جبيل.. عندما تحتفل بالربيع

مدينة لبنانية تعيد إحياء العصر الروماني

مهرجان الزهور نشاط موسمي في جبيل في فصل الربيع
TT

تحرص مدينة جبيل اللبنانية كل موسم على تنظيم نشاطات تجذب إليها السياحة الداخلية والخارجية. ومع إطلالة فصل الربيع أغرقت أسواقها القديمة بمهرجان زهور وفرح ورسم وموسيقى، مما جعل قضاء يوم فيها أشبه برحلة إلى كتب الحكايات الملونة.

هذا ما تفعله الفنانة التشكيلية باسكال أسود عند أحد مداخل السوق، وكأنها تحضر الزائر للانغماس في جنون الأزهار. فهي تعرض وترسم في الهواء الطلق. موضوعها للمهرجان لا يخرج بالطبع عن المد الربيعي على مد النظر. ألوان الباستيل التي تستخدمها تدخل في طقوس المهرجان، حتى الساعة الرملية في اللوحة هي خزان زهر... تقول لـ«الشرق الأوسط»: «طبيعي أن يكون الزهر هو الطاغي على لوحاتي. الزهرة تشبه الناس ونفسياتهم. أكاد أرى الهادئ الذي يترك لعطره أن يتكلم عنه كالياسمين. وأرى الشامخ كالوردة صعب لمسها من دون وخز الشوك». وتضيف: «نحن نحتفل أيضا بالأم التي تشبه الأرض بعطائها وتشبه الفصول بتعاقب أحوالها».

الأم التي تتكلم عنها أسود هي محور لوحة تحيط بوجهها الفصول الأربعة بمواسمها. وهي لا تبعد بجماليتها عن المدينة التي تحتفل. ففي اللوحات الأخرى يمكن تلمس عمق مدينة جبيل والضوء الطالع من معالمها. وجبيل أو «بيبلوس» التي تبعد شمالا عن العاصمة اللبنانية بيروت 37 كيلومترا تتميز بأجواء فريدة من نوعها كونها بلدة ساحلية حديثة بقلب قديم. لها سمعتها العالمية. يزورها كل عام أكثر من 400 ألف سائح، فتستقبلهم في فنادها ومقاهيها ومطاعمها الشهيرة التي تقدم أشهى المأكولات البحرية. ويحرص زائرها على أن يتمتع برحلة بحرية من خلال المراكب المتنوعة والمنتشرة في مرفأ البلدة القديم، وبإمكانه أيضا أن يعرج بعد زيارته لآثار المدينة على متحف الشمع القريب لإلقاء نظرة على بعض مشاهد الحياة اللبنانية الريفية. بدايات هذه المدينة تعود إلى الألف السادس قبل الميلاد كما تظهر الحفريات الأثرية والمدافن الملكية. وخلال العصر الروماني وتحديدا في أواسط القرن الأول قبل الميلاد ازدانت جبيل بالمعابد والحمامات وسائر البنى المدنية، كما شقت فيها الشوارع ذات الأروقة.

زيارة المدينة مع إطلالة فصل الربيع، لا يمكن أن تتم من دون أن تترك بصمة في الذاكرة؛ فالمشهد يخطف الأنفاس: شتلات وزهور يحسب المرء أنها لم تعد في القاموس النباتي اللبناني؛ زهر المنتور والقرنفل والزنبق والسوسن والخبيزة والحبق والبنفسج بالإضافة إلى الياسمين والغاردينيا والورد الجوري.. وبعض الأسماء التي يصعب حفظها كـ«الكشكشة» و«المستحية» و«شاب السهرة» وغيرها.

تقول رئيسة لجنة مهرجانات جبيل لطيفة اللقيس لـ«الشرق الأوسط»: «مهرجان الزهور هو نشاط موسمي يقام للسنة الرابعة على التوالي، وهو في إطار نشاطات اللجنة ومنها المهرجانات الفنية الصيفية. أما خصوصيته فتتعلق بالارتباط بين حلول الربيع وعيد الأم، ولم نجد أجمل من الزهور للاحتفال بالمناسبة». وتضيف: «نقيم أيضا نشاطات موازية. لدينا مكتب استقبال واستعلام سياحي تابع للمهرجانات. نتولى تعريف الراغبين من اللبنانيين والسياح بالمدينة العريقة، كما ننظم المؤتمرات المتعلقة بالحضارة العمرانية والآثار، كذلك نساعد هواة التصوير الفوتوغرافي على تحسين أدائهم عن طريق إعطائهم مبادئ نظرية وعلمية وتطبيقية في التصوير الفوتوغرافي، والهدف إعطاء هذا الفن مفهوما جديدا يرقى به إلى مستوى عالمي مميز عن طريق تحسين نوعية الصورة والرسالة التي ينبغي على المصور إيصالها إلى المجتمع. والأهم تسليط الضوء على آثار مدينة جبيل وقضائها، خاصة الآثار غير المعروفة والمهملة وغير الموجودة في الدليل السياحي، وذلك عبر التصوير الفوتوغرافي والمنشورات المتنوعة. وأخيرا التركيز على السياحة وإقامة المعارض المختلفة، بالإضافة إلى الندوات والمحاضرات التي تتمحور موضوعاتها الأساسية حول فن التصوير والآثار». وتشير اللقيس إلى أن «مهرجان الربيع الذي يستمر أسبوعا لا يقتصر على دلالاته المعنوية الحضارية والسياحية، إنما يشمل تشجيع مشاتل المنطقة، ليأخذ بعدا اجتماعيا وتنمويا واقتصاديا. ويساهم في تحسين ظروف أصحاب المشاتل وجميع المشاركين. فنحن نحثهم على تحسين إنتاجهم لضمان الإقبال على ما يقدمون. والأهم أننا من خلال تشجيعنا تسويق الإنتاج نقدم لهم المكان مجانا». وتؤكد اللقيس أن هذه الموسم يؤدي إلى إنعاش اقتصادي؛ إذ يصعب الحصول خلال هذه الفترة على مكان في مطاعم جبيل، فالحركة في السوق تضح بالحيوية، وكأن كل لبنان موجود هنا».

