كوالالمبور جوهرة الشرق الأقصى الخضراء

بلاد رائعة.. جمالها ينسيك عناء السفر

زائر كوالالمبور لا يمكن أن يغادرها قبل أن يرى عن قرب برجي «بتروناس» أو «twin towers» («الشرق الأوسط»)
TT

ما أن وطأت أقدامنا أرض «جوهرة الشرق الأقصى» حتى تلاشى تعبنا ونسينا عناء 11 ساعة من الطيران للسفر من بيروت إلى العاصمة الماليزية. ارتياح ممزوج بالدهشة من مشهد أرض عذراء يتلألأ اخضرارها على امتداد مساحات شاسعة على طول الطريق المؤدية من المطار إلى قلب كوالالمبور من دون أن تشوّهها يد الإنسان أو تلك المباني الشاهقة. على الرغم من أن أمرا ما كان قد كسر هذا الهدوء الطبيعي لحظة وصولنا إلى مطار كوالالمبور، إذ لم يكن الانطباع الأول إيجابيا، فاستقبال الموظفين لنا كان يفتقد كثيرا من حسن اللقاء الأول الذي يقع على عاتق هؤلاء. دقت ساعة الصفر وبدأت المغامرة لاكتشاف أغوار بلد يحمل بين حناياه تناقضات طبيعية وإنسانية ساهمت في منحه جمالية مميزة وفريدة. بعد استراحة الرحلة الشاقة، قررنا عدم انتظار برنامج اليوم التالي الذي تنظمه لنا وكالة السياحة، وانطلقنا على سجيتنا. المحطة الأولى كانت في سوق شعبي قريب، تناولنا طعام الغداء بعدما وجدنا صعوبة في الاختيار من اللائحة التي تزخر بأنواع مختلفة من الأطباق بمكوناتها المتناقضة، فكان طعم عصير البرتقال الطازج أكثرها طيبة. والغريب في الأمر أنه إضافة إلى «تمركز» طبق الأرز في الوجبات الثلاث، فإن التنوع في المأكولات يرتكز بشكل خاص في وجبة الفطور. وعندما سألنا المرشد السياحي في وقت لاحق، عن هذا الأمر أجابنا «الأرز موجود في كل وجباتنا وهو الذي يمنحنا النشاط والحيوية». كرّت سبحة الاكتشافات مع بزوغ الفجر، بعدما كانت الأمطار قد غسلت ليلا الشوارع من دون أن تفسح مجالا للشمس كي تشرق وتضيء بأشعتها المنطقة، بل بدت الطبيعة وكأنها في فصل الخريف بسمائه الملبدة بالغيوم، لكن المشهد الأخضر يبقى طاغيا على كل ما عداه من أمور أخرى تتراوح بين زحمة السير وحرارة الطقس و«رائحة البهارات» التي تملأ الأجواء الماليزية وتفوح في كل مكان. البداية كانت من قصر ملك ماليزيا ميزان زين العابدين الذي تقتصر زيارته على النظر إليه عن بعد. قصر يمتلك كل مقومات القصور الفخمة، من المساحات الخضراء إلى الهندسة المعمارية الراقية التي تجعل السياح يتسابقون لالتقاط صوره. على مقربة من قصر الملك، سجلنا اسم البلد الآتين منه ودخلنا متحف ماليزيا الوطني الذي يحكي تاريخ بلد عاش الاستعمار البريطاني والغزو الياباني وحقبات تاريخية أخرى، فجمع الأزياء العسكرية والفلكلورية بمجسمات الإنسان القديم وتطوره ومجموعات فنية عديدة من الإنتاج الفني الماليزي. وخارج المتحف توجد معروضات ثابتة مثل القطار الذي يعمل بالبخار، وأول سيارة «بروتون» صنعت في ماليزيا، وهي السيارة التي يعتمد عليها معظم الماليزيين في تنقلاتهم نظرا لرخص ثمنها مع غياب شبه كامل لأنواع السيارات الأخرى. مع العلم أن نظام السير في العاصمة الماليزية يمشي بعكس التيار، من مقود السيارة إلى خط سير السيارات.

