئر أخرى صغيرة وسط أراض رملية لا يتعدى قطرها مترا واحدا، نسجت الأعشاب خيوطها حول فوهتها، وتخرج منها مياه غزيرة للحظات، ثم تتدفق منها بغزارة أكثر لحظات أخرى، وكلما ارتفعت الرمال ازداد تدفق المياه في الوادي.

والمدهش في هذا المنظر أنه كلما اقترب الزائر من البئر يلاحظ تدفق المياه أكثر وأكثر وبالابتعاد عنها تكاد تتوقف المياه نهائيا مع العلم أن البئر تبتلع أي شيء يسقط فيها.

يزور السائحون وادي الريان عن طريق سيارات مجهزة خاصة لصعوبة الطريق ووعورته بسبب بعض المنحنيات، كما يقصد هذا الوادي بعض المرضى للتداوي من الأمراض الجلدية أو الاستمتاع برؤية العيون، والتي اكتشفها بعض رعاة الجمال والملاحين، عند مرورهم على منطقة العيون عام 1979. أما بحيرة قارون الشهيرة بالفيوم، فتعتبر ملتقى لهواة الصيد حيث تكثر بها أسماك «البوري، الطوبار، الصول، سمك الموسى، البلطي»، ويتجول على شواطئها صيادو الطيور التي تكثر فوق البحيرة منذ فصل الخريف وحتى بداية فصل الربيع.

ويطل على البحيرة أوبرج الفيوم الشهير، وهو عبارة عن فندق ومنتجع سياحي، يجتذب الكثيرين إليه بخاصة في فصل الشتاء، حيث تعد الفيوم من أهم المنتجعات السياحية الشتوية في مصر. أما في الأجزاء الصحراوية من المنطقة المجاورة للبحيرة، فيمكن للزائر أن يمارس رياضة صيد الأرانب البرية والغزلان، كما تنتشر حول البحيرة مشروعات سياحية لا تزال تستقبل عشاق الجمال والهدوء والطبيعة من القاهرة والمدن المجاورة. وتتنوع السياحة في الفيوم ما بين سياحة السفاري والسياحة الرياضية والسياحة العلاجية والسياحة البيئية والسياحة الثقافية، الى جانب سياحة الصحراء لزيارة مواقع الحفريات القديمة لآثار ما قبل الإنسان والتاريخ، كذلك الآثار الفرعونية واليونانية والرومانية بالمنطقة. هذه المواقع الأثرية والطبيعية المتنوعة بالفيوم اضافة الى أسواقها السياحية، وضعتها على خريطة السياحة المصرية لتصبح من أشهر مناطق الجذب السياحي. وتشكل البيئة الساحلية في الفيوم عنصر جذب أساسيا للسياحة، حيث تشكل المناطق الساحلية نسبة 8% من مساحة أراضي المدينة، ومن معالم البيئة الساحلية محميات الفيوم الطبيعية المنتشرة في وادي الحيتان، الذي يتميز بأنواع عديدة من الطيور المقيمة والمهاجرة التي يكثر توافدها خلال فصل الشتاء، وتتوافر بذلك سياحة مراقبة الطيور، وسياحة صيد الطيور وفقا للقواعد والمناطق والأنواع التي تحددها وزارة البيئة. جوامع أثرية: تضم الفيوم العديد من المساجد التاريخية منها الجامع العتيق الذي لا يزال شامخا إلى اليوم، وشاهدا على براعة الفنان القديم، ومنها جامع الشيخ علي الروبي وهو من المساجد التي تكاد تشكو في الوقت نفسه من تحديات الزمان وتعديات الإنسان، لما وصلت إليه من حالة متهالكة. ومن هذه الشواهد جامع «أصلباي»، المعروف بجامع قايتباي، الذي وصل إلى حالة رثة، وحسب الأثريين، فان تسميته السابقة، ترجع إلى أن منشئته هي «خوندا أصلباي»، زوجة السلطان قايتباي وولده السلطان محمد باشرة، ويقع في أقصى الطرف الشمالي الغربي من المدينة، وتم بناؤه في عصر الدولة المملوكية، وأقيم على قنطرة «خوندا أصلباي» الشهيرة في وسط المدينة، ويبدو المسجد وكأنه مستطيل الشكل ويتكون من عدد من المساقط الأفقية والرأسية والعقود الموازية لحائط المحراب، وبالجامع 12 عمودا رخاميا ذات تيجان مزخرفة مختلفة الشكل والعناصر النباتية، كما أن أطرافه وعقوده على شكل عقود خشبية. ومن الشواهد الإسلامية بالمدينة أيضا الجامع المعلق الذي يرجع إلى أوائل العصر العثماني، بناه الأمير «سليمان بن حاتم كاشف» حاكم الفيوم في شهر رجب سنة 966 هجرية 1560 ميلادية ويشبه من حيث التخطيط والزخارف جوامع العصر المملوكي وما قبله. يمتاز سقف الجامع المعلق بالزخارف والنقوش الكتابية التي تشبه إلى حد كبير نقوش وكتابات خانقاة السلطان الأشرف «برسباي» (825 – 841 هجرية)، في صحراء المماليك بالقاهرة، وتطل واجهة الجامع المعلق الرئيسية على الشارع الرئيسي للمدينة، أما الواجهات الأخرى، فتطل على حوار ضيقة. وكما اشتهرت الفيوم بسواقيها وهدوئها الدافئ المشمس اشتهرت أيضا بأنها أنجبت عشرات المشاهير في الفن والفكر والثقافة والصحافة منهم يوسف وهبي، وفاطمة رشدي، ومريم فخر الدين، ونجلاء فتحي، والكاتب الصحافي صلاح حافظ، فضلا عن ذلك فقد ووري في ثراها قبل عامين الأديب العالمي نجيب محفوظ.