اسطنبول.. بعيدا عن مهند ونور

خلطة سحرية وجغرافيا فريدة

مسجد اورتاكوي الاثري
TT

قبل يومين من موعد سفري، التقيت في حفل أقيم في لندن بمسؤول في السفارة التركية، أخبرته في سياق حديثنا عن زيارتي القريبة إلى إسطنبول، فكان رده: «آه هذا جيد، ولكن يجب أن تعرفي أن لا وجود لمهند ونور في إسطنبول»، مشيرا إلى بطلي مسلسل «نور» التركي المدبلج باللهجة السورية، الذي عرضته عدة شاشات عربية، واستحوذ على شهرة غير مسبوقة في العالم العربي. وأضاف المسؤول أن المسلسل لعب دورا مهما في زيادة عدد السياح العرب إلى تركيا وإسطنبول تحديدا، كما راح عدد من مشجعي المسلسل إلى المنازل التي تم فيها تصوير لقطات من المسلسل، وسألوا عن مهند ونور، ولم يقتنعوا أن هاتين الشخصيتين ليستا إلا من صنع الفن والخيال.

فعلى الرغم من وسامة «مهند»، فإن هدف زيارتي إلى إسطنبول كان بدافع اكتشاف سحر تلك المدينة المميزة التي تحضن طرفي أجمل قارتين، هما أوروبا وآسيا.

انطلاقا من لندن، وبعد حوالي 3 ساعات ونصف الساعة، هبطت الطائرة في مطار أتاتورك، الواقع في القسم الأوروبي من المدينة، فأول ما تراه من الطائرة هو منظر مآذن المساجد العديدة التي تزين أفق المدينة، والهندسة المعمارية الرائعة، فوصلنا في ساعة الذروة، زحمة السير كانت خانقة، إنما لم تمنعنا من رصد اللحظات الأولى للتعرف على المدينة. موقع إسطنبول الفريد يجعل منها مدينة متعددة الثقافات، فهي تستمد من الشرق سحره، ومن الغرب تقدمه، ويشق القارتين مضيق البوسفور الممتد على مسافة 32 كلم، ويربط بحر مرمرة بالبحر الأسود، ولا تنتهي الجغرافيا غير العادية هنا، إنما تمتد إلى القرن الذهبي الذي يفصل الجانب الأوروبي من المدينة إلى قسمين؛ حديث وقديم، فتضم إسطنبول 27 مقاطعة، كل منها بنفس مختلف وثقافة مختلفة، والصفة المشتركة بينها هي التاريخ الغني والهندسة المعمارية المميزة التي تحمل توقيع الفن العثماني، كما أن مشهد جسر البوسفور المعلق ما بين القارتين على طول كيلومتر ونصف، تزينه المصابيح الملونة التي تضاء ليلا، وهذا الجسر يربط أورتاكوي ببيليربيي.

في طريقك إلى الشمال من القرن الذهبي ستدهشك المناظر الطبيعية في هذا القسم الكوزموبوليتاني من إسطنبول، فعلى ضفة البوسفور ترى القصور والبيوت الخشبية الأثرية الجميلة متراصة كحبات اللؤلؤ، وتعرف هذه المنطقة باسم «يالي»، بناها العثمانيون الأثرياء، ولحسن حظ الأتراك، كانت الحكومة صارمة فيما يخص قانون البناء في تلك المنطقة، مما جعل الهضبة المطلة على البوسفور والقابعة وراء تلك المناطق السكنية المتاخمة للبوسفور، فسحة طبيعية واسعة يمكن مشاهدتها من القوارب واليخوت، بحيث تنظم رحلات سياحية في البوسفور، بالإضافة إلى استعانة أهالي المدينة بتاكسي الماء الذي يعتبر من أفضل وسائل النقل في إسطنبول بسبب زحمة السير الخانقة في جميع الأوقات.

وقلب إسطنبول العصري يقع على ضفاف البوسفور إلى جهة القسم الأوروبي، وفي هذا القسم تتنشق الفن البوهيمي، لا سيما في ساحة التقسيم، كما تعرف هذه المنطقة أيضا كونها من أفضل عناوين التسوق في المدينة، وتجد فيها محل «نيزانتازي» الذي يعتبر من بين أشهر المحلات التجارية، كما يسكن في هذه المنطقة التي تعرف باسم «بيبيك»، وتعني «طفل»، النخبة من الأتراك من حيث الثراء الفكري والمادي، ويقصد السياح تلك المنطقة للتبضع والأكل في المطاعم الراقية الجميلة، والتمتع بألذ فنجان من القهوة في «أورتاكوي» و «بيزيكتاز».

قصة إسطنبول مع التاريخ طويلة، فهي كانت في الماضي عاصمة للرومان، ومهدا للإمبراطورية البيزنطية والعثمانية، وهذا الغنى الثقافي لا يزال مترجما في المساجد والقصور، لا سيما في محيط منطقة السلطان أحمد الواقعة إلى جنوب القرن الذهبي، وفي هذا القسم من المدينة تصطف أهم المعالم التاريخية السياحية جنبا إلى جنب، ففي دقائق معدودة يمكنك أن تتنقل مشيا على الأقدام بين قصر «توبكابي» وكنيسة «آيا صوفيا» و«الجامع الأزرق»، وأجمل منظر لتلك المعالم الثلاثة المميزة يمكنك أن تراه من تراس فندق الـ«فور سيزونز سلطان أحمد»، الذي كان مبناه سجنا سابقا يطل على البوسفور، وأهم المعالم السياحية في المدينة من دون أن ننسى سوق البازار الأشهر والأكبر في العالم.

