البصـرة.. أنشودة المطر وملتقى الفراتين

مدينـة النخيل والشناشيل

امرأة في الأهوار («الشرق الأوسط»)
TT

تتمتع صناعة السياحة في محافظة البصرة، (560 كم) جنوب العاصمة العراقية بغداد، بتنوع كبير، مستمدة من دورها التاريخي والحضاري، باعتبارها أول مدينة بناها العرب المسلمون خارج الجزيرة العربية عام 14 للهجرة 135 م، فيها رابع مسجد للإسلام، ومراقد لصحابة أجلاء، وأماكن عبادة لكل الأديان، وأول مدرسة في علوم العربية، إضافة إلى مكونات طبيعية وبيئية فريدة، وثراء ثقافي وتراثي أصيل. وصفها كثيرون بمدينة الذهب، لأنها تحتوي على أكثر من ثلثي نفط وادي الرافدين، وثغر العراق الباسم، كونها الميناء الوحيد المطل على العالم عن طريق البحر، ودرة الخليج العربي، لما فيها من وفرة ماء وتمر وحناء.

وفي مقابلة مع «الشرق الأوسط» قال محمد مصبح الوائلي محافظ البصرة، إن «البصرة تمتلك مقومات سياحية نشيطة عند تفعيلها، وإن كان الاهتمام بهذا الجانب يأتي في آخر أسبقيات الحكومة، لكن المستقبل القريب ينبئ بازدهار كبير لها، لموقعها الجغرافي القريب من دول الخليج العربي، ولا يفصلها عن إيران أكثر من (16 كم) مرتبطة بدول العالم بالنقل الجوي عبر مطارها الدولي، والبري بواسطة شبكة من طرق المواصلات، ومشروعات للسكك الحديدية في مراحل التنفيذ، والبحري حيث تستقبل موانئها بشكل يومي مئات المسافرين». وأضاف: «تأتي السياحة الدينية في مقدمة اهتمامات الراغبين لزيارتها، لكونها تشتهر منذ القدم بالتنوع الديني والثقافي، ومن المدن العربية التي تتجاور فيها دور العبادة لكل الأديان والطوائف، ومن أشهر مدنها قضاء الزبير بن العوام، الذي دفن فيها سنة 38 هجرية 658 للميلاد، وهي تقع في القسم الشمالي الشرقي للجزيرة العربية، وقد أثر هذا الموقع في تكوين مجتمع له طابع خاص، إذ يتطهر سكانها بصحراء البادية، ويقضون أجمل أوقاتهم في بيوت الشعر وصيد الصقور والحباري، يؤمها مئات السياح لزيارة مراقد الصحابة، الزبير وطلحة بن عبيد الله وأنس بن مالك، والجامع الذي شيده الصحابي عتبة بن غزوان، وهو رابع جامع يشيد في الإسلام، وفيه صلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وما زالت آثار منارته باقية إلى اليوم، إضافة إلى مراقد الكثير من الأعلام ضمتهم مقبرة الحسن البصري وسط المدينة». وفي البصرة مرقد نبي الله العزير، عليه السلام، أحد أنبياء الديانة اليهودية، وذكر المؤرخونإ ومن بينهم (الإسكندر دامون)، في كتابه (ولاية البصرة بين حاضرها وماضيها)، أن نبي الله العزير عليه السلام دفن في بلدة صغيرة كانت تسمى (زمزوم) على نهر دجلة، وأن السفن كانت تنقل الزائرين إلى المرقد، حيث كان يقصدها الناس من مناطق بعيدة، ويرى (الحموي) المؤرخ، أن اليهود العراقيين لا يشكون في صحة وجود القبر في مكانه الحالي، بناحية العزير، التي يؤمها أيضا المسلمون من العرب وغيرهم، ويعلل بعض المؤرخين أن كثرة اليهود العراقيين في البصرة والعمارة يعود إلى وجود المرقد، حتى شاع اسم (عزرا) بين أولادهم، تيمنا باسم النبي العزير عليه السلام، إضافة إلى أقدم دير، حيث أطلق على مدينة بالاسم ذاته (40 كم) شمال المدينة. ارتبط اسم البصرة بالنخيل والتمر منذ القدم، حتى أصبحت موطنا لأجود أنواعه، وبه اشتهرت، حيث تمتد على ضفاف الأنهار وتستمر بساتين بمحاذاة الشاطئ، الذي يبلغ طوله 241 كم، وتزداد كثافة وتوسعا من منطقة أبي الخصيب حتى نهاية اليابسة العراقية في رأس الييشه بالفاو، وقد أشارت المصادر الاقتصادية أن في البصرة أكثر من ثلاثين مليون نخلة، حتى نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي. ومن أشهر أنوع التمور، الذي يسوق أما رطبا أو تمرا، هو البرحي الذي يطلق عليه ما كنتوش البصرة، إذ يبعث أهالي البصرة عبواته إلى الأحبة والأصدقاء في كل أنحاء العالم، ويتفاخر مالكوه بأصنافه، إضافة إلى الخضراوي والخستاوي والقنطار والبريم والحلاوي، ومئات الأنواع التي كانت تقيم لها كلية الزراعة معروضات خاصة، ومنحت اختصاصه عشرات الدراسات العليا. كما اشتهرت البصرة بمعامل تصنيع التمور في مناطق الداكير وغيرها، وتصدر سنويا مئات الأطنان منه عبر ميناء البصرة، وخاصة إلى دول شرق آسيا، فيما تصدر الأنواع الجيدة والمحشوة في علب أنيقة بالجوز واللوز إلى الأسواق العالمية، إضافة إلى صناعة الدبس الطبيعي والخل. وأوضح محافظ البصرة: «أن من المعالم السياحية الملتقى الأزلي لنهري دجلة والفرات في منطقة القرنة (70 كم) شمال البصرة، وفيه يقع «شط العرب» الخالد، الذي احتوى هو الآخر على عشرات الجزر السياحية، ومن أشهرها جزيرة السندباد، التي انطلق منها السندباد البحري المعروف في رحلاته، وتعد من أجمل أماكن الأعراس في فصل الشتاء، حيث تضم الشقق والكازينوهات والحدائق ومدن الألعاب، إضافة إلى بساتين النخيل مع مجرى الشط، الذي تتفرع منه مئات الأنهار.

