الساحة الحمراء.. عنوان لتعرجات التاريخ

كاتدرائية فاسيلي بلاجيني إحدى عجائب روسيا السبع

كاتدرائية «سانت بازيل» روعة في الهندسة والتصميم
TT

إذا كان برج ايفل تحول الى احد اهم اشهر رموز باريس، فيما صارت ساعة بيغ بين فوق مبنى البرلمان البريطاني رمزا للندن، والاكروبول رمزا لاثينا الى آخر النصب التذكارية للعديد من عواصم العالم، فان الميدان الاحمر وما جاوره من معالم تاريخية فريدة النمط يظل رمزا ليس لموسكو وحسب بل لكل روسيا المتعددة الاعراق والقوميات والمترامية الاطراف على مساحة تقترب من سدس اليابسة، فيما يبدو اليوم اهم معالم العاصمة الروسية التي يهرع اليها وقبل اي شيء آخر كل الوافدين اليها بمختلف درجاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم السياسية.

بعض من التاريخ: الميدان الاحمر او الميدان الجميل حسب المعنى التاريخي لكلمة «كراسني» في اللغة السلافية القديمة يستمد تاريخه من تاريخ ظهور العاصمة الروسية على خريطة الزمان والمكان في منتصف القرن الثاني عشر بعد الميلاد. ولعل مثل هذه المساحة الزمنية التي تفصلنا عن تاريخ هذا الموقع الشديد التميز والفرادة تسمح بسرد الكثير من تفاصيل ودقائق ذلك الزمان وهذا المكان. جغرافيا.. يقع المكان في قلب العاصمة الروسية التي ظهرت على ضفاف نهر موسكو امتدادا للكرملين الذي كان ولا يزال رمز السلطة ومركزها في الماضي والحاضر منذ ما يقرب من التسعة قرون. غير ان الحديث عن العلاقة الجدلية بين موسكو والكرملين يتطلب التوقف بالكثير من التفاصيل التي تقول بان تاريخ العصر فرض بناء التحصينات اللازمة للدفاع عن الطرق التجارية بين امارات ذلك الزمان ومنها امارة فلاديمير وسوزدال وكييف التي هي الاصل بالنسبة للدولة الروسية. ومن هنا جاء اختيار هذا الموقع لبناء قلعة اتخذت اسم الكرملين عند مفترق الطرق الرئيسية في المنطقة الواقعة بين ضفاف نهري موسكو ونيجلينايا. هكذا ظهر الكرملين قلعة للدفاع عن المكان الذي سرعان ما استمدت منه موسكو بدايتها. ويمضى الزمن سريعا ليشهد اتساع حركة البناء والتشييد على مقربة من هذا المكان في المنطقة التي يسمونها اليوم «كيتاي جورود» التي ينسبها الكثيرون على سبيل الخطأ الى الصينيين الذين لم تؤكد اي من الوثائق التاريخية وجودهم في ذلك المكان. وجولة سريعة بين ثنايا الكثير من المراجع التاريخية تفضي بنا الى اكتشاف ان الاسم لا علاقة له لا من قريب او بعيد بالصين او الصينيين، وانه مشتق من الكلمة الروسية القديمة «كيتا» او «كيت» التي اندثرت وكانت تعني في العامية الروسية مجازا «الضفيرة». ويستند المؤرخون في ذلك الى شكل الضفيرة الذي تتسم بها طريقة بناء الجدران الباقية اثارها في المنطقة (على مقربة من فندق متروبول حاليا غير بعيد عن الميدان الاحمر) والتي اقيمت على طريقة الحشو المتوالي لمختلف مواد البناء في محاولة للامعان في تحصين المكان. ونعود الى اضابير التاريخ لنشير الى ان الحاجة الى تحصين القلعة – الكرملين كانت فرضت انشاء قناة في المساحة الواقعة شرقي الكرملين تصل ما بين نهري موسكو ونيجلينايا وهي التي سميت بقناة اليفيزوف نسبة الى المهندس اليفيز فريازين