«المدن المفقودة».. من المناطق السياحية الأثرية التي لا تعوض

من ماتشو بيتشو في البيرو إلى موهنجو - دارو القديمة في باكستان

TT

هناك أنواع كثيرة من السياح كما هو حال السياحة نفسها التي تعتبر هذه الأيام أكثر القطاعات الاقتصادية والترفيهية جذبا للزبائن لتزايد قدرات الناس المادية والمعلوماتية وانفتاح العالم بعضه على بعض أكثر من أي وقت مضى، فهناك الآن السياحة الدينية والسياحة الصحية والسياحة الشتائية والثقافية، والكثير الكثير منها، وعلى رأسها السياحة الأثرية. وهناك بالطبع الكثير من المعالم الأثرية حول العالم التي جذبت ولا تزال تجذب السياح من كل حدب وصوب ومنذ عشرات السنين سواء أكان ذلك في أوروبا أو آسيا أو الشرق الأوسط والأميركيتين. ودرج الناس قديما على البحث عن الآثار القديمة في منطقة الشرق الأوسط التي مرت عليها حضارات كثيرة من حضارات بلاد ما بين النهرين إلى حضارات الفراعنة والفينيقية وبعدها الرومانية والبيزنطية وهلم جرا. ولا تزال هناك مواقع أثرية هامة جدا وتعود إلى حقب تاريخية مختلفة في لبنان وسورية وفلسطين والأردن والعراق ومصر والسودان وغيرها، والكثير من الدول المجاورة، وخصوصا إيران وتركيا. وقد أدى شغف الأوروبيين بالآثار قبل الثورة الصناعية وبعدها إلى اكتشاف الكثير من المواقع القديمة في الشرق والغرب. وبين هذه المواقع الكثير من المدن التي كانت مراكز لحضارات قديمة شتى، وفيما يختلف حجم المعالم المتبقية من هذه المدن من مكان إلى آخر، يطلق الكثير من الناس عليها اسم المدن المفقودة، ومعظمها يعود إلى آلاف السنين، ومعظمها حظي برعاية منظمة اليونسكو، واعتبر في قائمة التراث العالمي.

ومن هذه المدن التي قد تهم السائح والباحث عن التاريخ وأعماقه وتشعباته، مدينة ماتشو بيتشو (Machu Picchu) في كوزوكو في البيرو، أو القلعة الضائعة، التي يعني اسمها «قمة الجبل القديمة» باللغة الإنكية. وهي مدينة ذاع صيتها في الشرق والغرب لجمالها وموقعها العالي وأصبحت منذ سنوات طويلة من المحطات السياحية الأثرية الدولية الهامة والأساسية. وتعتبر المدينة القديمة والمذهلة التي بناها شعب الإنكا في القرن الخامس عشر من عجائب الدنيا السبع الجديدة.

ويصل ارتفاع المدينة التي تحيط بها سلسلة جبال الإنديز الشهيرة عن سطح البحر نحو 2340 مترا، ويمر تحتها نهر أولو بانبا. وتقول الموسوعة الحرة في هذا الإطار إن المدينة صنفت أيضا ضمن «قائمة المناطق المقدسة القديمة العشر في العالم بسبب بيئتها المتميزة بجوّ مقدس وسحري وإيماني»، وإن المكتشف الأميركي هيرام بينغهام هو الذي اكتشفها عام 1911 في أثناء عمليات البحث والتنقيب التي كان يقوم بها عن آثار الإنكا التي دمرها الإسبان في أثناء وجودهم في أميركا اللاتينية. ويقال إن بينغهام عثر على المدينة مغطاة بغابات استوائية كثيفة. ويقال إن أبناء الإنكا أرادوا إخفاء المدينة عن أعين الإسبان الغزاة آنذاك خوفا على حضارتهم من الانقراض، فقصدوا أن لا يتكلموا عنها وصمتوا حولها ولم يتمكن الإسبان من معرفة وجودها. ولأنه تم العثور على جثامين كثيرة للنساء فيها اعتبرها بعضهم مكانا لسكن النساء. ولأنها لم تكن صالحة للسكن اعتبرها البعض أيضا خاصة بتقديم القرابين وإقامة الاحتفالات الدينية. وكان أبناء حضارة الإنكا يعبدون آنذاك الشمس ويعتبرون النساء بنات الشمس، فكانوا يقدسون المرأة بطريقة أو بأخرى. ويقول سامح الحاروني في الموسوعة الحرة إن في المدينة «الكثير من الحدائق والأروقة والبنايات والقصور الفخمة، والترع وقنوات الري وبركات الاستحمام. وتربط السلالم الحجرية بين الحدائق والشوارع المختلفة الارتفاع... ولأن بينعهام قال إن هذه المباني الحجرية معجزة صعبة التصديق. وقال بعض الناس إنه مستحيل أن يكون شعب إنكا القديم قد بنى هذه المباني العجيبة دون أدوات حديثة ومعارف معمارية وهندسية، بدأ الناس يعتقدون أن الكائنات الفضائية قد نزلت إلى هذا المكان قبل آلاف السنين وبنت هذه المدينة، أو بناها إله الشمس، وغيرهما من الحكايات الخيالية والخرافية.

