طرابلس الغرب مدينة تاريخية تجاري حداثة العصر

غنية بالحضارة الفينيقية والعثمانية

الاسواق القديمة عنوان محبي التحف والقطع الاثرية («الشرق الأوسط»)
TT

لا يحتاج زائر العاصمة الليبية طرابلس الغرب إلى دليل سياحي أو مرشد متخصص، إذ يكاد كل أبناء هذه المدينة من شيبها إلى شبابها يحفظون تاريخها وحضارتها الضاربة في الجذور عن ظهر قلب، وعندما يتحدث أحدهم عن مدينته التي تلقب بـ«عروس البحر» تراه كعاشق يتفنن في توصيف محاسن حبيبته، فهو يرى فيها الأصالة والعراقة والحداثة معا، وفي الوقت نفسه الأم التي يأوي إلى حضنها كل أبنائها لينعموا بدفئه وعاطفته.

زائر طرابلس لا يبحث فقط عن فنادقها الفخمة ذات النجوم الخمس، أو مطاعمها الغنية بموائدها ومأكولاتها الليبية والعربية، إنما يكون في سباق مع الوقت للاستمتاع بتراث المدينة الوادعة والراقدة على ساحل البحر المتوسط التي تلاطف أمواجه الهادئة بينما يحاكي هو تاريخها الممتد إلى آلاف السنين منذ أن عبره الفينيقيون بسفنهم وحطوا رحالهم فيها تاركين بين ظهرانيها حضارة يرويها الآباء والأجداد ويتوارثها الأبناء والأحفاد.

لا يكاد الضيف أو السائح يسأل أي طرابلسي عن المعالم الأثرية والتاريخية لمدينته إلاّ ويجد أكثر من متطوع. وكثيرا ما يسارع المتبرع بالخدمة إلى سؤال الضيف: من أي تريد أن نبدأ؟ من الساحة الخضراء؟ أم من وسط المدينة؟ أم الأسواق القديمة؟ أم المباني الشاهدة على التاريخ؟ لكننا اخترنا الانطلاق من الساحة الخضراء التي ما إن توصلك إليها سيارة الأجرة حتى تجدها اسما على مسمى، مساحات شاسعة من الأرض التي تكتسي العشب الأخضر وتحيطها الأشجار العالية التي تورف بظلالها ثلث هذه المساحة. هي منطقة تعتبر المتنفس للعائلات التي تقصدها ليلهو فيها الأولاد وحتى الأطفال بألعابها سواء في ملاعب كرة القدم أو المراجيح وصولا إلى ركوب الخيل، واللافت فيها أن هذه البقعة ذات الثوب الأخضر الرائع لا يفصلها عن شاطئ البحر سوى الطريق أو الاوتوستراد الذي تسلكه السيارات في الاتجاهين.

وليس بعيدا عن الساحة الخضراء وعلى مسافة مئات الأمتار إلى جنوبها يقع وسط المدينة الذي يحوي الأسواق والمحلات المرموقة، وفي الدوار الذي يربط ثمانية شوارع بمبناه الشامخ والضخم بطبقاته الأربع الدائرية، هذا القصر الذي كان مقرا للملك قبل قيام ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) حولته القيادة الليبية بعد الثورة إلى ملتقى للشعب.. قبل أن تبدأ الآن ورشة لجعله مكتبة وطنية قد تكون الأكبر في المنطقة.

تخترق السيارة الشوارع الواسعة التي تلفت الانتباه مبانيها التي قد لا تعلو عن ثلاث أو أربع طبقات محافظة على قدمها ورونقها الخارجي من سقوف عالية وأبواب ونوافذ خشبية وأسوار حجرية وسلالم طويلة، واللافت هناك أن أسماء بعض المناطق مشابهة لأسماء مناطق لبنانية فاسم طرابلس عاصمة الجماهيرية الليبية هو الاسم الذي تحمله عاصمة لبنان الشمالي (طرابلس) أما منطقة عكاريا داخل العاصمة الليبية فاسمها مشابه لاسم منطقة عكار في شمال لبنان. وفي جنوب المدينة تقع منطقة الزاوية التي تحمل الاسم نفسه العائد لمنطقة الزاوية التي هي أكثر من نصف مساحة مدينة زغرتا اللبنانية، هذا بالإضافة إلى التطابق في أسماء الأسواق وحتى العائلات، ومرد هذا التطابق أن الفينيقيين الذين استوطنوا لبنان وليبيا هم الذين أطلقوا هذه الأسماء على المناطق المذكورة وغيرها.

