بيروت مدينة تحب الحياة بشهادة عالمية

السياحة.. نفط لبنان البشري

شارع الحمراء قبلة السياح في النهار.. وفي مونو ومنطقة الجميزة تنتشر الملاهي الليلية والمطاعم («الشرق الأوسط»)
TT

احتلت بيروت المرتبة الثانية عالميا كمدينة تحب الحياة. خبر تلقاه اللبنانيون بفرح من شركة Lonely Planet في اختيارها عشر مدن نابضة بما يجذب الناس اليها بمعزل عن معايير السياحة المتعلقة بالقيمة التاريخية او مدى احتواء هذه الامكنة على الآثار او العادات والتقاليد، بل على المطبخ المتنوع والذهنية المنفتحة للسكان وعلى الفن المعماري الذي يمزج بين الحداثة والتراث. الشركة التي يقع مقرها الرئيسي في استراليا عثرت على هذه المعايير كلّها في بيروت التي تقدم لزائرها «خلطة فرح» تدفعه الى التواصل معها بمعزل عن معطياتها التي قد تتوافر في أي مكان.

من السياحة والتسوّق الى السهر وتذوّق أشهى المأكولات فضلا عن ميزة الضيافة التي تطبع مسيرة التاريخ اللبناني، تلك هي مكوّنات «الحياة» التي منحت لبنان «نفطه البشري». وهذا ما تظهره جليا صورة السياح الذين يتدفقون اليه على مدار العام، ويفتقدهم اللبنانيون اثر انقلاب الاوضاع رأسا على عقب اذا غدر بهم الدهر. وخير دليل على ذلك ما شهده مطار بيروت، لا سيما في فصل الصيف حين اصبح «اصطياد» حجز للسفر الى لبنان شبه مستحيل ودخلت بطاقات السفر السوق السوداء مسجلة أسعارها ارتفاعا لم تشهد له مثيلاً. وفي الاسبوع الماضي، جاءت الخطوة التي قامت بها شركة طيران «الجزيرة الكويتية» تحت شعار «الايمان المتجدّد بلبنان، وبيروت عاصمة العرب العصية على الموت» لتثبت ما أعلنته شركة Lonely Planet، اذ نظمت الشركة احتفالا اعتمد على التقاليد اللبنانية. وعلى ايقاع الفلكلور والدبكة تسلمت الشركة طائرتها الثامنة الآتية من فرنسا على أرض مطار بيروت وذلك تعبيرا عن تقديرها لهذه العاصمة ولشعبها.

ولعل حب الحياة، المفرط أحيانا، هو ردة فعل على الظروف التي لا يكاد يرتاح منها اللبنانيون حتى تعود، فيسارعون الى نفضها وتحديها ايماناً منهم بالاستمرارية، من دون اغفال طابع الضيافة الذي يجيد اللبنانيون استثماره في مجال السياحة مع انفتاح على الثقافات الاخرى وعيشهم تفاصيلها بما يتلاءم مع حياتهم ومتطلباتها. وتتجسد الضيافة وحسن استقبال الزائر عبر صور متنوعة في سلوك يوميات المواطن، فالبائع اللبناني او حتى سائق التاكسي وبعد حوار مع الزبون يبادره بعبارة «خليها علينا» عند الدفع، ما يشعر هذا الزبون بأنه ضيف مكرم، حتى لو كان ثمن ما يشتريه غالياً الا انه «ينهار» عاطفيا امام تلك «اللفتات» اللطيفة الصغيرة، ويبقى لفنجان القهوة مهمته المزدوجة ان لناحية الترحيب بهذا الزبون أو كعامل مساعد للتركيز واختيار ما يرغب في شرائه بهدوء. ويساهم في كسر الغربة واشعار الآخر بالالفة هو ان اللبنانيين مثقفون ومتعدّدو اللغات، كما ان عنصر الشباب هو الغالب على قطاع الخدمات. ومعظم هؤلاء الشباب يعملون ويتابعون تحصيلهم، الامر الذي يبهر الزوار العرب ويحصد تقدير الاجانب. ولعل تولي اللبنانيين العمل في المطاعم والفنادق والمتاجر هو ما يرفع منسوب الألفة لدى الزائر. ذلك ان العمالة في غالبية المدن العربية والعالمية الكبرى تكون بمعظمها وافدة، فيصبح التعامل بين السائح والبائع فيه الكثير من الحياد والغربة. وكثيرة هي الأماكن التي تشع بالحياة في بيروت. منها وسط العاصمة، وشارع الحمراء والمنارة والجميزة ومونو.