وتتوهج على شط العرب المقاهي، ومن أبرزها مقهى البدر، التي تم افتتاحها عام 1945، يتعطر روادها بأريج الماضي، ويتبادلون أطراف الحديث عن أخبار الوطن والأدب وهموم الناس في المهجر، لم تغير اسمها، على الرغم من تغير مسميات الشارع الواقعة فيه من شارع الأمير عبد الإله إلى الحرية ثم الكورنيش، وبعدها شارع الشهداء ثم الكورنيش مرة أخرى، هي مقهى بدر شاكر السياب، وسعدي يوسف، وزكي الجابر، ومحمود البريكان، وفيصل لعيبي، وعادل كاظم، وغيرهم كثير غادروها، وهي أيضا التي يتماشى فيها أدباء ومثقفون وأساتذة الجامعة وفنانون وأطباء ومتقاعدون وطلبة الجامعة من المحافظات، لها تقاليد عمل وعلاقات إجتماعية وثقافية مع روادها، هي توأم مقاهي عرب و حسن عجمي والبرازيلية والزهاوي والرصافي في بغداد، وهي من جيل مقاهي توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمود العالم ونجيب سرور في مصر، وتحتضن البصرة عالم الأهوار الساحر، وهي أراضي منخفضة يدخلها النهران الخالدان بعد رحلتما الطويلة والشاقة، وهما نهران مختلفان، وما يحدث لأحدهما لا يحتم حدوثه للآخر، فمرة يأتي موسم فيضان دجله عاليا، بينما فيضان الفرات شحيحا واطئا، كما يختلفان في الطول، فدجله لا يتعدى طوله 1718 كيلو مترا في العراق، والبقية في سورية، بينما يصل طول نهر الفرات 2330 كيلو مترا، منها 1200 كيلو متر في العراق، و675 كيلو مترا في سورية، و455 كيلو مترا في تركيا وبعدها، ويصبان هذان النهران أحمالهما من المياه في الأهوار، ثم يخرجان بعد التقاط أنفاسهما منها باتجاه الجنوب، مكونين شط العرب، حيث تندفع فيه المياه لتصطدم بمياه الخليج العربي في منطقة الفاو، أقصى جنوب البصرة. كما تشتهر البصرة بأسواقها الحديثة والتراثية، ومن أشهرها سوق الهنود، التي سميت بذلك لكثرة محلات الهنود المقيمين فيها، ومن عراقيين يتاجرون بسلع هندية يستوردها هنود أو يستوردها تجار المدينة الكبار أيضا، خاصة التوابل، والبهارات، وماء الورد، ومطيبات الأطعمة، والعنبة الطازجة والبخور، وتمر الهند، والأقمشة، وهو يمتد من ضفة نهر العشار ويتجه إلى شارع أبي الأسود، ويحوي محلات الأقمشة والملابس والصيدليات والمكتبات والفنادق. من هذا السوق تتفرع أزقة عديدة. بعضها ضيق جدا وبعضها الآخر عريض، فيها مراكز بيع الفواكه، والقهوة البرازيلية، والشاي السيلاني، والسكر الفرنسي، والقند الإيراني، والأقمشة الانكليزية. ومن معالم المدينة أيضا بيوت البصرة التراثية بشناشيلها المعروفة، التي نسجها المعماريون وفق طرز فريدة من الجمال والروعة، تبرز منها واجهاتها الخشبية، التي تحمل أريج الماضي، المفعم بمحبة المدينة ودفء ألفة الشوارع والأزقة، حتى سميت البصرة مدينة الشناشيل، وخلدها شاعرها السياب بديوانه (شناشيل ابنة الجلبي).  