العرب بين سياحة الترفيه والثقافة

السياحة الثقافية.. لها أهلها وناسها

زيارة المواقع الاثرية من قبل البعض لا تغوص أطثر في كواليس التاريخ («الشرق الاوسط»)
TT

بين الترفيه والثقافة يفضل اللبنانيون وسياحهم الخيار الأول الذي يقدّم لهم فرصة التسلية والاستمتاع بجمال الطبيعة. وبالتالي فإن غنى لبنان بمعالمه السياحية الثقافية من شماله إلى جنوبه وما بينهما من مناطق تزخر بأهم المواقع الأثرية في العالم، لم يحل دون سير هذا البلد في ركب توجّه المجتمعات العربية نحو نوع محدد من هذه الخيارات التي ترتكز بشكل خاص على الترفيه والسهر والتسوّق. فالمشهد قد تغيّر بالتأكيد بين الأمس واليوم، وسقطت مقولة أن لبنان بلد الآثار والثقافة التاريخية التي لا يمكن لسائح الا أن يغني ذاكرته بها. ليس هناك من اهتمام جدي لدعم هذا الكنز المغمور الذي يمكن أن يدرّ أموالا طائلة على لبنان وشعبه الذي يجهل قيمة ما يمتلكه من ثروة تاريخية أصبحت مهملة وفقدت قيمتها مع الزمن بغياب الاهتمام بها والترويج لها ليتفوق عليها كل ما يهدف الى التسلية والترفيه وتذوّق المأكولات اللبنانية. فالأهم بالنسبة إلى الذين يزورون لبنان اليوم هو الاستفادة من كل ما يفتقدونه في بلادهم وأهمها الطبيعة الخلابة بفصولها الأربعة ولا سيما البحر والثلج. أما عند الحديث عن السياحة الثقافية التي يكون الهدف الأساسي منها الثقافة وزيارة المواقع الأثرية والمعالم التاريخية والمتاحف والتعرف على الصناعات التقليدية أو أي شكل من أشكال التعبير الفني وحضور بعض النشاطات الثقافية مثل المعارض أو المهرجانات، فهي لا تتعدى بالنسبة إليهم تلك المتعلّقة بالمهرجانات الفنية الكبيرة وزيارة بعض الأماكن الأثرية الطبيعية المعروفة من دون أن تتحرّك حشرية هؤلاء للغوص أكثر في كواليس التاريخ الذي رسم معالم الأبجدية في مدينة جبيل أو «مدينة الكتاب» مكتفين مثلا بمغارة جعيتا ومنطقة حريصا وبيروت والتجوّل في شوارع المناطق الكبرى في المحافظات اللبنانية متناسين القلاع والمتاحف وغيرها من الأماكن التي تشكّل الحجر الأساسي لما يسمى السياحة الثقافية التاريخية. ولأبناء البلد دور في عدم شيوع هذه الثقافة، وأقل ما يمكن قوله في هذا المجال هو أنه نادرا ما نرى آباءً يرافقون أبناءهم في زيارة للمتحف الوطني أو لقلعة هنا وموقع هناك، بالرغم من أن الخطوة قد تحدث مثلا في صالة للسينما لمشاهدة فيلم معيّن أو حضور حفلة لفنان مشهور، الأمر الذي يعكس توجّه الثقافة نحو نوع معين من النشاطات الثقافية العصرية بعيدا عن التاريخية.

