أخطار الطيران.. بين مواجهتها أو الاستسلام لها

بين التوتر والخوف من المجهول

رحلات جوية لا تخلو من المطبات الهوائية («الشرق الأوسط»)
TT

لم يستطع الطيّار التونسي شفيق الغربي السيطرة على الهلع الذي انتابه عندما شعر بخطر يصيب الطائرة، فلجأ إلى الابتهال إلى الله والصلاة علّه يستطيع إنقاذ حياته وحياة المسافرين. باءت كل محاولات الغربي بالفشل وسقطت طائرته فوق المياه الإقليمية الإيطالية وحكم عليه بالسجن عشر سنوات. نهاية حزينة لخطر قد يواجهه أي طيّار وفريق عمله، وكذلك المسافرون على اختلاف أعمارهم وجنسياتهم. عديدة هي الأحداث التي تجعل الناس يصابون بـ«فوبيا» السفر بالطائرة. منهم من يتّخذ قراره بناء على وقائع ملموسة كتلك التي واجهت الغربي، ومنهم من يعيش في دائرة الخوف بالفطرة. لكن العامل المشترك يبقى الهاجس الذي يتربّص بهم مجرّد التفكير في الصعود إلى الطائرة معلّقين بين السماء والأرض، حيث يزخر الخيال بكل أشكال الأخطار المريبة. وخير مثال على ذلك ما يعرف عن عدد كبير من المشاهير الذين يخافون السفر بالطائرة. فآل الرحباني مثلا معروفون بخوفهم من وسيلة النقل هذه، والراحل محمد عبد الوهاب كان يمتنع عن ركوب الطائرة ويستعيض عنها بالقطار أو السيارة أو الباخرة. كذلك فإن الأديبين طه حسين ونجيب محفوظ لم تطأ أقدامهما سلّم طائرة. ومن بين مشاهير الغرب يعرف عن عارضة الأزياء الألمانية كلوديا شيفر أنها تفضّل السفر بالسيارة والباخرة بدل التحليق على ارتفاع 30 ألفاً أو 40 ألف قدم.

