بروكسل.. كل شيء فيها ملكي إلا المتسولين

مدينة الحساسيات الثقافية واللغوية

بروكسل.. كل حي فيها يمتاز بقالب ثقافي وهندسي خاص به («الشرق الأوسط»)
TT

ليست شبيهة بباريس أو بلندن أو حتى ببرلين؛ إنها بروكسل، تجمع متناقضات كثيرة حتى يخال لزائرها أنها أكثر من بلد وأكثر من مدينة وأكثر من ثقافة، وهي بالفعل كذلك، كما يخال أنها أكثر من شعب أيضا. بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، مدينة عائمة على خلافات قديمة، وعلى حساسيات ثقافية ولغوية جمّة؛ فهي ربما تكون العاصمة الأوروبية الوحيدة التي تعتمد لغتين في الإشارات الدالة على الأماكن ومحطات القطار والمطارات، وحتى في الشارات التي يعلقها رجال الشرطة على بزاتهم الكحلية الغامقة. ومرد ذلك يعود إلى ازدواجية اللغة في بلجيكا عامة، وبروكسل بشكل خاص، فلكونها عاصمة، تختزن الخليط البشري البلجيكي الذي يتحدث الفرنسية والفلمنكية كلغتين رسميتين للمملكة البلجيكية. ورغم أن هذا العامل قد يعبر عن الغنى الثقافي للدولة والشعب على حد سواء، فإنه يعتبر من أكبر المشكلات التي تعاني منها بلجيكا على عدة مستويات. منها ما هو ثقافي وعرقي، ومنها ما يتعلق بالسياحة؛ إذ على السائح أن يعتمد على مهارته الشخصية في معرفة خط سيره وطريقه، سواء في بروكسل أو في المدن الأخرى، التي منها ما يتحدث الفرنسية، ومنها ما يتحدث الفلمنكية حصرا. ففي بروكسل يمكن للزائر تحدث الفرنسية والإنجليزية والفلمنكية، أما في بعض المدن القريبة، مثل ميخلن MACHELEN، على سبيل المثال، فلا يمكنه سوى التحدث بالفلمنكية التي لا يمكن لزائر لم يتعد على وجوده عدة أيام التحدث بها، رغم أن المدينة لا تبعد أكثر من 15 كم عن العاصمة، بحيث يمكن اعتبارها ضاحية من ضواحي العاصمة. وهي إلى ذلك متعددة حتى في معنى اسمها بين الفرانكفوني والفلمنكي. ففي اللغة الفلمنكية، يشتق اسم بروكسل من كلمتين، هما (الملح والحماسة)، بينما تعني في اللغة السلتية القديمة (المستنقعات الضخمة)؛ حيث يمر منها نهر السين الذي يستمر حتى الوصول إلى العاصمة الفرنسية، والذي يعتبر من أهم علاماتها الثقافية والسياحية كذلك. وهي في القديم كانت تتعرض لفيضانات دورية بحسب المواسم، خاصة في الشتاء.

ثمة فارق آخر يمكن تلمسه ببساطة بعد جولة قصيرة في المدن البلجيكية، وهو الفارق الاقتصادي بين السكان الفرنكفون والفلمنكيين؛ إذ يتضح أن المدن الفلمنكية، هي المدن الأكثر ثراء، في حين أن المدن الفرنكفونية هي المدن الأكثر فقرا في المملكة، وهذا سببه إمساك الفلمنك بجميع المقدرات الاقتصادية المهمة في المملكة، وهذا ليس منذ وقت قصير، وإنما منذ عدة قرون خلت.

