افتح كتابا وارسم نجما.. أنت في الإسكندرية

على شواطئها تعانقت شتى العصور والأزمنة

مكتبة الإسكندرية في ثوبها الجديد منارة ثقافية دولية («الشرق الأوسط»)
TT

برغم طبيعتها الساحلية وشهرتها كعروس مصايف البحر المتوسط، فإن الإسكندرية عرفت على مر العصور كونها مركزا ثقافيا ومنارة للإبداع. لذلك فمتعة التجول بين شوارعها ومعالمها تضيف لك الاستمتاع بجولة عبر محطات تاريخية وحقب زمنية مختلفة بداية من العصر الفرعوني ثم البطلمي واليوناني والروماني والقبطي والبيزنطي والإسلامي والحديث. يعزز ذلك تمتع الإسكندرية بطراز معماري متميز وأبراج وحصون تعتبر شواهد على تاريخها، فقد حولها الإسكندر الأكبر من قرية عرفت باسم «راقودة» إلى مدينة عريقة تقع على بعد 221 كم من القاهرة، فتاريخ الإسكندرية الثري حاضر في كل ركن من أركانها، حتى في أسماء أحيائها وشوارعها مثل: كامب شيزار، أي معسكر قيصر، وزيزنيا، أي الكونت اليوناني السكندري، وميدان سانت كاترين، القديسة المسيحية، وسان ستيفانو وستانلي ومحرم بك وسابا باشا وآل الشاطبي (نسبة للإمام الشاطبي التي عاش بها) وسموحة وسيدي جابر وسيدي بشر. وعلى ذلك تنفرد الإسكندرية بسياحة ثقافية متميزة، فيمكنك من خلال جولة استطلاعية بالمدينة أن تكتشف بقايا وأطلال العهود التي عاشتها المدينة وأجواء كل حقبة كما كانت في عهدها. فالعهد الروماني يمثله «المتحف اليوناني الروماني» أعرق المتاحف المصرية، حيث أنشأه الإيطالي جوزيبي بوتي، وافتتحه الخديوي عباس حلمي الثاني رسميا في 17 أكتوبر 1892. يرجع تاريخ معظم المجموعات الموجودة في المتحف إلى الفترة من القرن الثالث ق.م إلى القرن الثالث الميلادي، وهى شاملة لعصري البطالمة والرومان. تم تصنيف المجموعات وتنظيمها في 27 غرفة، بينما تظهر بعض القطع في الحديقة الصغيرة.

وتعد مقابر كوم الشقافة أكبر مقبرة رومانية، وهي تتكون من ثلاث طبقات محفورة يدويا داخل الصخور على عمق 30 مترا ويعود تاريخ بنائها إلى الألف الثاني الميلادي وتحمل بصمات فنية رومانية وفرعونية. أما المسرح اليوناني، الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي وهو المسرح الوحيد من نوعه في مصر، ويتكون من 12 مدرجا نصف دائري، وبه مجموعة من الحمامات الرومانية، وتعرض به بعض قطع الآثار الغارقة المنتشلة من موقع قلعة قايتباي.

ومن الآثار المميزة بالإسكندرية «عمود السواري» الذي أقيم فوق تل باب سدرة بين منطقة مدافن المسلمين الحالية وبين هضبة كوم الشقافة الأثرية. عرف العمود في العصر البيزنطي باسم «عمود ثيودوسيان»، وتعود تسمية العمود باسم عمود السواري إلى العصر العربي حيث يعتقد أنها جاءت نتيجة ارتفاع هذا العمود الشاهق بين 400 عمود أخرى والتي تشبه الصواري (صواري السفن) ويعتقد أنه أحد أعمدة بهو معبد السيرابيوم. وتتضارب الأقوال حول تاريخ هذا الأثر، لكن الأرجح أن الاسكندريين أقاموه للإمبراطور الروماني «دقلديانوس» تعبيرا عن حبهم له بعد أن جاء إلى مصر في النصف الثاني من القرن الثالث، وأخمد الثورة التي قام بها في الإسكندرية القائد الروماني دوميتيانوس، فأعاد دقلديانوس الهدوء والاستقرار إلى المدينة. صنع عمود السواري من حجر الجرانيت الأحمر، وجسم العمود عبارة عن قطعة واحدة طولها 20.75 متر، قطرها عند القاعدة 2.70 متر، وعند التاج 2.30 متر. ويبلغ الارتفاع الكلي للعمود بما فيه القاعدة حوالي 26.85 متر. ويوجد بجوار عمود السواري تمثالان لأبي الهول على أحدهما نقش للملك حور محب من الأسرة الـ12.

