فيلنيوس.. عاصمة أوروبا الثقافية

أحياؤها القديمة تحتفظ بعبق التاريخ الليتواني

منظر عام للعاصمة الليتوانية («الشرق الأوسط»)
TT

طبعت المنظومة السوفياتية الراحلة 1989 عدداً من الدول التي شملتها بنظامها بعادات سياسية وثقافية وطباع ما زالت متواجدة في هذه البلدان، رغم مرور عشرين عاماً على انتهاء تلك الحقبة السوفياتية السوداء من صفحات الواقع السياسي والثقافي في العالم. لكن هذه الدولة الصغيرة، لم تقع أسيرة الحلم السوفياتي بتغيير العالم بعد استيلاء البلشفيين على الحكم القيصري، بل هي والحق وقعت أسيرة الحكم القيصري قبل ذلك بمائة عام أي في عام 1815 حين أنهى جيش القيصر الروسي دوقية ليتوانيا التي امتدت من بداية القرون الوسطى وحتى ذلك الحين. في عام 1918 أعلنت ليتوانيا استقلالها رسمياً وبقيت على هذه الحال، حتى انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وتغير النظام العالمي في ذلك الوقت، فتم ضمها مجدداً إلى المنظومة السوفياتية التي كانت تسيطر على عدة دول، مما بات يعرف منذ ذلك الحين بأوروبا الشرقية. لكنها، كما غيرها من بلدان تلك الحقبة عرفت الاستقلال للمرة الثانية في عام 1991 وعانت من صعوبات جمة، مثل غيرها من الدول المستقلة، خاصة في المجالات الاقتصادية وإعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي. ورغم تخلصها من الكثير من المشاكل، فإنها لغاية اليوم تعاني من بعضها، مما يسبب حالة من انعدام التوازن بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي التي دخلت في منطقة العملة الموحدة. فليتوانيا لغاية اليوم رغم دخولها إلى الاتحاد عام 2004 ومنطقة الشنغن عام 2007، فإنها ما زالت تحتفظ باستقلالية عملتها (ليتا Litas). التي مجرد مقارنتها بالعملة الأوروبية الموحدة، تبين أن البلد ما يزال فقيراً، وأنه يسير على الطريق نحو الاندماج الكامل بأوروبا ولكن ببطء شديد مقارنة بغيره. وكغيره من بلدان أوروبا الشرقية، يعاني البلد من هجرة كثيفة إلى البلدان الأوروبية الأخرى وتحديداً بريطانيا، على ما تظهره الإحصاءات التي أجراها المعهد الوطني الفرنسي منذ عامين. والحق أن ليتوانيا على الرغم من التعثر في مسألة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فإنها مع ذلك دولة أوروبية حسباً ونسباً. أي أنها جغرافياً وثقافياً تنتمي إلى القارة العجوز، بحسب التسمية الحديثة لأوروبا. وهي ثقافياً ملتصقة، طوال قرون ما قبل انضمامها إلى المنظومة السوفياتية، بالثقافة الأوروبية تحديداً منذ أواسط القرن الرابع عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر. لكنها كالعديد من بلاد الشمال الأوروبي البعيدة عن المركز، كانت تعاني من تهميش طبيعي. وعلى الرغم من بعدها عن هذا المركز، فإن عاصمتها فيلنيوس اختيرت هذا العام من قبل أعضاء البرلمان الأوروبي عاصمة للثقافة الأوروبية. ولمدة عام كامل، ستكون ليتوانيا وثقافتها وجهةَ الثقافة الأوروبية والنشاطات الثقافية للاتحاد الأوروبي، مما يساهم، ربما، في خلق حالة من العودة إلى الجذور الثقافية لهذه الدولة، التي كانت كلما سنحت لها الفرصة بالاقتراب، أتت الأسباب القوية لتبعدها عن عمقها الثقافي والحضاري. فاختيارها عاصمة للثقافة الأوروبية الذي تم إقراره في عام 1985 بناء على اقتراح وزيرة الثقافة اليونانية في ذلك الحين ميلينا ميركوري، تم في العديد من العواصم والمدن طوال كل هذه الفترة. وهو الأمر الذي يرسخ من جهة أهمية الثقافة الأوروبية وتواصلها عبر الأزمنة، وإعادة شمل هذه الثقافة على المستوى السياحي من جهة ثانية. فبالنسبة لليتوانيين سيستعمل هذا الحدث لاستثماره في السياحة أكثر منه في الثقافة وهذا ما يبينه البرنامج السنوي للاحتفالات، حيث يتم التركيز فيه على الموسيقى والفن بمختلف أنواعه. وباستثناء نشاط واحد فقط يتعلق بالأدب هو «ربيع الشعر»، فإن الاحتفالية، وعلى مدار العام، تزخر بالاحتفالات ذات الطابع السياحي، مثل الموسيقى والمهرجانات التقليدية التي تعتبر حافزا إضافيا للسياحة في أي بلد. ذلك أنه حتى ثقافتها تعتبر ثقافة مركبة تجمع بين ثقافة السكان المحلية المتعلقة بالموسيقى الكلاسيكية، وثقافات بلاد الشمال الأوروبي من الجهة الشرقية مثل بولندا وبيلاروسيا الجارتين الأكبر لها. كما تشهد المدينة عودة موسيقى الروك التي كانت ممنوعة إبان الفترة الشيوعية.