بعيدا عن مشكلة التعدد اللغوي، فإن بروكسل تعتبر من أهم العواصم الأوروبية لأسباب عديدة؛ فهي عاصمة الاتحاد الأوروبي، حيث يقع مبنى البرلمان والمفوضية وعدد لا حصر له من المراكز الأوروبية المهمة، التي تعنى بكل ما يتعلق بأعمال الاتحاد الأوروبي. وتمتاز بحراك ثقافي رائع ومميز، بدأ منذ مطلع القرن العشرين، من خلال بناء الأحياء الداخلية للمدينة، حيث إن كل واحد من هذه الأحياء يمتاز بقالب ثقافي وهندسي خاص به، كما يمتاز بنوعية خاصة من السكان، الذين يعيشون بأساليبهم الخاصة، التي تميز أحياءهم يوميا، مثل الحي الملكي ووسط المدينة وسابلون والمارول والسين وماري جاكمان، وحي الحرية والحي الأوروبي والحي الخمسيني، الذي يضم، إلى جانب أكبر حديقة في بروكسل، أكبر مسجد في بروكسل أيضا، وهو يقع في جنوب شرقي العاصمة، وفي الجانب الشمالي من الحديقة، ويطل على جادة شارتنبرغ. وهي اليوم مدينة تضم جنسيات عديدة، وشوارعها تتحدث بلغات تتجاوز الصراع الثقافي البلجيكي المحلي حول هوية البلد الثقافية بين الفرنكفونية والفلمنكية.

لم يكن اليوم الأول في بروكسل مميزا جدا، فزيارة المدينة في الشتاء محيرة؛ بسبب الطقس المتقلب والغائم دوما، بما يذكر بمناخ العاصمة البريطانية. 15 دقيقة من مطار بروكسل الدولي وحتى محطة بروكسل الوسطى BRUXELLES - MIDI، التي تعد أكبر محطة في وسط العاصمة، ثم، وعلى الفور، إلى الترامواي الأصفر، الذي يحتاج الصعود إليه مع الأمتعة إلى مجهود خاص؛ بسبب علوه الشاهق عن الرصيف، للوصول بعد دقائق معدودة إلى وجهتي في وسط المدينة. من نافذة الترامواي الصغيرة والمغبرة كان يمكنني استطلاع المباني التي لا تعلو كثيرا، معظم أبنية بروكسل المبنية بين أواسط القرن التاسع عشر، وحتى خمسينات القرن العشرين لا تتجاوز الطبقات الثلاثة، وهي جميعها مبنية من واجهات خرسانية قديمة، وبأسلوب يتشابه مع معظم مدن الشمال الأوروبي في مزاوجة بين الباطون والألواح الخشبية، التي استعملت لتزيين وتدعيم الواجهات، ومع ذلك، ففي وسط المدينة نفسه، بدأت طفرة معمارية حديثة تفضل الأبنية الشاهقة على حساب الأبنية التقليدية المنتشرة في كل شوارع المدينة. حتى أن الحديث يدور في المدينة عن خلق آلية قانونية تمنع تشييد الأبنية الحديثة في الأحياء التي لها طابع هندسي قديم، وهو حديث يتجاوز بروكسل على الأرجح، ويطال معظم العواصم الأوروبية.

وسط المدينة هو أكثر الأحياء الغنية بالتراث، إلى جانب حي سابلون وماري جاكمان وحي المارول. لكن ما يميز وسط بروكسل، هو أنه يحوي غالبية الأماكن السياحية والأسواق التجارية القديمة المتعددة، من دون أن يأخذ من الأحياء الأخرى ما يميزها عن غيرها. والحق أن الساحة الكبيرة في وسط بروكسل GRANDE - PLACE، هي المعلم الأكثر فرادة في بروكسل؛ بسبب ما تختزنه من معالم أثرية كثيرة، وأيضا بسبب ما يميز هذه الأبنية التاريخية عن غيرها من جهة، وعن تعدديتها الهندسية من جهة أخرى. وهي إلى ذلك، من الأماكن الموجودة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، وفيها مبنى البلدية HOTEL DE VILLE DE BRUXELLES، وبيت الملك LA MAISON DU ROI، الذي شيد في القرن الثاني عشر على أساسات متجر كان يبيع الخبز، لذلك سموه يومذاك BROODHUIS، وهي تسمية هولندية للمكان الذي يباع فيه الخبز. المنزل تم تجديده في عام 1873 بأسلوب الهندسة النيوقوطية، وهو منذ عام 1887 يعرف بمتحف المدينة الرئيسي، وهذه التسمية بسبب وجود عدد كثير من المتاحف في بروكسل. أما واجهة المباني في اليسار الداخلي إلى الساحة من خلف مبنى البورصة، فمعظمها مبان قديمة، يعود أقدمها إلى القرن السادس عشر، وأحدثها إلى أواسط القرن التاسع عشر، كما تضم الساحة منحوتة لفكتور روسو، وهو أحد أهم المعماريين البلجيك في القرن العشرين.