الذي صمم هذا المشروع اي في نفس المكان الذي يشغله اليوم الميدان الاحمر. ويذكر التاريخ ان ظهور القناة بين نهري موسكو ونيجلينايا فرض الحاجة الى تشييد ثلاثة جسور للربط بين بوابات الكرملين بالشوارع التي تفضي الى الميناء المجاور على نهر موسكو والتي تحمل اليوم اسماء فارفاركا وايلينكا ونيكولسكايا وكانت قد اتسعت المتاجر الخشبية التي امر القيصر ايفان الرهيب بتشييدها في مواجهة الكرملين، وهي التي جرى استبدالها لاحقا بمبان حجرية بأمر من القيصر بوريس جودونوف بعد ان قضت عليها النيران في حريق اعتبر الاكبر في تاريخ الدولة وكان سببا في اطلاق اسمه في مرحلة لاحقة على هذا المكان. ويمضي الزمن ليفرض مقتضياته ومنها الحاجة الى تغطية القناة وازالة الجسور ليتحول المكان الى ساحة تجارية اتخذت اسم «الحريق» نسبة الى ذلك الحريق التاريخي او «السوق» الذي سرعان ما تحول مع سياق الاحداث الى اسم «الميدان الجميل» او «الميدان الاحمر» في النصف الثاني من القرن السابع عشر. وتتوالى الاحداث التي تركت بصماتها على المكان ليتحول يوما بعد يوم الى ما هو اشبه بسجل لتاريخ الدولة الروسية . ففي النصف الاول من القرن السابع عشر عكف اشهر المهندسين المعماريين على تجميل المكان تحت اشراف مباشر من جانب سادة ذلك الزمان لتأكيد موقع موسكو على الخريطة الجديدة للمنطقة. وفي هذا الاطار اقيمت في 1625 كاتدرائية قازان (نسبة الى ايقونة كنيسة قازان التي بقيت سليمة وسط رماد الحريق الذي التهم الكنيسة في منتصف القرن السادس عشر) في ذكرى تخلص موسكو من الغزاة البولنديين شمال شرقي الميدان قريبا من بداية شارع نيكولسكايا. وكان الحريق التاريخي في موسكو قد التهم هذه الكنيسة ليعاد بناؤها من الحجر في عام 1636 لتبقى شاهدا على تعرجات تاريخ العصور التالية منذ ذلك الحين وحتى العقد الاخير من القرن العشرين. ونتوقف هنا لنشير الى ان الحملة الدموية التي شنها الزعيم السوفياتي الاسبق يوسف ستالين في منتصف ثلاثينات القرن الماضي كانت سببا في تدمير هذه الكنيسة. وتقول الادبيات المعاصرة ان لازار كاغانوفيتش احد حكام ذلك الزمان استصدر من ستالين مرسوما بازالة الكنيسة من المكان وكذلك البوابات المقامة على مقربة من اجل توسعة المدخل الشمالي الشرقي للميدان الاحمر متذرعا بانها تحول دون مرور المركبات ومواكب الكادحين من العمال والفلاحين الى الميدان الاحمر ابان الاحتفالات الشعبية واستعراضات القوات المسلحة في الاعياد القومية. غير ان السائح الوافد اليوم الى الميدان الاحمر يمكن ان يشاهد ذات الكنيسة بعد ان امر الرئيس الاسبق بوريس يلتسين في تسعينات القرن الماضي باعادة بنائها بذات نموذجها القديم مع نفس البوابات التاريخية في المكان السابق والتي تبدو اليوم كأمها من تراث ذلك الزمان. ونعود الى الماضي لنقول انه وقبل تاريخ اقامة الكنيسة بقليل كانت اجريت بعض التعديلات التي استهدفت تجميل المكان وخاصة بوابة سباسكايا التي اختارها القياصرة للخروج من الكرملين الى الميدان الاحمر في موكبهم السنوي التقليدي في ذكرى خروج السيد المسيح من القدس. وكان هذا الموكب الذي سمي بـ«موكب راكبي الحمير» يتقدمه بطريرك روسيا