النشاطات الرديفة التي تواكب المهرجان تستحق الاهتمام؛ منها مجموعة العمل المحلي التابعة للجنة مهرجانات جبيل، لأنها تعمل على تشجيع الإنتاج الزراعي لتصل إلى الإنتاج الحرفي المهني وإلى تنمية الأماكن السياحية في المنطقة من معابد وكنائس ومراكز الحج الدينية، التي تضم عددا من الشركاء تدربوا على التعاون في ما بينهم مستفيدين من خبرات أجنبية، ومنها الخبرة الإيطالية.

فالمدينة تعيد إحياء العصر الروماني من خلال مشروع «Via Appia» الذي تهتم به الدولة الإيطالية، وذلك بإعادة إحياء «الطريق الروماني» بهدف تنمية المناطق التي يمر عبرها، ففي عهد الإمبراطورية الرومانية كان الحج يبدأ من روما إلى بوليا (جنوب إيطاليا)، وفي لبنان من بيبلوس إلى بلدات نهر إبراهيم، المشنقة، يانوح، أفقا، المنيطرة، العاقورة، دير الأحمر، بعلبك وعنجر، وكانت تعرف هذه الطريق بين جبيل وبعلبك بـ«Via Appia» وتضم معابد ومراكز حج وآثارا رومانية. بدورها، تسعى جمعيات ومؤسسات إلى إحياء هذه الطريق الرومانية اقتصاديا واجتماعيا، مما يخلق حركة في المناطق التي تمر بها، ويمهد للاحتفال بالمناسبات الخاصة بكل بلدة، إضافة إلى تنظيم المعارض فيها، الأمر الذي يجعل النشاط دوريا وتخصص كل بلدة بنشاطات تميزها عن غيرها.

تقول اللقيس: «هذا المشروع يرسم عبر التاريخ طريق الإمبراطورية الرومانية من إيطاليا إلى جبيل ومن جبيل إلى بعلبك. ويقدم شرحا مستفيضا عن كل مركز من المراكز الرومانية في القرى الممتدة من جبيل إلى بعلبك، سواء بالصورة أو النص. وهذه القرى مشمولة بعناية جمعيات تساعدها على القيام بصناعات صغيرة غذائية وحرفية وتفتح لها مجالا لتصريف إنتاجها. وفي السوق القديمة معرض دائم لهذه الصناعات».

أما الصناعات الزراعية والاقتصادية فهي في أغلبها حرفية وزراعية، وتشمل إنتاج الحليب ومشتقاته ودبس الخروب وصناعة قش البلح و«Honey herbs» وهي منتجات تجميلية من النباتات والعسل في جبيل، وصناعة القصدير والمتحجرات والبهارات والأعشاب والكعك التقليدي وحلوى المرصبان.

وترى اللقيس أن «مجموعة العمل الجماعي أثبتت فعاليتها، وأثمرت خطوات كبيرة في تشجيع الإنتاج المحلي، ويتم الترويج لهذا الإنتاج من خلال المواسم التي نقيمها بحيث يصار إلى عرضها، مع العلم بأن المنتجات ستحمل ملصقا موحدا يعرف عنها وتعليبا خاصا. وتنجح هذه المجموعة بفضل جهود مركز الاستقبال والاستعلام السياحي وتعاون بلدية جبيل».

تسعى مجموعة العمل المحلي إلى تقديم رزمة متكاملة إلى السائح من لحظة وصوله إلى منطقة جبيل تجمع بين زيارة الأماكن الأثرية والتمتع بالمناخ الرائع، وتذوق المأكولات الخاصة بكل بلدة والمنتجة بطريقة صحية، والتعرف عن قرب إلى طريقة تحضير المنتجات مراقبا نوعيتها، على أن يشمل هذا النشاط كل لبنان.