من الطريق المسماة DU CHANE، التي تضم عدة فنادق فخمة، ومتواضعة أيضا على كلا الجانبين، الطريق تمتد صعودا حتى حي السابلون، الذي يقع على هضبة تطل على وسط المدينة ولا يخلو شارع من شوارعه من غاليري لعرض الفنون، ومحلات الموبيليا والتحف القديمة، وكذلك محلات الصاغة والمتاجر المتخصصة بتجارة الماس. هكذا وصولا حتى طرف حي المارون؛ حيث يقع قصر العدل الشهير في بروكسل، الذي شيده الملك ليوبولد الثاني في عام 1866، وهو من تصميم مجموعة من المهندسين، وكان يعتبر في حينه أكبر مبنى حجري في العالم؛ إذ تغطي كتلته الحجرية 26 ألف متر مربع، كما يحتوي على قبة تغازل قبة كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان، وقد أثيرت حول البناء كثير من الأقاويل في حينه، حيث كلف بناؤه نحو 50 مليون فرانك في القرن التاسع عشر؛ أي ما كان يعادل ميزانية المملكة على مدار سنة كاملة. ورغم كل ما قيل حين بني، يبقى قصر العدل في بروكسل واحدا من أهم المعالم التي تدل على ثقافة البذخ التي كان يسير على نهجها ملوك بلجيكا في ذلك الوقت.

ليس بعيدا عن قصر العدل، وفي مواجهته تقع الساحة الملكية التي تجاور القصر الملكي، حيث يعيش الملك ألبرت الثاني الحالي، ابن الملك ليوبولد الثاني والملكة أستريد، التي تنحدر من أصول سويدية، واسمه الكامل (ألبرت فيليكس هومبرت ثيودور كريستيان أوجين ماري دو بلجيك)، وهو سادس ملوك بلجيكا من العائلة نفسها، حيث جلس على عرش المملكة في عام 1993 بعد موت أخيه الملك بودوان. لكنه، على عكس والده الذي كان يبذخ بلا حدود، يعتبر الملك الأكثر تقنينا في صرف الأموال العائدة للدولة. كما أن قصره، الذي يتربع على تلة في وسط العاصمة قبالة الحديقة الملكية، لا يحتوي على موقف مخصص، سوى لسيارات العائلة فقط، لذلك فإنه حين يقيم حفلا، أو يستقبل أعضاء السلك الدبلوماسي في المملكة، يحصل على ترخيص من البلدية لاستخدام الرصيف المقابل لقصره كموقف للسيارات. وعلى الدوام، لا يظهر من الحرس الملكي سوى اثنان في الأيام العادية. أما في أيام المناسبات، فيظهر حرس الشرف الملكي، وهو مؤلف من 10 أفراد، مهمتهم تقديم التحية الملكية لضيوف الملك على باب القصر.

