غابة الأرز تستقبل الزائر بالـ «أهلا وسهلا»

على أعلى قمم لبنان المكللة بالذهب الأبيض

غابة الارز المهددة بالزوال («الشرق الأوسط»)
TT

عندما كان السائح والزائر يقصد لبنان كان أول ما يرغب فيه أو ما يُرشد إليه هو غابة الأرز، أو «أرز الرب»، كما يطلق عليها اللبنانيون، التي شهدت أول مركز تزلج في لبنان ساهم، في فترة ما قبل الحرب في إنعاش منطقة الشمال على صعيد الفنادق والموتيلات والمطاعم.

ولم يبق مركز التزلج في الأرز وحيداً على القمم اللبنانية المكللة بالذهب الأبيض، بل ما لبثت مراكز التزلج أن احتلت العديد من القمم اللبنانية بدءا من مركز اللقلوق في منطقة جبيل، وانتهاء بمركز قناة باكيش ومركز الزعرور في منطقة المتن الشمالي، مرورا بمركزي فقرا وعيون السيمان في منطقة كسروان اللذين حصدا حصة الأسد من الكتلة السياحية في لبنان لقربهما من العاصمة اللبنانية، ولسهولة الوصول إليهما.

وفي محاولة لاستعادة بعض الوهج الذي افتقده مركز الأرز، نظمت وزارة السياحة لقاء لمجموعة كبيرة من الصحافيين في المركز المذكور من اجل إطلاق «اللجنة السياحية لمنطقة بشري- الارز» التي ستتولى تنشيط المنطقة سياحيا عبر سلسلة من النشاطات السياحية والثقافية والرياضية والاجتماعية والبيئية وسوى ذلك. وللمناسبة دشنت الوزارة ثلاثة مشاريع في المنطقة أولها إنارة المعبد القائم في قلب محمية الأرز، وثانيها توزيع نشرة سياحية مفصلة عن المنطقة، وثالثها إطلاق نشاطات مهرجان الأرز.

وقاصد الأرز يمكن ان يسلك طريقين. فالآتي من سورية برا او اللبناني القاطن في أنحاء البقاع ينطلق من بلدة دير الأحمر عند اقدام السفوح الشرقية من سلسلة جبال لبنان الغربية متسلقا منعطفات تشرف على سهل البقاع حتى بلوغ القرنة السوداء - أعلى قمم لبنان والتي يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 3088 مترا - ومنها يطل الزائر على غابة الأرز التي تعلو 1900 متر ومحطة التزلج التي ترتفع 2066 مترا ووادي قاديشا أي الوادي المقدس، وهذه الطريق تبقى مقفلة في فصل الشتاء لتراكم الثلوج عليها، وعندما يصفو الجو يمكن مشاهدة قبرص منها.

أما الطريق الأخرى فتنطلق من بيروت بحرا حتى بلدة شكا ومنها إلى بلدة بشري، مسقط رأس الأديب اللبناني جبران خليل جبران، والتي تضم متحفا له في دير مار سركيس يحتوي على ضريحه، وبعض ثياب الأصلية، والوثائق التي تروي مسيرته من لبنان إلى أميركا. وكان جبران قد أوصى بدفنه في مسقط رأسه. ويرشدك الدليل السياحي إلى وجود ضريح فينيقي بالقرب من المتحف.

ومن بلدة بشري تتفرع طريقان إلى غابة الأرز التي لا تبعد أكثر من 7 كيلو مترات. الأولى طريق قديمة، متعرجة وضيقة وتسمح بالوصول إلى «مغارة قاديشا» التي تتفجر منها شلال مدهش يبلغ أوجه في فصل الربيع، وتزين داخل المغارة ترسبات كلسية اتخذت أشكال نواتئ وفجوات، وقد تمت إنارتها بحيث يمكن للزائر ولوجها والتمتع بمناظرها. أما الطريق الأخرى فهي أكثر حداثة وتجهيزا وتبقى سالكة في فصل الشتاء حيث يتم جرف الثلوج عنها بشكل متواصل. وأيا كانت الطريق التي يتم سلوكها فلا بد للزائر من أن يتمتع بالمناظر المدهشة التي تجمع بين القمم المكللة بالأبيض، والوديان السحيقة التي تموج بالضباب.