فالوسط التجاري للعاصمة الذي يشكل دائرة من الفن المعماري، مغلقة على السيارات ومفتوحة على الشركات والمؤسسات التجارية والمطاعم والمقاهي، اصبح متعدد الهويات، فهو مركز اقتصادي في النهار يجد فيه رجال الاعمال والمال كل ما يحتاجون. وهو عنوان السهر في الليل، لا سيما في فصل الصيف ومواسم الاعياد، حيث يصعب العبور سيرا على الاقدام من شدة الازدحام. وهو كذلك مصنع الافكار والتحركات الشبابية السياسية، تدور في فلكه قوى متنافسة وكأنها تتسابق على تثبيت وجودها في رحابه لتسجل حضورها على الخريطة السياسية المحتدمة التي تضيف الى بيروت كمية من الحياة، تحسدها عليها الشعوب المحيطة.

ففي وسط بيروت ارتفع شعار «أحب الحياة». والذين رفعوه تنافسوا على تقديم صورة جذابة في خضم الأزمات السياسية والامنية التي ألمّت بهم في السنوات الماضية. ولا يستطيع أحد إنكار التأثير الايجابي لهذا الاحتدام الذي نقله الاعلام العالمي، فدفع فئات جديدة من السائحين والفضوليين والباحثين عن خصوصية منطقة الشرق الاوسط لزيارة هذه العاصمة «المجنونة» حتى في حبها للحياة.