كانت العاصمة فيلنيوس قبل انضمامها إلى ليتوانيا جزءاً من بولندا، ذلك أن معظم سكان العاصمة من الجذور البولندية مما جعلها تعيش لسنوات طويلة حالة من اللااستقرار الأمني والسياسي. ويعود التأثير البولندي إلى الفترة الواقعة بين الأعوام 1569–1385 حين تم تأسيس الحلف البولندي الليتواني، الأمر الذي جعل البلد شيئاً فشيئاً يقع تحت القبضة البولندية. وفي تلك الحقبة تم تأسيس جامعة فيلنيوس في العام 1579 وكانت الجامعة الوحيدة في منطقة شرق أوروبا في حينها. وتم تأسيسها من قبل الملك ستيفان باتوري وبمباركة من البابا غريغوار الثاني عشر، مما جعل من فيلنيوس أهم مركز ثقافي في أوروبا يومذاك. لكن وبموازاة ذلك كانت المدينة أهم مركز للثقافة اليهودية في شمال أوروبا، وفي تلك الفترة دعيت فيلنيوس القدس بالنسبة لليهود لما كانت تمثله من ثقل معنوي لهم. ومع تزايد النفوذ البولندي وقعت حرب السبعة أعوام بين البلدين 1655–1661. لكنها بعد ذلك حرقت من قبل القوات السويدية، وعانت من مرض الطاعون الذي قضى على الآلاف من سكانها، وكانت كل هذه الأحداث، تقريباً، توطئة لدخول روسيا القيصرية إليها واحتلالها التي بقيت فيها منذ عام 1795 حتى عام 1917. وفي ذلك الوقت شهدت المدينة طفرة ثقافية كبيرة بتحولها إلى مدينة النشر، حيث كان غالبية كتاب وشعراء روسيا القيصرية وغيرها ينشرون مؤلفاتهم فيها. وقد تأسست فيها أول جريدة يومية بيلاروسية في عام 1906 تحت اسم nasa niva. وتذكر الموسوعة الفرنسية أن رجل أعمال يهودي يدعى Mattatias stroschun ورث مجموعة ضخمة من الكتب وقام بشراء كتب أخرى وأسس في المدينة أكبر مكتبة يهودية في أوروبا في عام 1896.

