البترون.. «سوليدير» الشمال اللبناني

مدينة لا تنام

الأسواق القديمة في البترون تبقى الشاهد الأهم على دورها وتراثها («الشرق الأوسط»)
TT

مدينة البترون اللبنانية الساحلية، الواقعة في منتصف الأوتوستراد الساحلي الذي يربط العاصمة الأولى بيروت بالعاصمة الثانية طرابلس، لا تتوقف حكايتها مع البحر والسهر والتراث. فإذا قصدت إليها من بيروت أو طرابلس أو أي منطقة لبنانية عليك أن تتحمل مشقة زحمة السير على الأوتوستراد، ولا سيما في أوقات الذروة، ولا ينسيك هذه المشقة، ومسافة الخمسين كيلومترا سوى مجانبتك لشاطئ البحر، وتأمل حركة الأمواج المتدافعة أحيانا، والمتهادية أحيانا أخرى. قبل أن تدخل المدينة تطالعك بساتين الليمون، لذا لا بد لك من أن تأخذ استراحة لتطفئ لهيب المشوار مع كوب من «الليمونادة» التي باتت رمزا من رموز المدينة، بنكهتها المميزة وطعمها اللذيذ، حتى أن هذا المشروب المنعش تحول عيدا في المدينة منذ عام 1940، حيث يعمد أبناؤها إلى تقديم هذا المشروب للضيوف والزائرين وتحديدا في منطقة الأسواق القديمة.

وبعد تناول جرعة من الانتعاش لا بد من جولة في المدينة تشمل آثارها قبل كل شيء، ومنتجعاتها ومطاعمها وأنديتها الليلية، وفنادقها، حتى ليخيل إلى الزائر أنه حيال «سوليدير» شمالية تضج بحركة السيارات نهارا، وبحركة الرواد ليلا، الذين يذكرون أيضا بمحلة «الروشة» أو «شارع الحمراء» في غرب العاصمة قبل الحرب اللبنانية، وهي المنطقة التي لم يكن يعرف النوم سبيلا إلى جفونها ولا إلى جفون روادها.

وعندما تسأل رئيس بلدية المدينة مرسيلينو الحرك أي سؤال عن البترون يبادر إلى دعوتك لزيارتها «لأن الزيارة تعطيك الفكرة الكاملة عن تاريخ هذه المدينة العريقة والضاربة في التاريخ والمتطلعة إلى المستقبل بإرادة وتصميم، حتى أنها وقعت اتفاق توأمة مع مدينة فالانس الفرنسية منذ عام 2006 فيما شارك اثنان من أبنائها هما فادي جبرايل وايمي باسيل في عيد الموسيقى الذي احتفلت به المدينة الفرنسية في أبريل (نيسان) الماضي».

ومهما تأملت في تراث البترون وآثارها فلن يشفي غليلك سوى الاختصاصي في علم الآثار الدكتور جوزف مرشاق الذي يعتبر «أن المسرح الروماني هو أحد أهم رموز المدينة كونه حفر في الصخر بشكل نصف دائري ليجلس المشاهدون داخله، وله امتداد تحت المنازل وغربا حيث توجد حمامات مطمورة. ولعبت البترون في العصر الروماني دورا مهما سمح لها بصك النقود باسمها حتى منتصف القرن الثالث».

وهناك السور البحري الفينيقي، الذي كان كثبانا رملية تحجرت في الطور الجيولوجي الرابع، الأمر الذي دفع البترونيين إلى اقتطاع الأحجار الرملية منه لبناء دور العبادة والمنازل والدكاكين والخانات والفنادق والمدارس والأديرة، ولا تزال هذه الحجارة سمة من سمات البترون المميزة. ويبلغ طول السور 225 مترا، وارتفاعه 5 أمتار، وعرضه عند القمة بين المتر والمتر ونصف المتر، «وكانت الغاية من هذا السور، كما يقول مرشاق، صد الغزاة والعواصف البحرية». وفي جنوب شرقي السور يقع «مقعد المير» الذي هو كناية عن صخرة حفر في غربها باب ودرج يوصلان إلى سطحها.