أمتار قليلة هي المسافة التي تفصل الجميزة عن وسط بيروت. قرب هذه المنطقة التي أخذت اسمها من شجرة الجميزة الكبيرة. من قلب العاصمة لم يفقدها رونقها بل زاد عدد زائريها. تكمن خصوصية الجميزة في مزجها بين الماضي والحاضر من خلال هندسة أبنيتها المعمارية التي رمّمت وبقيت محافظة على عراقتها أو من خلال مقاهيها ومطاعمها التي يزال عدد منها محافظا على طابعه القديم مع تجديد في المظهر الخارجي ان لناحية الديكور أو الألوان. وتمثّل قهوة الجميزة أو «قهوة الزجاج» التاريخية نموذجا يختصر تاريخ هذه المنطقة، فهي التي كانت تزينها طرابيش زائريها الحمر وشراويلهم، باتت اليوم مقصد الشباب اللبناني المتمدّن المحب للحياة والسهر بسروال الجينز وأفكاره الثورية والمتمدنة. أما الجلسة في قهوة الجميزة فلم تتغيّر طقوسها بل لا يمكن للسهرة ان تكتمل من دون لعب الورق أو لعب الطاولة على وقع أغنيات سيد مكاوي وفيروز وأم كلثوم. أما شارع مونو، جار الجميزة ووسط بيروت، فهو عنوان السهر الدائم، هو معقل الشباب وليلهم الصاخب حيث تبقى أصوات الموسيقى تصدح في الأرجاء طوال الليل ولا سيما ليلة السبت حين «يصعب الرقص» من دون حجز مسبق. اما معالم شارع الحمراء في الجانب الغربي من المدينة، فهي تتسم ببصمتها التي لا تمحى من الذاكرة مهما تغيّر طابعها او تبدّل. هذا الشارع الذي استطاع أن يتآلف مع الحركات الثقافية والسياسية اللبنانية الماضية منذ عشرات السنين حيث كان قبلة المثقفين والسياسيين وملتقاهم، ها هو اليوم يتأقلم بسلاسة مع ما يتطلّبه إيقاع الحياة السريع من دون أن يخلع عنه هذه الصورة بشكل جذري. فقد ارتدت الحمراء ثوب «التمدّن الثقافي» تاركة لمن يشعر بحنين الزمن الماضي فرصة إيجاد ضالته في هذا المكان «الرمز»، لكن هذا الماضي تطوّر بتطوّر حياة ناسه وزواره وطبيعة حياتهم، الأمر الذي جعلهم أوفياء لهذا المكان الجامع لكل فئات المجتمع اللبناني الاجتماعية والعمرية من طالب الجامعة والموظف الشاب الى المتقاعد الذي يستمتع بتصفّح جريدته على وقع «حياة الحمراء وصخبها». فمنطقة «الحمراء» التي يتهرّب اللبنانيون من المرور بأحيائها خلال ساعات النهار هربا من زحمة السير الخانقة التي تعيق عملية التنقل فيها بسهولة، يختصر في الوقت عينه جلسة الراحة الهادئة مساءً بعد العمل، في زاوية إحدى مقاهيه المنتشرة على طول الشارع. من مطعم «بربر» الشعبي الذي يقصده اللبنانيون من مختلف مناطق بيروت للتلذّذ بـ«سندويش سريع» أو شرب كوب عصير طازج، الى الكوستا و«تي مربوطة» و«ويونس» و«regusto» و«lina"s» وغيرها من المقاهي التي على كثرة عددها تبقى مكانا هادئا لارتشاف قهوة المساء بعد يوم عمل طويل ولقاء الأصدقاء والأحباء لمناقشة آخر الأخبار وتبادل الأحاديث على مقربة من الشارع العام، حتى أن وجوه قاصديها باتت مألوفة ومعروفة في أوساط رواد مقاهي الحمراء تكفي ابتسامة صغيرة على محياهم لالقاء التحية الصامتة. والجديد في الشارع الذي نام دهرا بعد مرحلة ذهبية قلما عرفها شارع عربي، انه عاد الى واجهة الحياة، لا ليستعيد مجده السابق، وانما لينسج طابعا جديداً مع مقاه ومطاعم صغيرة في امتداداته الفرعية، بما يذكر بأماكن أخرى في لندن وروما وباريس.

في الشارع الموازي لشارع الحمراء الرئيسي يعرف شارع «بليس» بحركته التي لا تهدأ ليل نهار منذ استقرّت فيه الجامعة الأميركية في بيروت وضخّت نبض الشباب الى زواياه حيث توزّعت المقاهي والمطاعم على طول الشارع، معتمدة الطابع السريع للحياة، وجامعة بين الشرقي والغربي في طريقة بيع مأكولاتها وتحضيرها. من «le sage» الذي يقدّم مناقيش الصاج اللبنانية على اختلاف أنواعها و«baguette» المتخصّص في أطباق الـ«fast food» الى «bliss» الذي احترف تقديم أشهى العصائر والبوظة... وبات مصدر زحمة سير هذا الشارع ولا سيما في ساعات الليل عندما يتسابق اللبنانيون على اصطياد موقف سيارة في هذه الزاوية أو تلك. يبقى أن جمال بيروت يكمن في عدم حصر متعة الترفيه فيها في فئة دون اخرى، فهي تجمع بين كل الطبقات الاجتماعية التي يختار افرادها منها ما يلائم طبيعة حياتهم وامكاناتهم المادية. كما هي الحال في مناطق لبنانية عدة، منها المنارة حيث تطيب النزهة على الكورنيش المحيط بأفخم المباني التي لا يقطنها الا ميسورو الحال، ولا تكلّف صاحبها إلا مبلغا زهيدا يكفي لارتشاف قهوة أو التلذّذ بـ«عرنوس ذرة» أو «كلاوي يا فول» (اي الفول الاخضر المجفف والمتبل)... وغيرها من الأمور التي اصبحت طقوسا لا يمكن لزائر هذه المنطقة الا الاستمتاع بها.