ولأن زائر كوالالمبور لا يمكن أن يغادرها قبل أن يرى عن قرب برجي «بتروناس» أو «twin towers»، وهما أعلى برجين في العالم ويبلغ ارتفاع كل منهما 425 مترا ومؤلف من 88 طابقا، لكن مقاربتنا للبرجين بقيت عن بعد ولم يتسن لنا دخولهما نظرا إلى أن هذه المهمة تتطلب استيقاظا مبكرا وانتظار ما لا يقل عن ثلاث ساعات لنحصل على فرصة الاكتشاف من الداخل. فما كان أمامنا إلا الاكتفاء بمتعة النظر عن بعد والتقاط الصور. للمعارض في ماليزيا حصة الأسد. كلها صناعات محلية وعدد كبير منها يدوي. الرسم على الأقمشة وتصميم الثياب، لا سيما منها الأزياء المحلية مهنة يتميز بها الماليزيون، فها هو صاحب المعرض يتولى مهمة استقبالنا وتعريفنا على حرفته، الرسام في نشاط مستمر «ينحت» في القماش ليبدع لوحة ملونة كفيلة أن تتحول إلى فستان أو تنورة أو حتى سترة. في معرض آخر، الحرفة مختلفة. هنا الجلد هو سيد الموقف، وصاحب المعرض الياباني، يتولى مهمة الشرح بلغة تمزج بين الإنجليزية والعربية «المكسّرة»، فيفسر «البقرة في ماليزيا no شعر» ليعلمنا أن الجلد المصنوع منه الحقائب الموجودة في المعرض هو مستورد من إيطاليا ومصنوعة إما من جلد البقر أو من جلد التماسيح، مع اعتماده على محطات كلامية عربية مختلفة مثل «أيوا» و«المحل محلك» في محاولة منه لإضفاء جو من المرح. للشيكولاته محطة رئيسية، حيث يتسنى للزائر مشاهدة عملية صناعة الشيكولاته المصنوعة من الكاكاو الماليزي، وبعد تذوقها ممزوجة بأنواع مختلفة من الفاكهة، لا يمكن للسائح أن يخرج قبل أن يحمل في جعبته علبة شيكولاته ماليزية. ولأن المسلمين يشكلون 57 في المائة من الشعب الماليزي، تحظى المساجد باهتمام ملحوظ من الدولة، وأهمها المسجد الوطني الذي تحول إلى مزار يقصده السياح من مختلف الطوائف. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن المشهد الإسلامي في ماليزيا لا يعكس حياة اجتماعية إسلامية واضحة، لا سيما لناحية الحجاب المتحرر من معايير الثياب المحتشمة. وبالعودة إلى المسجد الوطني، فتكمن ميزته بتصميمه الذي يعتمد على الهندسة الإسلامية لما يشمل من فن كتابة الخط اليدوي التقليدي والزخرفات والنقوش، وتزينه من الخارج الأحواض ونافورات المياه، فيما تأتي القبة على شكل مظلة شمسية. قبل الدخول إلى المسجد، تسألنا إحدى النسوة إذا كنا مسلمين، لأن ثوب المسلم يختلف عن غيره، فالأول باللون البنفسجي والثاني باللون الرمادي. هذا التمييز في ألوان الأثواب ظهرت أسبابه عند دخولنا باحة المسجد، فمن يرتدِ اللون البنفسجي يسمح له بالدخول إلى قاعات المسجد للصلاة، فيما يكتفي الآخرون باستراق النظر من الخارج. لكن يتساوى الجميع في المنشورات التي توزع في الخارج، التي تشرح الجهاد الذي يختلف عن الإرهاب وسبل اعتناق الإسلام وأهمية تأدية الصلاة. وفي جهة أخرى من المدينة، يلتقي الهنود للصلاة والعبادة في معبد «Murugan». معبد يستحق الزيارة للتعرف عن قرب على ثقافة الهندوس وديانتهم. في الباحة الخارجية أول ما يلفت النظر مجسم «Murugan» العملاق بلونه الذهبي محاطا بأشجار خضراء تمنح المنظر العام جمالية خاصة، فيما تطير الحمامات متسابقة لـ«ارتشاف» المياه الموجودة على الأرض. وخلال صعودنا على سلم المعبد الذي يصل عدد درجاته إلى 272 كانت القرود تحيط بنا من الأعلى، على الأشرطة والأعمدة، والأسفل، ملتهمة ما تيسر أمامها من الموز. وفي نهاية الطريق وصلنا إلى محطة حيث كانت الأفاعي في استقبالنا مرفقة بتحذير «عدم اللمس». لتتضح صورة الديانة الهندوسية أكثر شيئا فشيئا، فنلتقي بمن نذر أن يزور المعبد حافي القدمين، أو ذلك الذي جاء ليمسح رأس طفله بطين من المعبد، وآخرون يصلون مع رجل الدين الذي يوزع عليهم الموز وجوز الهند والورود. وللتسوق عناوين كثيرة في العاصمة الماليزية، لكن هنا تلعب المعرفة بالمكان والسعي إلى الاكتشاف السبيل الأهم لشراء الأغراض القيمة بأرخص الأسعار. وأهم نصيحة تعطى للسائح في هذا البلد هي عدم الاستسلام لطلبات البائع، فليس غريبا مثلا أن تحصل على أي قطعة بنصف السعر إذا بذلت جهدا في «المفاوضة». وأهم هذه الأسواق، إضافة إلى تلك الموزعة على جوانب الطرق، التي يمكن «اصطياد» تذكارات ماليزية بأسعار مقبولة منها، هي المراكز التجارية الكبيرة التي تجمع بين الرخيص والمتوسط والثمين. وإذا كانت الوجهة وسط المدينة، فلا بد للسائح أن يكتشف موهبة جديدة لدى الماليزيين وهي الغناء بالعربية. ففي إحدى السهرات كان موعدنا مع أغنية «زي الهوا» و«عبرت الشط» وغيرهما من الأغنيات التي يؤديها فنان ماليزي، وكانت كفيلة بجذب كل سائح عربي مر بالمكان، فيما أطلق الشباب الماليزيون والمراهقون العنان لرقصاتهم في وسط الشارع.