يعقبه القيصر ثم كبار اعيان الدولة ثم رجال الدين والرماة وافراد الجوقة الذين يتبعهم الاطفال يمتطون ظهور الحمير. كما جرى رصف الميدان بالاحجار البازلتية اعدادا لدور تاريخي تباينت مشاهده بقدر تباين ايديولوجية الزمان. ولذا فقد تحول الميدان مع مطلع القرن العشرين واندلاع ثورة اكتوبر 1917 إلى القيام بدور ايديولوجي بعد انتقال سلطة البلاشفة إلى الكرملين في 1918. وتوالت المشاهد من مظاهرات العمال والفلاحين التي وفدت الى المكان للاستماع الى خطب فلاديمير لينين الى التظاهرات الجماهيرية المنظمة تأييدا لثورة اكتوبر الى الاستعراضات العسكرية في الاعياد القومية السوفياتية وقبيل الانطلاق الى جبهة القتال إبان سنوات الحرب العالمية الثانية وحتى العرض العسكري التاريخي الذي القيت خلاله رايات الفرق والألوية العسكرية الفاشية عند اقدام القادة السوفيات الذين اتخذوا ضريح لينين منصة لهم. وقد ظل الامر هكذا حتى آخر سنوات الاتحاد السوفياتي السابق ومطلع التسعينات، يوم اصدر الرئيس السابق بوريس يلتسين فرمانه بحظر اقامة المظاهرات الشعبية ذات الطابع الايديولوجي في هذا المكان وإن عاد الرئيس فلاديمير بوتين إلى استخدام هذا المكان ساحة لاقامة الاستعراضات العسكرية في المناسبات القومية والتاريخية في ظل رقابة رسمية تامة. وما دمنا قد تطرقنا إلى ضريح لينين فلا بد من العودة إلى قصة اقامة هذا الضريح. في يناير(كانون الثاني) عام 1924 تاريخ وفاة لينين صدر قرار اقامة ضريح تاريخي يليق بقدر زعيم الثورة البلشفية. وفي زمن قياسي وخلال ثلاثة ايام فقط صمم المعماري شوسيف هذا الضريح الذي اعيد بناؤه لاحقا من احجار الغرانيت وافخر انواع الرخام الذي جيء به خصيصا من ارمينيا . وتحول الضريح الى جانب كونه مقبرة احتوت جنباتها رفات الزعيمين لينين وستالين الى منصة يعتليها في المناسبات التاريخية والقومية زعماء الحزب والدولة خلال الاحتفالات الشعبية والاستعراضات العسكرية. ويذكر التاريخ ان الحزب الشيوعي السوفياتي عاد وبعد اعلان ادانته لظاهرة عبادة الفرد واعادة النظر في سياسات ستالين ليصدر قراره بنقل جثمان ستالين الى مقبرة اقيمت قريبا من الضريح أي في نفس المكان الذي تستقر فيه اليوم جثامين الكثيرين من قادة الحزب والدولة ومنهم بريجنيف واندروبوف وتشيرنينكو ممن تتصدر مقابرهم تماثيل نصفية بوصفهم عظماء الدرجة الاولى. اما الآخرون من مشاهير العلماء ورواد الفضاء فقد استقر رماد جثامينهم في زجاجات وضعت في تجويفات أعدت خصيصا للاحتفاظ بها في جدار الكرملين المطل على الميدان الاحمر خلف ضريح لينين. غير ان هناك مقابر أخرى تسمى بمقابر عظماء الدرجة الثانية تقع في أطراف موسكو على مقربة مباشرة من «دير العذارى» والذي دفن فيها خروشوف وغيره من العظماء ممن لم تكن القيادة الحزبية راضية عنهم بالدرجة التي يليق معها ان يحظوا بشرف الدفن في الميدان الاحمر وهي التي صارت بدورها مزارات سياحية لما فيها من نصب تذكارية تشكل تحفا فنية فريدة النمط. جدير بالذكر ان ضريح لينين ورغم بقائه موقعا مقدسا لا يزال يقصده الحزبيون المتشددون من انصار الفكر اللينيني، تحول إلى مزار سياحي يستقطب اهتمام