ما إن تنتهي رحلة الأسواق التجارية حتى وضعنا المرشد المتبرع أو الدليل أمام معلمٍ آخر؛ وهو المطار المدني الذي يقع جنوب شرقي العاصمة وعلى مقربة من الشاطئ، وهو ذو رمزية مهمة بالنسبة إلى الشعب الليبي إذ على أرضه الشاسعة كانت تتربع أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة.. وقبل أن يستفيض المرشد في الحديث عن تحويله مطارا للطائرات المدنية الخاصة يتدخل السائق ويتحدث كيف أن الليبيين كانوا يقاومون على طريقتهم الوجود الأميركي فيعطلون الطائرات العسكرية الأميركية في هذه القاعدة من خلال طيور الحمام التي كانت تربى بالآلاف في محيطها. وكانت هذه الطيور تملأ أرض القاعدة وتتغلغل في محركات الطائرات العسكرية فما أن تشغل هذه المحركات حتى تتعطل الطائرة. وعلى مسافة مئات الأمتار من هذا المطار يقع منزل الرئيس الليبي معمر القذافي الذي كان هدفا للطائرات الأميركية التي دكته بأطنان من القنابل الثقيلة والقذائف الصاروخية، وذلك في أكبر عدوان أميركي ـ أوروبي على دولة ذات سيادة وعلى قيادتها بشكل أساسي، والمفارقة أن هذا المنزل ومنذ استهدافه أبقي على حاله ليصبح شاهدا على تلك العملية.. لكن على جدرانه تعلو اللوحات التي تتحدث عن تفاصيل هذا العدوان وصور المناطق التي استهدفت والضحايا الذين سقطوا، إضافة إلى صور الطيارين الأميركيين والبريطانيين الذين قتلوا وأسقطت طائراتهم، كما يحتوي على بعض القطع والإطارات العائدة لتلك الطائرات وكذلك عشرات الخوذات التي كان يعتمرها الطيارون والجنود الأميركيون والغربيون الذين قتلوا يومها، وذلك بعد أن سلمت جثثهم ورفاتهم إلى بلادهم عن طريق الأمم المتحدة بمبادرة إنسانية من عائلة الزعيم الليبي.. وكدلالة على صمود الجماهيرية الليبية وانتصارها على ذاك العدوان تستقبل زائر ذاك المكان صورة ضخمة هي عبارة عن قبضة الزعيم الليبي تمسك بطائرة حربية وتعتصرها.

أما في الأسواق القديمة التي يعجز قصادها لأول مرة عن إشباع فضولهم من اكتشاف كنوزها الأثرية، فهناك حكاية أخرى، لكن باختصار فإن تلك المنطقة تختصر تاريخا غنيا من حقبة الحكم التركي لتلك البلاد السمراء ذاك الحكم الذي لم يدع شارعا أو ساحة أو زاوية في تلك المنطقة إلا ترك فيها معلما تاريخيا يحكي فيه قصته وحضارته. الخطوة الأولى فيها تبدأ من المتحف الوطني الليبي الذي فيه ما فيه من الآثار الثمينة، وإلى جانبه مدخل سوق البابين أو ما يصطلح على تسميته بـ«سوق الترك» الذي كان مقر قيادة السلطة العثمانية إبان حكمها لطرابلس ـ عند هذا المدخل يقع «سوق المشير» الذي تباع فيه الصناعات التقليدية من أثريات وزخارف وفخاريات وتحف ومسابح ومحلات المجوهرات، وتغزو محلاته صناعات سعودية مثل العباءات والشماغ والعقال.

وفي وسط هذا السوق يقوم مسجد قرملي الذي يحمل اسم الوالي التركي أحمد باشا القرملي الذي بناه في سنة 1737 ميلادية بعد أن أسس حكما وراثيا لأسرته ما بين أعوام 1711 و1855 وداخل هذا المسجد الواسع توجد مدرسة تراثية وفيه أيضا ضريح المؤسس.

بعد سوق «المشير» يوجهنا المرشد إلى سوق الرباعي القديم أو ما كان يعرف بـ«سوق القويعة» الذي يستقبل الزائر عند مدخله مسجد ثائب الذي بني قبل 400 عام وشيده محمد الإمام كرادغلي سنة 1699 وفيه مدرسة لتعليم الشريعة وضريح مؤسسه أيضا، ويشتهر هذا السوق بصناعة النحاسيات من قدور ومناسف ومناقل ومصبات للقهوة. وبعض هذه المحلات تتخصص بصناعة قدور كبيرة (طناجر) تطبخ فيها «البازني» وهي أكلة ليبية قديمة ومشهورة، ويروي أحد صناع هذه الطناجر أن هذه الأكلة تطهى من دقيق الشعير والبطاطس والسمن مع لحم القعود (صغير الجمل) ويجزم الراوي أن هذا الطعام خير علاج لأمراض المعدة والأمعاء على الإطلاق وهي من أشهر أكلات المطبخ الليبي القديم إضافة إلى أكلة الكوسكوس التي لا تزال الأكثر رواجا وطلبا في ليبيا. وهو لا يتوانى عن تقديم النصيحة للزائر أو السائح تناول «البازني» عله ينقل وصفتها إلى بلاده للاستفادة من طيب مذاقها.