ونبقى في أميركا اللاتينية وفي البيرو أيضا التي تضم الكثير من الآثار الهامة والقديمة، وخصوصا المدن المفقودة بعيدا عن ماتشو بيتشو، ونتوجه نحو تشان تشان (Chan Chan) عاصمة مملكة الشيمو التي سيطر عليها أبناء الإنكا في القرن الخامس عشر أيضا. والمدينة عبارة عن تسعة حصون أو قصور مستقلة، وتضم عددا لا بأس به من الأهرامات القديمة. ولا يزال جزء كبير من معالمها الداخلية وتفاصيل العمارة وحيطانها الطويلة والمرتفعة والمحفورة بالنقوش والأشكال النباتية والحيوانية والبشرية في حالة جيدة. وتقع المدينة في إقليم لا لبيرتاد شرق تروخيلو، وتمتد على مساحة قدرها 20 كيلومترا مربعا.

وتقول المراجع التاريخية عن أصول المدينة الجميلة من الناحية الأثرية، إن أهل الشيمو بنوا المدينة عام 850 وبقيت إلى عام 1470، أي وقت احتلالها من قبل الإنكا، وكان يعيش فيها آنذاك نحو 30 ألف نسمة.

وعلى جمالها تتعرض المدينة حاليا للكثير من المخاطر بسبب موقعها الساحلي (المحيط الهادي)، من عوامل التعرية الطبيعية، إلى العواصف الهوجاء والفياضانات التي تضرب المنطقة، إلى مخاطر الزلازل والهزات الأرضية، بالإضافة إلى عمليات السرقة من وقت إلى آخر، وغيرها. ويقول بروس هاثاواي في أحد مقالاته عن المدينة إن أبناء الإنكا سخّروا الحرفيين ومهرة العمال والبنائين الذين كانوا يعيشون في تشان تشان لبناء عاصمتهم كوزكو التي تبعد ستمائة كيلومتر منها إلى الجانب الجنوبي الشرقي. وعندما وصل الإسبان وخصوصا فرانسيسكو بيزارو عام 1532 كانت المدينة شبه مهجورة، لكن بعض تقارير بعثته والبعثات الإسبانية الأخرى تحدثت عن وجود حيطان ومعالم معمارية أخرى مطلية بالمعادن الثمينة، منها باب مطلي بالفضة تساوي قيمته بحسابات اليوم أكثر من مليوني دولار. وفي النهاية عمل الإسبان كما فعلوا في الكثير من المناطق في أميركا اللاتينية على نهب المدينة وتحويلها إلى منجم لاستخراج ما أمكن من الفضة والذهب والمعادن الثمينة الأخرى.

ومن المدن التاريخية المفقودة التي تضمها أميركا اللاتينية أيضا مدينة تيكال، التي تعود إلى حضارة المايا في غواتيمالا. وقد بقيت هذه المدينة مجهولة حتى اكتشافها عام 1848 مدفونة كغيرها من مدن الحضارات الأميركية القديمة بين الأدغال شمال غربي منطقة بيتين. ويعتقد أن الناس عاشوا في المدينة لأربعة عشر قرنا معتمدين على تخزين مياه الأمطار تحت الأرض وفي أماكن خاصة، ويعتقد أن الناس تركوا المدينة وهجروها في القرن العاشر نتيجة الجفاف.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن تيكال التي يصعب أن لا يتعرف عليها الإنسان العادي لأهراماتها أو معابدها الرمادية الطويلة التي تتوسطها الدرجات، كانت مركزا احتفاليا، وأنها بدأت كقرية صغيرة ونمت وتطورت فأصبحت مركزا مهمّا على الصعيد التجاري والديني والحضاري. وبدأت كقرية عام 300 قبل الميلاد كمركز ديني، وازدهرت لاحقا في العصر الكلاسيكي (بين عامي 300 و900) مع بناء الكثير من المعابد والأهرامات والساحات العامة وانتشار الحساب، وخصوصا حساب الوقت، والنحت على أنواعه، والرسوم، وازدهار الكتابات الهيروغليفية، والفن المايي بشكل عام.