الوافدين الى موسكو في الوقت الذي يتواصل فيه الجدل السياسي والاجتماعي حول عقلانية الابقاء على جسد لينين «محنطا» في الميدان الاحمر مما يتناقض مع التقاليد الارثوذكسية، التي تنتقد تحويل الميدان الى مقابر ولا سيما بعد ان صار ساحة تسمح السلطة الروسية فيها باقامة الحفلات الموسيقية الصاخبة والاحتفالات الشعبية والفعاليات الرياضية الشتوية. الغريب ان شيئا لم يصدر عن الكنيسة الارثوذكسية احتجاجا على اقامة الحفلات الموسيقية الصاخبة على خلفية كاتدرائية فاسيلي بلاجيني التي تعد اهم اشهر رموز الدولة على مر العصور. فماذا عن تاريخ هذه الكاتدرائية؟. كاتدرائية فاسيلي بلاجيني.. شاهد على العصر هي كاتدرائية فاسيلي بلاجيني.. وهي كاتدرائية بوكروفسكي.. وهي الكنيسة ذات القباب العشر.. تسميات مختلفة للاعجوبة المعمارية الفريدة النمط التي اقيمت في 1555-1561 بأمر القيصر ايفان الرهيب في ذكرى انتصاره على التتار والاستيلاء على قازان، التي تقف اليوم في صدارة المعالم التاريخية للدولة الروسية شاهدا على تعرجات تاريخ الدولة منذ منتصف القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين.. ولعله من الغريب والطريف معا ان تكون هذه الكنيسة صاحبة اكبر عدد من الاساطير والحكايات التي يتناقلونها حتى اليوم. من ذلك ما يقال حول ان اسم فاسيلي بلاجيني اختاره القيصر ايفان الرهيب تمجيدا لتاريخ القديس فاسيلي بلاجيني الوحيد الذي كان يخشاه. اما عن فاسيلي بلاجيني فيقولون انه كان يجوب المدن والقرى والنجوع عاريا صيفا وشتاء صائما في اغلب الاحيان يدعو الى الفضيلة وينهى عن الرذيلة متمتعا بقدرة هائلة على سبر اغوار النفوس وفضح الكذب والكذابين. كان يأتي الى المكان ليلقي عبر كتفه الايسر بما جمعه من عملات معدنية تظل في مكانها لا يشهدها احد حتى جاء قبيل وفاته ليسلمها الى ايفان الرهيب من اجل اقامة كنيسة. ويقولون ايضا ان هذه الكنيسة التي شيدت من الاحجار البيضاء وغدت قبرا لفاسيلي بلاجيني كانت اساسا للتوسعة التي نشهدها في ذلك الانسامبل المعماري الفريد النمط الذي تحول الى احد اهم الرموز السياحية للدولة الروسية. ونمضي مع الاساطير لنشير الى ان هذا البناء الذي جاء تحفة معمارية فريدة اصاب ايفان الرهيب بالذهول المشوب بالفرحة والدهشة معا ما دفعه الى استدعاء مصمميه وفقأ اعينهم للحيلولة دون تصميمهم لمثله بعد ذلك التاريخ. اما عن هذه التحفة المعمارية بقبابها العشر فهي انسامبل متجانس لتسع كنائس تحوي بين جنباتها ما يزيد على اربعمائة من اقدم الايقونات التاريخية. وفي ما يتعلق بتسمية الكاتدرائية باسم بوكروفسكي فانها تستمد وجودها من ذكرى بدء بناء هذه الكنيسة في يوم عيد شفاعة العذراء في اول اكتوبر (تشرين اول) من كل عام. وعلى مقربة من الكاتدرائية يوجد تمثال مينين وبوجارسكي الذي اقيم تكريما للاميرين اللذين قادا حملة طرد الغزاة البولنديين من موسكو عام 1612، الى جانب «لوبنويه ميستو» وهي منصة دائرية كانت تتخذ مكانا لاعلان المراسيم والقرارات الصادرة عن قيادة الدولة. ويبقى القول ان ما ذكرناه عاليه يظل مقدمة لحكايات اخرى كثيرة يمكن تناولها في اعداد ومناسبات لاحقة.