وبالوصول الى الأرز تطالعك الفنادق والمطاعم والمقاهي ومحال بيع التذكارات، كأنك في قرية سياحية يقصدها الهاربون من الحر صيفا، والساعون وراء هواية التزلج شتاء، أو وراء الاستجمام والراحة. ولا تبعد الغابة عن هذه النقطة أكثر من كيلو متر واحد عبر طريق تصطف على جانبيها المطاعم الصغيرة ومحال بيع التذكارات، وتؤدي إلى مركز التزلج الذي يفوق سائر مراكز التزلج في لبنان بروعة مشاهده ونوعية ثلوجه. وتنتظم مسارب التزلج على منحدرات مدرج طبيعي يحتفظ بمنديله الأبيض طوال خمسة أشهر في السنة. ويمكن الوصول إلى أعلى هذه المسارب عبر خمسة مصاعد، بالإضافة إلى بعض المصاعد والمسارب المخصصة للأطفال. وتعود بدايات هذه الرياضة في المنطقة إلى ايام الانتداب الفرنسي، حيث انشأ الجيش الفرنسي مدرسة تزلج على مقربة من غابة الارز لا تزال منشآتها قائمة حتى اليوم، ولكنها باتت تابعة للجيش اللبناني. ومثل سائر ابناء الجبال اللبنانية يستقبلك ابناء المنطقة بالـ «أهلا وسهلا» والترحاب وحسن الضيافة. وإذا كانت بعض الفنادق الصغيرة تنقصها الخبرة، الا انها توفر للزائر الراحة الخليقة بجمال المناظر وروعة الطبيعة، وتقدم بدل إقامة يراعي الميزانيات الشخصية المتوسطة.

ومن يقصد الارز لا يحصر اهتمامه بممارسة هواية التزلج، بل بالتعرف الى غابة الأرز او ارز الرب، او محمية ارز بشري التي تعتبر أوسع غابات الأرز اللبنانية شهرة، وهي تضم ما تبقى من تلك الشجرة المعمرة التي اتخذها لبنان رمزاً على علمه، والتي ورد ذكرها في الكتب المقدسة والنصوص القديمة، والتي لعبت دورا بارزا في ثقافة الشرق الأدنى القديم حيث بدأ استثمار أخشابها بشكل مكثف منذ الألف الثالث قبل الميلاد عندما اخذت مدن الساحل الكنعاني تصدرها الى مصر، وتدفعها جزية الى الغزاة الاشوريين والبابليين والفرس، حتى ان حيرام الصوري زود الملك سليمان كميات منها لبناء قصره وهيكله، ولم يتوان الفينيقيون انفسهم عن بناء سفنهم بتلك الاخشاب البالغة الصلابة، واستخدام زيتها في طقوس التحنيط وصمغها كمادة عازلة.

واذا كان الامبراطور الروماني «هادريانوس» (117- 138م) اول من حاول حماية عدد من اصناف الاشجار التي كانت تنمو في جبال لبنان كالارز والصنوبر والسنديان والعرعر، فإن أول من اهتم بأرز بشري في العصر الحديث هي ملكة بريطانيا العظمى التي أمرت في عام 1876 بإقامة سور حول الغابة لحمايتها من اعدائها التقليديين، لاسيما قطعان الماشية التي تقضم البراعم وتقضي على الشجيرات اليافعة.

ويعطي عضو «لجنة أصدقاء الأرز» مدير برنامج «مؤسسة الرية العالمية» في قضاء بشري قزحيا طوق صورة مختصرة عن الغابة بالقول: «إن هذه الغابة، التي ترتفع في أعلى نقطة منها 2200 متر عن سطح البحر، وتمتد على مساحة 11 هكتارا، تمتاز بأنها تضم أقدم أشجار الأرز في العالم، ولم يبق فيها سوى 48 شجرة معمرة يصل عمر أكبرها الى أكثر من ألف سنة، وبعضهم يشير الى 2500 سنة. كما تضم 375 شجرة يصل عمرها الى بضع مئات من السنين من بينها اربع يصل ارتفاعها الى 35 مترا وقطرها بين 12 و14 مترا. وتمتاز هذه الاشجار باستقامة جذوعها، وبأغصانها المروحية الشكل التي تنبثق متعامرة مع الجذوع».

ويضيف طوق: «بعد هدم السور المحيط بالغابة بات يدخل اليها ويخرج منها من يشاء ومتى يحلو له. وللحفاظ على هذه الثروة أعدنا بناءه ووضعنا نواطير لحراستها بدعم من الجيش اللبناني الموجود في المنطقة بشكل دائم. وتتولى اللجنة صيانة الغابة وإدارتها وتتابع التفاصيل بالتنسيق مع الوزارات المعنية ولاسيما وزارات البيئة والسياحة والزراعة. وكانت بلدية بشري قدمت مليونين و250 ألف متر مربع من الأراضي زرعنا منها حتى الآن مليوني متر مربع، ويفترض إنجاز هذه المهمة في وقت قريب لزيادة التنوع البيولوجي ولنؤمن لأشجار الأرز بيئة أفضل. وتقتضي الإشارة هنا الى إعادة ترميم بعض الأشجار بعد ان يبست على يد الشاعر والنحات اللبناني رودي رحمة ومن بين تلك الأشجار ارز الشاعر الفرنسي لامارتين التي كان قد حفر اسمه على جذعها أثناء زيارته الغابة».

ويشير طوق إلى انه «في كل سنة يزور الغابة أكثر من 100 ألف سائح من كل أقطار العالم، وقد انخفض العدد نحو 15% في الأعوام الثلاثة الماضية. ولا شك في أن هذا العدد سيزداد بعدما أعلن عن ترشيح الغابة للفوز بلقب إحدى عجائب الدنيا السبع، ولمن لم يعلم بعد بترشيحها، ففي المكان مركز للتصوير يرشدهم إلى طريقة دخول الموقع».