ومن آثارها الفينيقية أيضا «القلعة الفينيقية» التي بناها ملك صور ايتوبعل الأول في القرن التاسع ق.م. لحماية مملكته من الغزو الآشوري، لكن زلزال 9 يوليو (تموز) 551م. ضرب هذه القلعة فأعاد أبناء البترون بناءها «ولكن بصورة عشوائية» كما يقول أحد المهتمين بالآثار. وتعاقب على استعمالها العرب والصليبيون والمماليك والعثمانيون.

ولا تخفى أهمية «نفق سان لويس» الذي كان يستعمل مخزنا للمواد المستوردة من أوروبا، و«بئر القاضي»، التي حفرت في أواخر القرن التاسع عشر على أيدي أبناء المدينة ومول أعمالها القاضي مخايل إبراهيم الخوري، وأعيد تأهيلها في عام 2003.

وإذا كانت كاتدرائيات المدينة وكنائسها تلهج بالعراقة، بناء وتصميما وتاريخا، فإن الأسواق القديمة في البترون تبقى الشاهد الأهم على دورها وتراثها، بأبنيتها ذات العقود المتصالبة والسريرية المزدوجة (عقد اعوج كما يسميه معماريو هذا النوع من البناء) وبحجرها الرملي البتروني. وكانت هذه الأسواق قديما تجمع عددا من الدكاكين والمحال التجارية والخانات والفنادق والمعامل، وفي طبقاتها العليا تقع المنازل، أما اليوم، فقد تحولت إلى مطاعم ومقاه وأندية ليلية، ورصفت بحجر البازلت في عام 2003، وباتت مسرحا لمهرجان سنوي في شهر أغسطس (آب) من كل سنة يجمع بين اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، والسياح العرب والأوروبيين على تنوع الحفلات وتعدد الأطباق التي تراوح بين الطبق الصيني وخبز الصاج اللبناني، مرورا بالطبق المكسيكي والطبق الفرنسي والطبق الإيطالي.

وإذا أردت أن تسهر في أندية البترون الليلية فعليك المبادرة إلى حجز مقعدك قبل الموعد المحدد، «لأن المدينة تتحول مدينتين خلال الليل»، كما يقول أحد أصحاب هذه الأندية.

وإذا كنت من المولعين بتناول السمك، فلا بد من أن تجد في أسواق البترون ضالتك، وفي مطاعمها البحرية ما تشتهي من السمك الطازج الذي بالكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة عند وضعه على النار. أما إذا كنت من هواة السباحة، فأمامك خيارات جمة في المسابح، وإذا رغبت في تمضية إجازتك فلا بد من أن تختار أحد المنتجعات التي توفر لك النوم الهانئ والسباحة الممتعة، والطعام الذي يسيل له اللعاب، وإذا كنت تخصص ميزانية كافية يمكنك اختيار أحد فنادق المدينة المجهزة بكل أنواع الخدمات.

وعلى الرغم من أن البترون مدينة ساحلية، فهي مقصد صيفي وشتائي في آن واحد. صيفا للاستمتاع بالبحر وتمضية الإجازات في الشاليهات الهاجعة على صوت الموج، وشتاء للاستمتاع بالسهر ليلا، والتلذذ بالأسماك الشهية. يبقى أن نشير إلى أن إحياء كل هذه الثروة البترونية التراثية والسياحية والاجتماعية عززت الاستثمار في المدينة التي تشهد حاليا تنفيذ 4 مشاريع سياحية كبرى، كما عززت سعر العقار داخل المدينة وخارجها، ولا سيما من قبل المغتربين الذين يشكلون نسبة عالية من أبناء البترون ومنطقتها.