هذا الواقع يحمّل القائمين على الرحلات مسؤولية مضاعفة قد تضعهم في موقع «الخائف الشجاع»، أما أن ينجحوا في محاولاتهم الإنقاذية أو يفشلوا وتكون النتيجة كارثية. وهنا يطرح السؤال حول كيفية تفاعل هؤلاء الأشخاص مع الخطر، لا سيما عندما يتعلق الأمر بطريقة التعامل مع المسافرين الذين يلجأون إلى كل ما توفّر لديهم من أساليب للتخفيف من نوبات الخوف التي تصيبهم في حالات الطيران الطبيعية والسليمة وتتكثّف مع تزايد حدة الخطر. منهم من يحاول جاهدا القضاء على رهبة الرحلة الجوية بالنوم الذي قد يبقى مهمة مستحيلة بالنسبة إلى آخرين، ومنهم من يلجأ إلى الأدوية المهدئة للأعصاب. ومع تنوع الأساليب للبحث عن الأمان تبقى الصلوات والأدعية السبيل الوحيد الأسهل وربما الأجدى. وبالعودة إلى دور الطيار وفريق عمله، نجد أن المعادلة تصبح صعبة إن لم تكن مستحيلة في بعض الأحيان. تقول جمانة حداد التي عملت مضيفة طيران لسنوات عدة: «مهما كانت الأخطار التي قد تواجهنا، علينا أن نحافظ على هدوئنا ونسيطر على أعصابنا فلا نظهر الخوف الذي في داخلنا، بل على العكس مهمتنا هي تهدئة المسافرين وإرشادهم إلى الخطوات التي عليهم القيام بها». وتضيف «مع العلم أننا كنا نشعر بخوف شديد حين نعلم بوجود مشكلة ما في الطائرة، لكننا كنا مجبرين على إظهار عكس ذلك. ويحصل هذا الأمر بعدما يخبرنا الطيّار بالمشكلة التي تواجهه. عندها علينا عدم إخبار المسافرين إلا في حالات الذروة حين يستحيل إخفاء التغيّرات غير الطبيعية. وعلى رغم ذلك فعلينا أن نخفّف من وطأة المشكلة من خلال طمأنتهم والقول لهم بأن ما يحصل أمر طبيعي وليس خطيرا، مع التشديد على ضرورة اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة وأهمها وضع حزام الأمان، وأن تعمد الأم إلى وضع طفلها في حضنها، كما نتأكّد من حصول كل راكب على الأكسجين اللازم وإبعاد الحقائب من أمامهم، لنهتم في نهاية المطاف بأنفسنا ونجلس في أماكننا حذرين مترقبين ما قد يحصل». وتشير حدّاد إلى أن «الإقلاع والهبوط هما من أهم المراحل التي قد تتعرّض خلالها الطائرة لمشكلة معينة من دون إغفال المشكلات العادية التي تحصل، وأهمها الهزات التي تنتج عن المطبات الهوائية. وكذلك يكون تركيزنا منصبا على الاهتمام بالمسافرين وإبعاد شبح الخوف عنهم». وتقول: «في أحيان كثيرة حتى لو لم نخبر المسافرين بخطورة المشكلات يصابون بنوبات خوف أو حتى نوبات صحية، بعدما يشعرون بتغيرات في التحليق. وهنا نعمد إلى مساعدتهم بما توفّر لدينا من خبرة في الإسعافات الأولية. وإذا كانت المشكلة خطيرة، نطلب من طبيب، إذا وجد على الطائرة، المساعدة أو نضطر إلى الاتصال بالمطار المتوجّهين إليه لتجهيز اللازم لإسعاف المريض». وتتذكر حدّاد حادثة حصلت معها: «في إحدى المرّات تعرّضت الطائرة لمطب هوائي ووقعت على الأرض وشعرت بألم لكنني عدت واستعدت قواي محاولة إخفاء الوجع كي لا يتأثّر بي المسافرون». يعطي الطيّار في شركة «طيران الشرق الأوسط اللبنانية» جاد قطيمي وجهة نظره بناء على خبرته الطويلة في هذا المجال، ويقول «في عملنا الخطأ ممنوع. وبالتالي علينا التركيز بالدرجة الأولى على كيفية التعامل مع المشكلات التي قد تطرأ على عمل الطائرة، ومهمتنا التصرّف بأسرع وقت من دون تسرّع. وبالتالي يجب عدم إخبار المسافرين بما يحصل على الطائرة، ليس من باب حجب المعلومات عنهم، لكن لأن علمهم بالموضوع قد يؤدي إلى توتّرهم، وبالتالي عدم استجابتهم للتعليمات التي نعطيهم إياها. لكن عملية إخبارهم تتم في معظم الأحوال بعد أن نكون قد سيطرنا على الخطر. ونتكلّم عندها مع المسافرين بثقة تامة لا تعكس أي توتّر أو خوف من دون أن نتطرّق إلى التفاصيل، لا سيما إذا كانوا قد شعروا بتغيرات غير طبيعية».

ويضيف: «في حالة فقدان الضغط في الطائرة مثلا، لا بد من التشدد في إعطاء المعلومات والتأكّد من أن المسافرين قد نفّذوها كما يجب، لأن المعلومات نفسها تكون قد أعطيت في بداية الرحلة لكنهم لا يولونها أهمية كافية في حينها. كذلك في حالة اتخاذ قرار العودة إلى المطار، لا بدّ من إعلامهم بالأمر مع التأكيد أن كل شيء تحت السيطرة».

يؤكّد المتخصّص في علم الدماغ السلوكي أنطوان حداد ضرورة إعلام المسافرين بما يحصل على الطائرة، لا سيما الأعطال الفنية، لأن تأثير الخوف إذا صدر من داخل الطائرة أقوى على نفوس المسافرين من ذلك الذي يأتي من الخارج كالمطبات الهوائية. ويقول: «يجب إخبارهم بما يحصل تدريجيا كي يتحضّروا نفسيا لمواجهة الموقف؛ لأن إعلامهم بشكل تدريجي أفضل من إخفاء الأمر عنهم، خصوصا إذا شعر المسافرون بتصرفات غير طبيعية يقوم بها طاقم الطائرة. عندها ستتضاعف رهبتهم وخوفهم على مصيرهم المجهول. والمعرفة مهما كانت مزعجة تبقى أفضل من عدمها، لا سيما في الطائرة حيث تسيطر فكرة معينة على المسافر وهي أنه معلّق في الجوّ متناسيا أن الأرض هي التي تدور، وهنا يبقى عنصر المفاجأة أقوى على المسافرين من أي مكان آخر».