أما مكتبة الإسكندرية الجديدة التي استحضرت روح المكتبة القديمة فأصبحت مركزا للثقافة والعلوم، وهي تضم العديد من المعارض الفنية وبها متحف للآثار يتميز بأعلى مستوى من العرض المتحفي، وبها ماكينة للطباعة الفورية تمكنك من طباعة كتاب كامل في غضون لحظات، وبها قبة سماوية تعرض أفلاما تأخذك في رحلة للكون عن الأجرام السماوية والكواكب والمجرات. تحتوي المكتبة على متحف للآثار، ومتحف للمخطوطات اليهودية والمسيحية والإسلامية النادرة، والعديد من المراكز البحثية والعلمية، يأتي إلى المكتبة حوالي ثلاثة ملايين زائر سنويا، مما أنعش الحركة السياحية في المدينة. ومن المتاحف التي تشبع نهم عشاق الثقافة اليونانية، متحف كفافيس: وهو المنزل الذي أقام به الشاعر اليوناني السكندري المولد قسطنطين بيتروس كافافيس، خلال الخمسة والعشرين عاما الأخيرة من حياته، ويضم المتحف غرفة نومه والصالون الشعري الخاص به ومجموعة من صوره والكتب العالمية التي كتبت عن الشاعر بلغات العالم المختلفة والتي كان يناجي فيها الإسكندرية.

هناك أيضا «متحف الإسكندرية القومي»، وهو أحدث المتاحف بالمدينة ويضم 1800 قطعة أثرية، ويعد فريدا من نوعه حيث يروي قصة المدينة عبر العصور حتى الآن، كما يتميز بأسلوب عرض منظم وفتارين معلقة. ومواعيد العمل به من التاسعة صباحا وحتى الخامسة مساء.

ومن الأماكن التي ننصح بزيارتها لعشاق الحقبة الملكية وآثارها تنفرد الإسكندرية بقصر ومتحف المجوهرات؛ وهو قصر الأميرة فاطمة الزهراء الذي أصبح متحفا لمجوهرات أسرة محمد علي، وشيد في عام 1919، على يد والدتها السيدة زينب كريمة علي باشا فهمي. بني هذا القصر على طراز المباني الأوروبية من الناحية المعمارية، ويحتوي على مجموعة خاصة بمؤسس الأسرة العلوية محمد علي. أما محبو الفن التشكيلي، فلا يجب أن تفوتهم زيارة مركز محمود سعيد للمتاحف بجاناكليس، فهو قلعة تضم بين جوانبها ثلاثة متاحف: متحف الفنان محمود سعيد يضم 55 لوحة، متحف أدهم وسيف وانلي ويضم 21 لوحة و11 إسكتشا وخواطر فنية لأدهم و71 لوحة لسيف وانلي، ومتحف الفن المصري الحديث ويحتوي على 216 لوحة فنية، و75 عملا نحتيا. وقد أقيم مركز محمود سعيد للمتاحف بنفس القصر الذي كان يقطنه الفنان محمود سعيد بمنطقة جناكليس بالإسكندرية.

كما تضم منطقة محرم بك، متحف الفنون الجميلة، الذي أنشئ في عهد الملك فاروق الأول، حين وهب البارون «شارل دي منشا» قصره لكي يكون مكتبة ومتحفا للصور، وهو يضم مجموعة من أروع أعمال الفنانين المصريين والعرب والأجانب، لا توجد في أي مكان آخر، وبه صالات للعرض ومركز ثقافي وقاعات معارض محلية ودولية. ويقام به بينالي الإسكندرية لدول البحر المتوسط منذ خمسين عاما وحتى الآن. ومن معالم الإسكندرية الطبيعية والترفيهية حديقة النزهة: يرجع تاريخها إلى عهد البطالمة عام 300 ق.م. وكانت تقع ضمن ضاحية (إيلوزيس الشهيرة) التي كان يؤمها أهل المدينة للمتعة والترفيه، وكلمة «إيلوزيس» تعنى «جنات النعيم». عاصرت هذه الضاحية أحداثا تاريخية مهمة لملوك وقواد البطالمة، ولقد أتى على الحديقة عهد قسمت فيه إلى قطاعات تملك قياصرة العالم بعضا منها مثل قيصر النمسا وبروسيا.