وفي الحرب العالمية الثانية، كانت هدفاً أساسياً للجيوش النازية التي احتلتها واستخدمتها كممر طبيعي إلى الأراضي الروسية. ولهذا فإنها شهدت معارك ضارية وعاشت أوقاتاً صعبة، بسبب ما ارتكبه النازيون من مجازر في أي مكان مروا به. أما اليوم، فإن فيلنيوس تشهد نهضة اقتصادية وعمرانية كبيرة. وعلى غير عادة مدن وعواصم أوروبا الشرقية السابقة، يمكن في فيلنيوس مشاهدة المباني الحديثة المرتفعة إلى السماء في الحي الجديد les quartiers neufs المتاخم للأحياء القديمة التي تحتفظ بعبق التاريخ الليتواني القديم والتاريخ الجديد الذي عاشته المدينة في القرن العشرين. وقد تم تصنيف المدينة القديمة ووسطها المتميز بهندسته المعمارية الفريدة التي تعبر عن الثقافة المعمارية لمدن الشمال الأوروبي، جزءاً من التراث العالمي بحسب تصنيفات اليونسكو. إذا تتميز المباني بواجهات منحوتة تقليدياً إضافة إلى طلائها بألوان مميزة وفريدة هي في العادة تميز مباني شمال أوروبا، إضافة إلى الأنساق الهندسية مثل النماذج الباقية من عصر الباروك، وكذلك الهندسة القوطية وهندسة عصر النهضة الأوروبية. وتعد كاتدرائية القديس كازيمير واحدة من أهم النماذج الهندسية في كل أوروبا وترمز إلى هندسة الباروك. كما أن في المدينة قلعة تاريخية مهمة جداً تقع بالقرب من المقبرة البولندية - الروسية وتحتوي في داخلها المدفن الخاص لقلب الجنرال جوزف بلزودسكي الذي كان أحد رموز النظام الديكتاتوري في بولندا. أما منطقة uzupis التي تعني (ما وراء النهر) والتي تغطي كل المنطقة الواقعة على الضفة اليمنى من نهر vilnele فقد أضحت منذ عام 1990 المنطقة الخاصة بالفنانين، خصوصاً أنها تقع مباشرة بجانب أكاديمية الفنون الجميلة Dailes akademija التي تعد من أهم الأكاديميات في أوروبا. إلى مبنى البلدية العتيق الذي هو في حد ذاته تحفة معمارية فريدة. ولا يخلو زقاق في المدينة القديمة من ملمح تاريخي مهم لثقافة البلد. ولهذا فإن هذه المدينة تعتبر بحق شاهداً رئيسياً على زمن عاشته أوروبا منذ أواسط القرن الخامس عشر وحتى بدايات القرن العشرين، وصولا إلى الحقبة السوفياتية التي لها في المدينة شواهد كثيرة. وتتميز المدينة ببرج يرتفع إلى 326 متراً هو برج التلفزيون، وهو الأكبر في العالم، حيث إن منصته الأساسية ترتفع إلى 190 متراً في الهواء. ومع دخول فيلنيوس عصر الرأسمالية، بدأت المدينة تشهد ملامح التطور العمراني وتمازجها مع البناء التقليدي الذي يشكل هوية المدينة الحقيقية، وهذا بالطبع إلى جانب مباني الضواحي المستطيلة ذات اللون الرمادي الذي يعبر عن موت ما في أرجاء المدينة، وهي الأبنية التي بناها النظام الشيوعي يوم كان سيد البلاد والقابض على زمام أمورها. فكرة الموت هنا، التي كانت شعار النظام السابق، يؤكدها بشكل جلي عدم الاهتمام من قبل من شيد هذه الأبنية بالمساحات الخضراء التي هي تقريباً غير موجودة في الضواحي. يفتخر سكان المدينة بمعلم غير عادي هو مكتبة جامعة فيلنيوس التي تأسست مع تأسيس الجامعة في عام 1570، وهي من أقدم المكتبات العامة في العالم. وإلى أهمية محتوياتها من الكتب النفيسة والنادرة، أصبحت المكتبة منذ عام 1965 من المكتبات التابعة للأمم المتحدة. ويحفظ بداخلها وثائق منظمة اليونسكو للثقافة التابعة للمنظمة الدولية. وهي تحتوي حالياً على خمسة ملايين وثلاثمائة ألف مطبوعة، منها مائة وثمانون ألف مطبوعة محفوظة منذ القرن التاسع عشر والفترة التي سبقت في جميع المجالات الأدبية والتاريخية والعلمية. كما تحتوي على مائة أطلس قديم. وأكثر من عشرة آلاف بطاقة جغرافية رسمت على أيدي كبار الرسامين المتخصصين في هذا النوع من القرن السادس عشر والسابع عشر. كما تضم مائتين وستة وعشرين ألف مخطوطة بمختلف اللغات تعود تواريخ كتابتها بين القرن الثالث عشر والقرن العشرين. ويعد فرع المحفوظات القديمة من أهم الفروع في المكتبة، إذ يضم كل الوثائق التي تدل على تطور العلوم في ليتوانيا وأوروبا، إلى أرشيف للصور الفوتوغرافية يعتبر الأندر في العالم. ولا يتوقف الأمر عند هذا فقط، بل يشمل القسم زاوية تحفظ فيها الأختام الشمعية القديمة التي كان يستعملها الملوك والرؤساء وكبار الكتاب على مستوى العالم، من بينهم فيكتور هوغو وفولتير وبيار بيرانجيه... إلخ. ووفقاً لتقليد قديم في المكتبات العامة، تحتوي المكتبة على قسم خاص بالأعمال الفنية النادرة منذ عام 1805 وهي تملك مجموعة فنية تقدر بثلاثة وسبعين ألف عمل فني، أكثريتها من الفن التشكيلي الكلاسيكي، وكذلك الفن التشكيلي وكافة المدارس الفنية في القرن العشرين لكبار فناني العالم.