عندما تزور إسطنبول، سوف تشعر بالثقافة المتعددة، الشعب منفتح، وبنفس الوقت رزين ومتزن، فهذه المدينة هي أكثر المدن التركية من حيث عدد السكان، يعمل فيها ملايين البشر، يأتي معظمهم من القسم الآسيوي للعمل في القسم الأوروبي، وذلك بسبب غلاء أسعار العقار في هذا القسم من المدينة، كما أن عدد السكان يرتفع كثيرا خلال النهار، وهذا ما يزيد من مشكلة زحمة السير، خاصة عند موعد الذروة، حيث يعود العمال إلى ديارهم في القسم الآخر من المدينة.

قد تكون الطريقة الأفضل للتنقل في المدينة هي المشي أو التاكسي المائي، فزحمة السير هي أسوأ ما فيها، فإذا كانت إقامتك في القسم الأوروبي من المدينة، أنصحك بالتوجه إلى القسم الآسيوي بواسطة القارب، وبعدها يمكنك التجول مشيا على الأقدام في الأزقة الضيقة التي تأخذك من ساحة التقسيم إلى معالم المدينة الأثرية الأخرى.

من أهم ما يمكن أن تراه في إسطنبول قصر «دولماباشيه»، الذي بني عام 1855 إرضاء لذوق السلطان عبد المجيد العصري الحديث، وهو يضم سلالم من الكريستال، وعرشا على علو 36 مترا في غرفة تزينها ثريا وزنها أكثر من 3600 كلغم، من الكريستال، وتكسو جدران الغرفة أطنان من الذهب.

ولمحبي المتاحف، لا بد من زيارة متحف «إسطنبول الحديثة» Istanbul Modern، الذي يعتبر المتحف الفني الحديث الأول في المدينة، وهو يمثل رمزا للثورة التقدمية. ويقع المتحف في كاراكوي المركز البحري الرئيسي في المدينة، ويضم غرفة مخصصة لثقافة الأطفال ومطاعم ومقهى يطل على البوسفور.

ولمحبي الفن البوهيمي، أنصح بالتوجه إلى ساحة التقسيم، التي تعتبر قلب إسطنبول الحديثة، ومنها تنطلق إلى مناطق التسوق وشارع الاستقلال «إستقلال كاديسي» والمنطقة الفرنسية «فرانسيز سوكاجي» للتعرف على مختلف الثقافات التي تزخر بها المدينة.

وإذا كنت من أصحاب البال الطويل والمفاصلة، فلا بد من زيارة سوق البازار الأشهر، وهنا تبدأ المبارزة ما بين التاجر والزبون، فينصح دائما بالحصول على 30 في المائة حسم على القطعة وعدم قبول السعر المطلوب، وينصح بشراء القطع الأثرية من السوق، بالإضافة إلى الجلديات والسجاد وأدوات الحمام التركي والصابون الطبيعي والحلويات التركية، فكل هذه الأشياء هي أرخص من أي مكان آخر في إسطنبول، بما في ذلك متاجر السوق الحرة في المطار، وهذا ينطبق على أسعار الحلويات والمأكولات الأخرى.

أين تأكل في إسطنبول؟

الخيار واسع، ولكن توجد عناوين مهمة تناسب أصحاب الذوق الرفيع، فإذا كنت من محبي مطاعم لندن العالمية، فيمكنك تناول العشاء في مطعم «زوما» أو «هاكاسان» بالإضافة إلى مطعم «سوادا» الواقع على جزيرة خاصة ومسبح خاص في فصل الصيف، ومطعم «رينا» الواقع على البوسفور والمطل على أجمل المناظر، ويتسع لـ2500 شخص، بالإضافة إلى مطعم «فيريي» و«قهوة البيت» (The House Café) ومطعم «أكوا» في فندق الـ«فورسيزونز البوسفور»، الذي يقدم ألذ أطباق السمك الذي تشتهر به إسطنبول. أما إذا كنت تفضل المأكولات المحلية، فتنتشر عدة مطاعم تقليدية بالقرب من البوسفور.

أين تقيم؟

توجد في إسطنبول عدة فنادق ومن جميع الفئات، ولكن إذا كنت تبحث عن الرقي وأسلوب معاصر للإقامة، فلا بد أن يكون عنوان إقامتك في فندق «فورسيزونز البوسفور» الواقع في القسم الأوروبي من إسطنبول والقريب من المطاعم الراقية والمتحف، أما إذا كنت من محبي التسوق وكنت تفضل الإقامة بالقرب من المعالم السياحية الأثرية الأشهر في المدينة، فيمكنك الإقامة في فندق «فورسيزونز سلطان أحمد» الذي يتمتع بموقع فريد ويروي قصة السجن السابق للمبنى وهو من فئة فندق «بوتيك».

الوصول إلى إسطنبول:

يمكن الوصول إلى إسطنبول مباشرة من أي مطار في العالم، وإذا كانت نقطة الانطلاق لندن، فيمكنك حجز التذكرة مع الطيران التركي أو الطيران البريطاني إلى جانب الطيران الاقتصادي مثل إيزي جيت. وأخيرا، ومثلما تستقبلك إسطنبول بمنظر مآذن مساجدها التي تزين أفقها، تودعك بسحر المشهد نفسه، ولكن عند عودتك سيكون في قلبك مساحة لإسطنبول وأهلها ومخطط للعودة إليها في الصيف لتتعرف على سحر البوسفور الحقيقي عندما تبسط الشمس سلطتها عليه وتزيده لمعانا. وستتأكد في النهاية أن إسطنبول جميلة، ولو كانت من دون مهند ونور.