وللترفيه والمغامرة عنوان واحد في ما يعرف بـ«genting land». الوصول إلى هذه المدينة لا يحتاج إلى أكثر من نصف ساعة في السيارة، لتبدأ الرحلة الجوية على متن «تيليفيريك» أو «gondola» يعرّف عنه الماليزيون بأنه الأسرع والأعلى في العالم. بحر من الشجر الأخضر يموج في الأسفل. غابة عذراء لا تزال تنصع اخضرارا وتريح النظر والعقل لتنسي المسافر رهبة هذا الارتفاع الشاهق الذي يطل منه. نصف ساعة في الطريق الجوية وصلنا بعدها إلى محطة تعكس صورة مصغرة عن المناطق الماليزية. من التسوق إلى الترفيه والطعام. وهنا يستقطب أحد المطاعم العربية الذي يديره طباخ لبناني، السياح العرب الذين يجدون ضالتهم من الأطباق الرئيسية والحلويات إضافة إلى النرجيلة والأغنيات العربية التي تصدح في أرجاء المكان. هذا غيض من فيض أغوار ماليزيا التي لا بد أن يخصص لها السائح ما لا يقل عن 5 أيام علّها تكون كفيلة باكتشاف بلد يجمع تحت سمائه أديانا مختلفة وثقافات متعددة وفصولا متناقضة.