تشدّد ندى السردوك المديرة العامة لوزارة السياحة على أهمية السياحة الثقافية في لبنان التي تشمل، إضافة إلى المعالم التاريخية، كل النشاطات الثقافية وأهمها المهرجانات والمعارض والمسارح والمكتبات، التي تستقطب سياحا من مختلف الدول، وتقول «طبيعة لبنان الاجتماعية التي تميّز أبناءه عن غيره لجهة ارتفاع نسبة المتعلمين والمثقفين، تشكل عوامل مهمة أنتجت أرضا خصبة لصورة لبنان الثقافية، من هنا وبعدما وضعت منظمة الأمم المتحدة خمس مدن لبنانية على لائحة التراث العالمي، وهي بعلبك وصيدا وصور وطرابلس وجبيل، تعمل وزارة الثقافة اللبنانية على تأهيل المواقع الأثرية التي تزخر بها هذه المدن وعلى تسهيل المفهوم الثقافي لها وطريقة إيصاله إلى الجمهور ببساطة بعيدا عن التعقيد الذي قد ينفر السياح واللبنانيين عن هذه الأماكن، وذلك بهدف ربط الحياة المدنية بالحضارة التي يجب أن تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل». من جانبها، تسعى وكالات السياحة والسفر في لبنان لتنظيم رحلات دورية تهدف إلى التثقيف السياحي الداخلي الذي يستقطب اللبنانيين والسياح العرب والأجانب الذين تختلف نسبتهم بين جنسية وأخرى، وفي هذا السياق، تقول مديرة قسم السياحة الداخلية في وكالة نخال للسياحة والسفر وداد زهّار «تدخل المواقع الثقافية في صلب برامجنا السياحية التي ننظمها يوميا وتشمل كل المناطق من الشمال والجنوب والبقاع والجبل، لكن السياح لا يكترثون بصقل ثقافتهم بالتعرف على الآثار وتاريخ البلد الذي يتجولون فيه، بل همهم الأساسي ينصب على الأماكن الطبيعية والسهر والترفيه ولا سيما الثلج والبحر، وهذا ما يعبرون عنه عند اختيار البرامج السياحية وفقا للأماكن التي سيزورونها، التي ترتكز بشكل واضح على مناطق محددة ولا سيما في الشوف والأرز». وتلاحظ زهّار أن «نسبة العرب الذين يطلبون زيارة الأماكن الثقافية لا تتجاوز الـ 5 في المائة، لذا فإن معظم السياح الذين يقصدون المعالم الثقافية والتاريخية هم من الأجانب الذين يأتون لزيارة أصدقائهم اللبنانيين الذين يرافقونهم في جولاتهم، مع العلم أن اللبنانيين أنفسهم غالبا ما يجهلون خفايا هذه الآثار ولم يتعرفوا عليها من قبل، إضافة إلى قلة قليلة منهم يسعون إلى تنظيم رحلات برفقة أولادهم بهدف تعريفهم على الأماكن السياحية الثقافية». ويعتبر الأستاذ في كلية السياحة في الجامعة اللبنانية الدكتور هاني رعد، أن السياحة الترفيهية خاصة بفئة من الناس، والسياحة الثقافية خاصة بفئة أخرى، وبالتالي فإن جمهور الأولى يختلف عن الثانية ولا يتعارض معها. ويقول «الترويج للسياحة الترفيهية التي يزيد الإقبال عليها في لبنان أكثر من السياحة الثقافية، يلعب دورا مهما في عدم زيادة عدد السياح الذين يقصدون لبنان للتعرّف على معالمه الأثرية وتوجه معظمهم نحو السياحة الترفيهية والطبيعية». ويضيف «وبما أن السائح المثقف يختلف عن ذلك الذي يسعى وراء الترفيه، فإن الأول لا يمتلك عادة الإمكانات المادية التي يمتلكها الثاني، وتبقى السياحة الثقافية في لبنان مرتفعة الثمن بالنسبة إليه، مقارنة مع الدول المحيطة به وصعبة المنال في أوقات كثيرة». تعليقا على هذا الواقع، يعزو المتخصص في علم الاجتماع عبدو قاعي عدم رواج السياحة الثقافية في لبنان إلى «مناخ هذا البلد الاجتماعي الذي يشبه المناخات الغربية التي تجعل أهداف السياح، لا سيما العرب منهم، منصبة نحو عيش هذه الأجواء التي تعكسها له وسائل الإعلام». ويضيف «كذلك فإن طبيعة حياة الغربيين الذين يعيشون في مناطق تنبض بالثقافة، تجعل سلوكهم الثقافي في البلدان التي يزورونها أمرا تلقائيا لا يحتاج إلى تفكير». وبالنسبة إلى اللبنانيين وعدم اهتمامهم بالسياحة الثقافية يقول «رغم نجاح المدارس اللبنانية في المجال العلمي إلا أنها تفتقد التربية الثقافية التي تنشئ الأولاد على حب الاطلاع والتثقيف، إضافة إلى أن الأهل لا يسعون إلى تنشئة أولادهم وفق المنهج الثقافي».

من جهتها، تقول المرشدة السياحية برت أبو جودة «قبل عشر سنوات تقريبا كانت السياحة في لبنان أجمل وأكثر غنى وثقافة. كان اللبنانيون وكل السياح على اختلاف جنسياتهم يقصدون لبنان بهدف زيارة المواقع الأثرية والنشاطات الثقافية، أما في السنوات الأخيرة فتغيّر الوضع وتوجّهت الاهتمامات نحو السياحة الترفيهية، بالرغم من أننا لاحظنا مؤخرا بعض الخروق القليلة في هذا الموضوع، وأعتقد أن أسبابها تعود إلى انفتاح العرب وتواصلهم مع الأجانب المهتمين بالسياحة الثقافية». وتضيف «كذلك فإن هذا الخلل ينسحب أيضا على اللبنانيين أنفسهم الذين تفاجأ أنهم بالرغم من تقدمهم في السن غير ملمين بالسياحة الداخلية بشكل عام والسياحة الثقافية بشكل خاص. وفي معظم الأحيان نلاحظ أنه عندما نرافق مجموعات من السياح الأجانب يكون اهتمامهم منصبا على معرفة كل التفاصيل في ما يتعلّق بالأماكن الأثرية ويستفسرون عنها، ويحرصون على حجز البرامج اليومية التي ننظمها على امتداد خمسة أيام وتشمل الآثار والمعالم الثقافية، أما العرب فمعظمهم لا يحجزون أكثر من يومين لزيارة هذه الأماكن ولا يهمهم الاطلاع على المعلومات الدقيقة وقد لا يستمعون إلى الشروحات من الأساس». وتشير أبو جودة إلى أن الأماكن الأثرية تفتقد الأولاد الصغار وتلاميذ المدارس الذين لا يقصدونها إلا نادرا برفقة أهلهم، وتقول «يمكن القول إن المهتمين بالآثار السياحية من اللبنانيين والسياح تتراوح أعمارهم بين 35 و50 عاما».