لم يلجأ المعماريون والبناءون قبل أكثر من ثلاثة قرون إلى هذا الطراز من بناء البيوت، الذي يدخل الخشب في معظم تصاميمه لأسباب تتعلق برخوة الأرض وقدرتها على تحمل الطوابق العليا وقتذاك فحسب، بل لتداعيات مناخية وجمالية ساهم توفر الخشب الذي يصل إلى البصرة عن طريق البحر، وبما يمنحه من حرية الحركة وسهولة التحكم ومرونة التشكيل، إلى اعتماده وبما يرضي الذوق العام، ويجعل من واجهات هذه البيوت بما يشبه لوحات تشكيلية زاخرة بفنون الزخرفة والخط والأشكال الهندسية المتداخلة. واشتهرت البصرة بفرقتها للفنون الشعبية على مدى أكثر من ربع قرن، من خلال عروضها الفنية المستوحاة من فلكلور المدينة وموروثها الحضاري، الذي جسدته بأداء متناغم بين رقص إيحائي وكلمات عذبة ولحن جميل، في لوحات من أبرزها الهيوة، والخشابة، والسامري، والخماري، والنوبان، والنهم، وعشق صياد، والجنية والكاسور، حتى باتت الفرقة أحد المعالم الحضارية للمدينة، تستقبل المشاركين بمهرجانات المربد السنوية بكل جديد، كما عرفتها مسارح موسكو وبرلين ولندن وباريس ومدريد، ونالت الجوائز في المهرجانات العالمية، وصفق لها متذوقو الفنون الشعبية في معظم دول شمال أفريقيا، وانتزعت إعجاب الناس في دول مجلس التعاون الخليجي.

وفي مجال الرياضة والشباب، تستعد محافظة البصرة لاستضافة  دورة الخليج العربي 21 لكرة القدم، المقرر إقامتها عام 2013. وقال محمد مصبح الوائلي، محافظ البصرة: إن «قرار دول الخليج العربي إقامة خليجي 21 في العراق وفي محافظة البصرة على وجه الخصوص، ليس وليد مقررات خليجي 19، الذي أقيم مؤخرا في سلطنة عمان، بل يعود إلى الدورة التي سبقتها في دولة الإمارات العربية المتحدة» وأكد لـ«الشرق الأوسط»، أن «اختيار محافظة البصرة لإقامة الدورة يأتي لعدة أسباب، من بينها قرب البصرة من دول الخليج العربية، والعلاقة التاريخية والأسرية بين أهل البصرة والمجتمعات الخليجية، فقد كانت البصرة قبل اكتشاف النفط مركزا تجاريا مهما لدول الخليج العربي، يتسوق منها الخليجيون التمر والقمح وحتى الماء العذب، وهذا ما أكسب تعاطف شعوبهم على المدينة، التي تعرضت لحروب متواصلة خلال نصف قرن مضى».