كالياري عاصمة سردينيا.. جزيرة الشمس والمياه الفيروزية

هدية الفينيقيين للرومان وحاملة أسرار الحضارات

بقايا بيوت «النوراغي» في منطقة باروميني الايطالية («الشرق الأوسط»)
TT

إذا كنت من متتبعي أخبار سيلفيو برلوسكوني رئيس الحكومة الإيطالية المثير للجدل، لا بد أنك سمعت عن مكان سكنه المفضل في إيطاليا، وبالتحديد في شمال جزيرة سردينيا، لدرجة أنه كان ينوي إقامة قمة مجموعة الثماني فيها، إلا أنه اختار في النهاية أن يستضيف قادة العالم في قمتهم السنوية في مدينة لاكويلا التي تعرضت لزلزال كبير أودى بحياة الكثيرين في أبريل (نيسان) الماضي، تعاطفا مع العائلات التي فقدت بيوتها وذويها.

سردينيا تعتبر مقصدا مهما للنجوم والمشاهير والسياسيين نسبة لشواطئها الرائعة وطبيعتها الخلابة ومطبخها اللذيذ، كما أنها ثاني أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط بعد صقلية، وتشكل أحد الأقاليم العشرين في إيطاليا، وهي تتمتع بحكم ذاتي بموجب قانون خاص في الدستور الإيطالي، ولها لغتها الخاصة التي تعرف باسم «الساردو» إلى جانب اللغة الايطالية ويبلغ عدد سكانها 1.6 مليون نسمة، وتقع الجزيرة بين إيطاليا وإسبانيا وتونس وجنوب كورسيكا، وعاصمتها كالياري التي تعتبر أكبر مدنها مساحة.

عندما تباشر الطائرة بالهبوط في مطار «كالياري إيلماس» الدولي، سوف تجد نفسك على مقربة كبيرة من الماء، فالمطار قريب جدا من البحر، فعلى الرغم من روعة مشهد زرقة مياه البحر ومنظر الجبال المحيطة بها فإنني أنصح أصحاب القلوب الضعيفة بعدم النظر من نافذة الطائرة الصغيرة لأنهم سوف يشعرون وكأن عجلات الطائرة على وشك بلّ أطرافها في الماء، وسوف يتخيل إليك بأنك تهبط في الماء وليس على أرض المدرج.

القسم الشمالي من سردينيا هو الأشهر بسبب انتشار المنتجعات الراقية وتواجد المشاهير فيه بشكل مستمر، إلا أن في الواقع جنوب الجزيرة لا يقل جمالا عن شماله، لا بل إن الجنوب يتمتع بطبيعة عذراء، كما أن معظم شواطئه تعامل على أنها محميات، فيحظر فيها الصيد وكل النشاطات التي قد تضر بالثروة المائية والأسماك، ومن أشهر مناطق الجنوب مدينة كالياري، فهي عاصمة الجزيرة وأكبر مدنها، وتقع على الساحل الجنوبي المطل على البحر الأبيض المتوسط ، وتسورها جبال موني دي كابتيرا وسهل كامبيدانو، أسسها الفينيقيون واسمها يعني «القلعة» ومن أشهر معالمها القلعة القديمة «كاستيلو» التي تطل على خليج المدينة الذي يعرف باسم «خليج الملائكة»، وتشتهر كالياري كونها مدينة وقفت شاهدة على عدة حضارات، فكان للفينيقيين الفضل في تكوينها وجاء الرومان بعدهم، كما كانت كالياري مسرحا لتصفية الحسابات وأرضا لصراعات ضخمة بين عدة حضارات، فهندسة المدينة المعمارية أهم دليل على توافد حضارات عديدة إليها، فهي لا تشبه باقي المدن الايطالية الساحلية إنما هي أشبه بخليط عربي، إسباني، فرنسي في نفس الوقت.

ولا تزال توجد في سردينيا بقايا بيوت حضارة «النوراغي» التي يعود تاريخها إلى حوالي 1500 عام قبل الميلاد ولا بد من زيارة مدينة باروميني لمشاهدة بقايا أكثر من 8 آلاف منزل عائد إلى حضارة «النوراغي» التي كانت سائدة في سردينيا في العصر البرونزي، فعند وصولك إلى باروميني سوف تدهش بمنظر بيوت «النوراغي»، وهي عبارة عن أحجار بازلتية وبركانية متكدسة فوق بعضها البعض، ويمكن الدخول إليها للتعرف على طريقة حياة النوراغيين الذين كانوا من الطبقة المالكة، وحول «النوراغي» تنتشر بيوت صغيرة للعمال الذين كانوا يتولون خدمة الملوك وعائلاتهم، وقام باكتشاف «النوراغي» المهندس وعالم الآثار الإيطالي جيوفاني ليليو في عام 1951، ومنذ ذلك الحين ولا تزال عمليات الحفر والتنقيب قائمة، ويبلغ ليليو اليوم من العمر 95 عاما إلا أن هناك عدة فرق تقوم بقيادة علماء آثار آخرين بمتابعة مسيرة التنقيب التي يبدو أنها لن تعرف نهاية، فبالقرب من «النوراغي» يوجد متحف «كازا زاباتا» الذي يعرض قسما من «النوراغي» التي استعمل في بنائها الحجر الكلسي والبازلتي، واللافت في تلك البيوت أنها تنتشر على مسافات شاسعة لأنها لا تقتصر على منزل واحد، إلا أنها محاطة ببيوت صغيرة أخرى كان يسكنها العمال، ويعرض في المتحف أيضا عدد كبير من التماثيل البرونزية التي اشتهر بها «النوراغيون» الذين لا يزالون مجهولي الهوية، ولكن يرجح أن تكون أصولهم فينيقية.