وحديقة أنطونيادس: التي سميت باسم مالكها البارون اليوناني، وهي حديقة كبيرة للنباتات تحتوي على مجموعة نادرة من التماثيل الرخامية لآلهة الأساطير اليونانية كأفروديت وغيرها من الشخصيات الأسطورية القديمة بجانب مجموعة من الأشجار النادرة والزهور الطبيعية التي تستخرج منها نوعيات العطور الفرنسية النادرة وكذلك نباتات طبية وأعشاب. وتضم عروس المتوسط آثارا لتعايش الأديان الثلاثة في سلام وصفاء، فمن أهم الآثار الدينية اليهودية بالإسكندرية المعبد اليهودي الشهير «إلياهو حنابي»، أما أهم الآثار القبطية بالإسكندرية فمنها: الكنيسة المرقسية التي أسسها القديس مرقص لتكون أول كنيسة في قارة إفريقيا، والتي ظلت مقرا لبطريرك الكنيسة لمدة ألف عام، ثم انتقل المقر عدة مرات إلى أن أصبح الآن في أرض الأنبا رويس بالعباسية، عند دخولنا من الباب نجد على كل جانب أيقونتين أثريتين وهما السيد المسيح والسيدة العذراء وقد تمت تغشيتهما بالذهب والفضة وأيقونة أثرية لـمار مرقس ومار جرجس. داخل الكنيسة نجد أيقونتين على اليسار للأنبا انطونيوس وأخرى للأنبا شنودة وعلى اليمين أيقونة لمارمينا وكلها من الفن القبطي. وبعد أن نتخطاها لنصل إلى منتصف الكنيسة من الناحية الجنوبية مدخل المقبرة الأثرية الشهيرة التي تضم رفات الآباء بطاركة الكرسي السكندري في الألفية الأولى وقد تم تدوين أسمائهم على لوحة رخامية باللغات القبطية والعربية والإنجليزية. ومن أبرز الآثار الإسلامية في المدينة، قلعة قايتباي الواقعة في الطرف الشمالي لمدخل الميناء الشرقي والتي بنيت عام 1477م على أنقاض منارة الإسكندرية، واحدة من العجائب السبع بالعالم القديم، وهي مشيدة على غرار قلاع العصور الوسطى. الحياة الروحانية في المدينة تكمن في أنها تزدان بالمساجد والتراث الثقافي الإسلامي وأبرز المزارات الإسلامية؛ ميدان المساجد بحي الجمرك والذي يطل على الميناء الشرقي، ويضم مسجد أبو العباس المرسي الذي جاء من مدينة مرسية الأندلسية وهو مؤسس الطريقة الشاذلية الصوفية. ومسجد البوصيري، صاحب نهج البردة، ومسجد ياقوت العرش. تضم المدينة أيضا أجزاء من أسوار المدينة في العصر الإسلامي والتي توجد بمنطقة الشلالات، فضلا عن عدد من الصهاريج ومنها: صهريج النبية ودار إسماعيل. يعتبر صهريج الشلالات هو الصهريج الوحيد الذي ما زال يحتفظ بالمعمارية دون أن يطرأ عليه أي تغيير؛ وتبلغ مساحة الصهريج نحو 200 متر. ويضم ثلاثة طوابق تحت الأرض. ويضم مجموعة نادرة من الأعمدة والتيجان المتنوعة. فقد كانت الإسكندرية تعتمد في تغذيتها بالمياه العذبة على تخزين المياه في صهاريج تحت الأرض. ففي عام 1872م سجل «محمود باشا الفلكي» نحو 700 صهريج، ومع مرور الزمن اندثرت هذه الصهاريج ولم يبق منها إلا أربعة يمكن مشاهدة اثنين منها وهما «صهريج الشلالات» و«صهريج النبي دانيال» سميت هذه الآثار بهذا الاسم لوقوعها على شارع البرديسي المجاور لمسجد سيدي عبد الرزاق الوفائي المواجه لمسجد النبي دانيال بوسط الإسكندرية. وتم اكتشاف هذه الآثار في عام 1929م تحت مسجد سيدي عبد الرزاق الوفائي. وهي من الآثار الهامة التي تنتمي إلى العصر الروماني. وتتكون هذه الآثار من أربع قواعد لأعمدة من الطراز الأيوني مصنوعة من الرخام أو الحجر الجيري المغطى بطبقة من المصيص، وتبعد كل قاعدة منها عن الأخرى نحو خمسة أمتار. وفوق اثنتين من هذه القواعد تعلو أعمدة بدون تيجان مصنوعة من حجر الجرانيت الأحمر، وهذه القواعد مقامة على أرضية مرتفعة مكونة من ثلاثة أرصفة متوازية عرض كل منها متر ونصف وارتفاعها يزيد على المتر. يبلغ ارتفاع الأعمدة نحو ستة أمتار، ومحيط كل منها مترين ونصف تقريبا.

وتدل ضخامة الأعمدة والأرصفة واستخدام الجرانيت في صنعها على أن هذه الآثار هي بقايا لمبنى عام من المرجح أن يكون معبدا من المعابد التي أقيمت في العصر الروماني. وقد ظن البعض في بداية الأمر أن آثار البرديسي وصهريج النبي دانيال لها علاقة بمقبرة الإسكندر الأكبر. إلا أن المؤرخين كشفوا زيف هذا الاعتقاد خاصة أن الفرق بين هذه الآثار ومقبرة الإسكندر يزيد على الأربعمائة عام.

ولإضافة بعض المتعة على الجولة الثقافية، يمكن التسوق في مجموعة من الأسواق الشعبية القديمة التي ترجع إلى العصر العثماني أشهرها سوق العطارين، والخيط، وزنقة الستات، والطباخين، والعقَّادين.