أما علي يمين هذا السوق فهناك ميدان الساعة الذي أطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى برج الساعة الذي يحتل وسط الساحة وهو أحد المعالم الأثرية والسياحية نظرا لقدمه، وقد شيده الوالي التركي علي باشا الجزائري قبل مائة وثلاثة وأربعين عاما، وذلك في سنة 1866، وتحول إلى معلم أساسي عام 1899 بعد أن رممه الوالي نامق باشا وجمل من شكله الهندسي، وعلى مسافة حوالي المائتي متر من هذا الميدان وداخل السوق القديم أيضا يقع حمام دارغوت الذي أنشئ في عهد الوالي العثماني إسكندر باشا عام 1604. ويعد أقدم حمام بخاري ليس في طرابلس فحسب، بل ربما في ليبيا والمنطقة، ويتميز بمحافظته على قدمه وعلى شكله الفني الرائع وجرونه الحجرية المنحوتة بطريقة فنية محترفة وكذلك مقاعده التي تحفظ حرارته ودفأه، وهذا الحمام كان ولا يزال مقصدا ليس لأبناء المدينة فقط، بل حتى لعشرات السياح الذين يتمتعون بالاستحمام والاسترخاء والتدليك فيه، ويدير هذا الحمام محمود محمد القادري وهو رجل في العقد السابع من العمر، هذا الرجل الذي يستقبل الزوار أحسن استقبال ويبادر إلى تقديم المعلومات المفصلة عن هذا الحمام، يقول «إنه (الحمام) كان يعج بالرواد الأجانب وخصوصا الأميركيين في مطلع القرن العشرين لكون السفارة الأميركية كانت على مقربة منه».

وبعد الاستفاضة في الشرح عن الحمام التاريخي يقودنا القادري ذو الهمة الخفيفة إلى مبنى أثري مجاور للحمام فإذا هي المدرسة العثمانية التي أسسها عثمان باشا سنة 1654 ميلادية وهي مدرسة قرآنية؛ أي لتعليم القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والشريعة، ويقول إن تلامذتها ومدرسيها من أتباع الطريقة القادرية الشبيهة بــ«الصوفية».

وعلى مقربة من هذا المكان يقع ميدان السيدة مريم عليها السلام، الذي من أبرز معالمه كنيسة السيدة مريم للروم الكاثوليك التي أنشئت عام 1615 في عهد الوالي التركي محمد الساقزلي، هذه الكنيسة تعج بالمصلين من المسيحيين المقيمين في طرابلس وجوارها الذين يمارسون فيها شعائرهم الدينية بكل حرية، خصوصا يوم الجمعة الذي هو يوم عطلة رسمية، وعلى مسافة عشرين مترا عن يمينها يقع ما يعرف بالسجن التركي الذي بناه الوالي عثمان باشا سنة 1664. ويحوي 86 زنزانة وكان معظم سجنائه من اليونانيين الأتراك الذين كانوا يتمردون على حكم الوالي التركي، إلا أن هذا المبنى وبعد انتهاء الحكم العثماني تحول إلى كنيسة وأطلق عليه تسمية كنيسة القديس غاورغيوس للروم الكاثوليك وهي مقر لمتربوليت طرابلس وبنغاري تيفوفي لاكتوس الذي يستقبل الوافدين بالابتسامة ويطلب من معاونيه تقديم الحلوى للضيوف قبل أن يبدأ بشرح تاريخ الكنيسة ودورها، مستعينا بترجمته لكونه يتحدث باللغة اللاتينية. ومعظم روادها من المسيحيين اليونانيين الذين يقصدونها لممارسة الشعائر الدينية، ويؤكد المتربوليت الذي يتحدث باللغة اللاتينية أن كل من يدخل هذه الكنيسة يمارس عباداته بحرية مطلقة. باختصار الحديث عن طرابلس الغرب ومعالمها وشعبها يطول، لكنها تبقى واحدة من مدن قليلة تجمع تاريخها وحضارتها وتتطلع إلى مستقبلها في آنٍ واحد.