تبدو بروكسل للزائر وكأنها مدينة ملكية بامتياز، فهي، وبعيدا عن تاريخها الملكي، الذي لا يزال مستمرا إلى اليوم، كتقليد يدأب البلجيكيون على ممارسته باحترام كامل، تعبر من خلال هندستها وتقسيمها عن العصور الذهبية، التي عاشتها المدينة منذ بدايات القرن التاسع عشر وإلى الآن. لكن هذه الصورة الكلاسيكية لزائر عابر، لا يمكنها أن تكون الوحيدة، فثمة كثير من المشاهد الحياتية الأخرى، حيث حقيقة الحياة بكل ما تعنيه الحقيقة من كلمة ومعاناة، وبكل ما يمكن للناس البسطاء أن يعيشوا هكذا ببساطة، ومن دون تكلف وبذخ. إذ لا تخلو محطة للقطار أو شارع من رؤية متسول هنا أو هناك، كما أن المدينة تعج بالأشخاص الذين لا يملكون من الحياة سوى افتراش الأرصفة في الليل البارد للنوم، وهم من يطلق عليهم بالفرنسية اسم CLOCHARD، طبعا، كغيرها من المدن الأوروبية التي تسحق أصحاب الحظ القليل في الحياة. كما أن المدينة النظيفة في وسطها ليست كذلك في أحيائها الداخلية، ويتربع الشارع التجاري الخاص بالعرب على قائمة أكثر الأماكن اتساخا، ربما في المدينة كلها. وهو شارع يبدو عليه القدم والإهمال لأسباب غير معروفة. ويمكن من خلال التجول فيه لعدة دقائق مشاهدة أكثر من عشرين جنسية أجنبية، سواء كان ذلك في المقاهي القديمة والرخيصة المتناثرة على جوانبه، أو في حركة التسوق الكثيفة؛ حيث يضم الشارع جميع المتاجر التي تبيع البضائع والمأكولات الشرقية والأجنبية على وجه الخصوص.

والحق أن الحركة التجارية والسياحية والثقافية في بروكسل، لا تهدأ، فهي مدينة دائمة الحركة وتمتلئ بالنشاطات التي لا يمكن للزائر الإحاطة بها كلها. فعلى مدار خمسة أيام كاملة، كانت بروكسل تعيش لحظات ثقافية وسياحية وتجارية ضخمة. فقد افتتح معرض بروكسل الدولي للسيارات في مركز المعارض على طرف المدينة، وكذلك معرض استعادي للفنانة السوريالية، فريدا كالو، ومعرض عن الشاي في الثقافة الصينية، ومعرض خاص يعتبر الأضخم في أوروبا على جدار الحديقة الملكية، عن ضحايا هايتي، ومهرجان محلي للأفلام الروائية والقصيرة... إلخ. الأمر الذي لا يمكن الإحاطة به خلال أيام قليلة، لكنه في الوقت نفسه يعطي السائح فرصة اختيار النشاطات التي يحبها بسبب كثرة تنوعها وشموليتها لمجالات عديدة.

تعج العاصمة البلجيكية بالفنادق الفخمة، وكذلك الفنادق العادية. لكن ثمة فنادق تتميز بخدماتها عن غيرها، بحيث تقدم خدمات تتجاوز فكرة النوم فقط. نختار منها ثلاثة تتعلق بالتراث البلجيكي القديم والحديث.

* أين تقيم؟

La plaza، واحد من أهم وأكبر الفنادق في وسط العاصمة، يقع بالقرب من الساحة الكبيرة وحي المتاحف boulevard Adolph maxlaan tel:003222781000.

Radisson blue royal، يقدم هذا الفندق الضخم خدمات لا تحصى، وهي جميعها من الخدمات التي تقدمها الفنادق، التي تحرص على رفاهية عالية جدا لعملائها. يقع في وسط المدينة، قريبا من جميع الأماكن السياحية وغيرها.

47 rue du fosse - aux - loups,tel: 003222192828.

Hotel be manos، يجمع هذا الفندق بين روعة الهندسة القوطية؛ حيث يحتل مبنى قديما في وسط العاصمة، والهندسة الداخلية الحديثة؛ حيث اشتغل على هندسته مجموعة من كبار مهندسي الديكور في العالم، مثل باكورابان وغيره. كما أنه موقع مهم للزيارة للتعرف على أحدث التصميمات في الهندسة الداخلية للغرف 23 square de l aviation, luchtvaartsquare tel: 003228080530.