شهدت كالياري العديد من المعارك والحروب لذا تراها محصنة بالأسوار التي استخدم في بنائها حجر الجير الأبيض، إضافة إلى وجود الكاتدرائية الأثرية التي تم ترميمها في الثلاثينات إنما لا تزال تحافظ على أسلوبها القديم وبقربها تجد القصر القديم الذي كان في السابق مكان إقامة حكم الجزيرة (قبل عام 1900) واليوم يستعمل كقصر رسمي للحكومة السردينية.

يوجد في كالياري مرفأ يزين وسط المدينة، تنتظر عنده اليخوت والبواخر الجملية أصحابها لكي تمخر عباب البحار، وتتجول في مياه الجزيرة الصافية الزرقاء، ومقابل المرفأ تجد شارع روما الأطول في كالياري وتغطيه القناطر جميلة التصميم، ومنه تنطلق في رحلات المشي التي لا تنتهي في أزقة أثرية تكتشف فيها أشهى نكهات الجزيرة من خلال محلات صغيرة لا يخطر ببالك ما تضمه من مواد ومكونات ومطيبات لأشهى المأكولات المتوسطية، فلا بد من تذوق الحلويات التي تشتهر بها الجزيرة والتي تتميز بأشكال حلزونية، وبعضها ملفوف بأوراق ملونة ومن أشهر مصنعيها محل «دوركي Durke» الذي تجد محله في شارع متفرع عن شارع روما الرئيسي، ولا بد من تذوق البسكويت بالفانيليا والشمر، وبعدها لا بد أن تتذوق المعكرونة السردينية التي تصنع كل قطعة منها بواسطة اليد وتشتهر بنكهة الزعفران وتؤكل مع صلصة الطماطم وثمار البحر أو بيض السمك (البوراغا).

ولمحبي البحار، يمكنهم التوجه إلى مرفأ فيلاسيميوس «Villasimius» السياحي، ومنه تستطيع تأجير قارب يأخذك في رحلة بحرية طيلة النهار إذا رغبت في ذلك، ومن أشهر القوارب السياحية في المرفأ قارب «مابي» الأثري الذي يبلغ طوله 22 مترا ومصنع بالكامل من الخشب، صنع في عام 1944 ويضم غرفتين وغرفة معيشة وغرفة طعام ويعمل على متنه طاقم متخصص في تقديم أعلى مستوى من الخدمة، والقارب يتسع لـ16 شخصا، وميزة القارب أنه صامت، فلا يقف صوت محركه عائقا بينك وبين صوت الأمواج والتمتع بمنظر المياه الفيروزية التي تدعوك للسباحة، ومن خلال الرحلة على متن القارب يمكنك اكتشاف معالم شواطئ «فيلاسيميوس» التي تعتبر محمية طبيعية، وتستمر الرحلة لتشاهد خلالها قمة «كابو كاربونارا» وتتوقف عند جزيرة «إيزولا دي كافولي».

وخلال الرحلة يتوقف القارب أكثر من مرة في وسط البحر، ويعطي الركاب فرصة الغطس، حيث تتوفر على متنه جميع معدات الغطس والسباحة، وتشتهر تلك الشواطئ بوجود أنواع أسماك نادرة إضافة إلى وجود الدولفين والسلاحف، كما يمكن زيارة المنارات الأثرية التي لا يزال بعضها يعمل إلى اليوم، ويقدم الطاقم العامل على متن القارب المأكولات السردينية المميزة مثل معكرونة «مالوريدوس» التي تقدم مع صلصة الطماطم والنقانق السردينية (ساليسيشيا ساردا) مع جبن البيكورينو الأشهر في سردينيا المصنع من حليب الغنم، وتبلغ كلفة الرحلة حوالي 69 يورو للشخص الواحد.