ويبدو أن مباني المدينة الرئيسية عبارة عن معابد وقصور للطبقات العليا لأبناء المايا، ويبدو أنها تنتشر على مساحة قدرها ستة أميال مربعة. ومع أنها لم تكن منظمة الشوارع فإنها شهدت طفرات وازدهارات هامة في عام 700 إلى أن وصل عدد سكانها إلى خمسين ألف نسمة.

ويذكر أن اسم تيكال الذي تعتبر منطقتها حديقة وطنية عامة، هو الاسم الذي أطلق على المدينة إثر اكتشافها نهاية القرن التاسع عشر، وأن اسمها خليط من لغة المايا يعني «عند فتحة الماء»، تيمنا باسم منطقة مائية قريبة كانت مقصدا ومعبرا للصيادين والسياح. وفي لغة المايا - الاتزا.

وبعيدا جدا عن أميركا اللاتينية، هناك مدينة موهنجو - دارو في وادي الهندوس في إقليم السند في باكستان، ويعود تاريخ المدينة إلى أكثر من 3800 سنة، وتم اكتشافها من قبل عالم آثار هندي عام 1922 يدعى راخالداس بانديوباذياي بمساعدة من الرهبان البوذيين في المنطقة، ويعني اسم المدينة التي تعتبر أيضا من التراث الإنساني «كومة من الأموات».

ويبدو أن المدينة من أقدم المدن والتجمعات البشرية في العالم، ومن أهم المدن التابعة لحضارة وادي الهندوس في جنوب آسيا التي كانت وازدهرت في نفس الوقت الذي ازدهرت فيه مصر مع الفراعنة واليونانيين مع كريت والمانوية والعراق أيام البابليين.

وتقول الموسوعة الحرة إنه تم إنشاء المدينة التي لا تزال معالم أساسها موجودة حتى الآن عام 2600 قبل الميلاد، وبقيت حية حتى عام 1500 قبل الميلاد، وهي ذات تصميم دقيق ومتقدم، وكان هدف بنائها تأسيس مركز تجاري هام للمنطقة الزراعية المحيطة بها، بالإضافة إلى مركز إداري. ويمر نهر الهندوس المعروف في الوادي شرق المدينة، وتشير آثار المدينة إلى أنها كانت من أكثر مناطق آسيا الجنوبية تحضرا في قديم الزمان.

ومن المواقع والمدن المفقودة التي قد تغري السائح أيضا مدينة أو موقع «سكارا بريه» (Skara Brae) التي تلفظ بـ«سكير بريه» باللهجة الاسكوتلندية على خليج سكيل في القسم الساحلي الغربي لجزيرة مينلاند (Mainland, Orkney) التي تعتبر أكبر جزر مجموعة أوكني الاسكوتلندية في بريطانيا بين بحر النرويج وبحر الشمال، وتحت جزر شاتلاند وعلى رأس خريطة اسكوتلندا القريب من النرويج.

على أية حال فإن هذا المدينة تعتبر أكبر وأهم تجمع سكني مبني من الحجارة يعود إلى العصر الحجري الحديث من الناحيتين المعمارية والحضرية. وضمت عشرة منازل من عام 3180 قبل الميلاد إلى 2500 قبل الميلاد. ولأهميتها وقدمها يطلق عليها البعض اسم بومباي بريطانيا تيمنا ببومباي إيطاليا. لكن على العكس من بومباي فإن هذه المدينة من المدن التي تستحق الزيارة، إذ إنها في قلب مرتفع صغير فوق الخليج محمية داخل المرتفع التي تنتشر فيه الممرات الحجرية الجبلية والحجرات أو الغرف المختلفة في أكثر المناطق الساحلية جمالا في شمال اسكوتلندا.

ونظرا إلى حجم المدينة أو القرية وحجم الغرف التي كانت مجهزة بالمطابخ البدائية فإنه لا يعتقد أنها كانت تضم أكثر من خمسين نسمة. ويعتقد أن الناس في القرية كانوا يلجأون إلى استخدام براز البقر والحيوانات كوقود للطبخ وتسخين الماء كما هو في الكثير من المناطق الأيرلندية والبريطانية في القرن الماضي.

ويعتقد أن القرية كانت تستخدم من قبل نخبة الطبقات الاجتماعية آنذاك والعارفين بأمور السحر والفلك، الذين كانوا يعيشون في مواقع سكنية هامة قريبة مثل «رينغ أوف بوردار». ومن الآثار الهامة التي تم العثور عليها في الموقع، القدور والمحفورات والجواهر والتحف المصنوعة من السمك والحيتان والطيور والحيوانات ومادة العاج. ومن المعدات التي كان أهل القرية يستخدمونها السكاكين والمعدات الزراعية ومعدات الحفر والإبر.