ولكن لا بد أن تترك مساحة في معدتك لتناول السمك المشوي في مطعم «سينفيرو S"Inferru» ويعني اسمه «من دون الجحيم» الواقع عند شاطئ «Punta Molentis» لصاحبه رينالدو فاني، وهو صياد سمك ورث المكان عن أبيه الذي كان يعتبر من أشهر صيادي السمك في المنطقة في فترة الستينات، والمطعم هو مكان يجتمع فيه صيادو الأسماك ولكن فاني يحوله خلال فصل الصيف إلى مطعم يستقبل الزوار والمشاهير، فهو بسيط جدا لدرجة أنه لا يضم مرحاضا، وهو يقع بمحاذاة الشاطئ مباشرة، ولكنه يشتهر بطهي الأسماك بطريقة غير عادية، فيقول فاني إن سر النكهة يكمن في ترك السمكة من دون تنظيف من الداخل حتى تحافظ على نكهة البحر، شرط أن تكون طازجة ولم يمض وقت طويل على صيدها من البحر، كما تطهى على الفحم وتغسل بماء البحار المالح، من زبائنه الدائمين العارضة ميغان غاي، وتوم كروز، ولاعبو كرة القدم الإيطاليون والعالميون، وتم فيه تصوير عدد من الإعلانات مثل إعلان أرماني، وفودافون، ونيسان، وتم فيه تصوير حلقات مسلسل «سيرفايفر»، وإلى جانب تقديم السمك كطبق رئيسي يتم تقديم طبق المعكرونة السردينية بالصلصة الحمراء مع ثمار البحر، إلى جانب طبق من الأسماك النية المنقوعة في زيت الزيتون الصافي والليمون والملح مع القليل من البقدونس، وبعد تناول الطعام اللذيذ لا بد من تذوق الحلويات السردينية التي تأتي بمختلف الأشكال والألوان ولا بد أن تنهي وليمتك على الطريقة الايطالية من خلال تناول فنجان «الإسبريسو» بعد أن تكون غيرت مذاق فمك بقطعة من البطيخ الأحمر البارد. يمكن الوصول إلى الشاطئ والمطعم عن طريق البحر والبر.

إذا كنت تتبع حمية غذائية معينة لا بد أن تتخلى عنها عندما تزور سرديينا، فمغريات الطعام كثيرة من الصعب مقاومتها ومن حسن الحظ أن المطبخ المتوسطي صحي، لذا قد تسمح لشهيتك بأن تطلق العنان لما تتمناه من مأكولات ومشروبات. وفي سردينيا، وبالتحديد في العاصمة كالياري، تنتشر مطاعم لا تحصى ولا تعد تقدم المأكولات التقليدية التي تختلف قليلا عن المأكولات الإيطالية التي نعرفها، فهناك بعض المأكولات التي تشبه المأكولات اللبنانية مثل الكنافة وبعض أنواع السلطات، ويقول مدير هيئة السياحة في سردينيا إن السبب هو أن السردينيين من أصول فينيقية.

ومن أشهر مطاعم كالياري مطعم «سا كارديغا إي سو شيروني Sa Cardiga e Su Schironi» القريب من وسط المدينة ويقدم أشهى المأكولات السردينية بما فيها الأسماك بشتى أنواعها وأشكالها، وإذا كنت تفضل الأكل في الهواء الطلق فلا بد أن تتوجه إلى مطعم «سا لولا Sa Lolla» في منطقة «باروميني» الذي يقدم المأكولات المشوية على الفحم ويقدم المأكولات في حدائقه الخارجية، فتخيل نفسك تأكل تحت أشجار المشمش والخروب.

بالنسبة للإقامة في كالياري فتنتشر عدة فنادق من جميع الفئات، فإذا كنت تفضل الإقامة في مكان قريب من وسط المدينة وفي الوقت نفسه بعيد عن ضوضائها فيمكنك الإقامة في فندق «T Hotel» (حوالي 200 يورو لليلة الواحدة)، أما إذا كنت من أصحاب الميزانيات العالية وتفضل الإقامة في منتجع قريب من البحر في أجواء يملؤها الرقي والرفاهية فلا بد أن تتوجه إلى «فورت فيلادج Forte Village» وهي قرية خاصة مؤلفة من 7 فنادق وفيلات وفيها 21 مطعما، من بينها مطعم تابع للطاهي البريطاني غوردن رمسي، وحاز المنتجع على جائزة أفضل منتجع في العالم للعام الحادي عشر على التوالي، تضم القرية أكثر من 700 وحدة سكنية وتعتبر من أفخم المناطق السياحية في سردينيا، وتتمتع بشواطئ رملية ناعمة مخصصة فقط لنزلاء القرية. وللتنقل في المدينة، فوسائل النقل العام متوفرة، كما يمكنك التنقل أيضا بواسطة التاكسي، وإذا كنت تنوي التنقل بين مختلف أرجاء الجزيرة الواسعة فننصحك بتأجير سيارة، وبهذه الطريقة تتمكن من السباحة في عدة شواطئ تنتشر على طول الطريق ومجانية كلها، كما يمكنك أيضا التنقل بين أهم مدن الجزيرة بواسطة القوارب وذلك مقابل أسعار مقبولة جدا.

من أشهر الشواطئ «فالي دي لا لونا»، و«سانتا تيريزا»، و«ماديلينا»، و«سبارغي»، و«بوديلي».