جامع الصالح.. تحفة معمارية تختزل فنون العمارة العربية والإسلامية

رمز السمات النادرة للعمارة اليمنية

جامع الصالح.. هندسة معمارية مميزة («الشرق الأوسط»)
TT

في الضاحية الجنوبية للعاصمة اليمنية صنعاء يشمخ في إطلالة بهيّة أكبر صرح إسلامي ومعماري عرفه تاريخ اليمن المعاصر، إنه جامع الصالح، التحفة المعمارية والهندسية الفريدة، وأحد أكبر الصروح الدينية والعلمية المهمة على مستوى العالمين العربي والإسلامي.

هذا الصرح الذي لا تخطئه العين، وأهم المعالم المعمارية في صنعاء اليوم، أمر ببنائه الرئيس اليمني علي عبد الله صالح على نفقته الخاصة، ومر الجامع منذ إشراق فكرته والشروع في تنفيذه وحتى افتتاحه وإقامة أول صلاة في رحابه، بعدة مراحل تكشف عن فصول مهمة في حكاية بناء أكبر معلم إسلامي في تاريخ البلاد، ومنذ دخول الإسلام إليها في السنة السادسة للهجرة.

يشغل جامع الصالح الذي استغرق بناؤه ثمانية أعوام وتكلف أكثر من مائة مليون دولار، مساحة قدرها 224 ألف و821 مترا مربعا ويتسع لنحو 45 ألف مصلٍّ في الداخل والخارج، ويستوعب موقف السيارات الخاص به 1900 سيارة، إلى جانب مساحات واسعة من الحدائق والممرات والأحزمة الخضراء.

وللجامع ست مآذن، أربع منها بطول 100 متر، واثنتان بطول 80 مترا، وتعتبر من أرفع المنارات في منطقة الشرق الأوسط، ويحتوي على 23 قبة مختلفة الأحجام والارتفاعات، موزعة على مختلف الزوايا، وتعد هذه المآذن استخلاصا هندسيا وفنيا راقيا لتاريخ القباب في عمارة المسجد باعتبارها أحد الرموز المهمة في تاريخ فن العمارة والتي شهدت منذ عهد الدولة الأموية وما زالت تطورا مستمرا على المستويين الفني والهندسي.

فيما تبلغ مساحة قاعة الصلاة الرئيسية في الجامع 12883 مترا مربعا وتتسع لنحو 20 ألف مصلٍّ ويكسو أرضيتها الرخامية سجاد باللون الأزرق مصنوع من الصوف النيوزيلندي عالي الجودة، جرى تصنيعه في تركيا بمواصفات خاصة بالجامع.

أما سقف هذا الجامع الذي يتراوح ارتفاعه بين 21 و24 مترا، فيعد لوحة فنية بديعة قوامها خشب السنديان الأحمر المنقوش والمزخرف بالأشكال الهندسية المستوحاة من سقف الجامع الكبير بصنعاء (أقدم المساجد اليمنية)، وتتألف هذه الأسقف الخشبية من عدة طبقات متدرجة إلى أعلى، وتم تجليد الجسور الفاصلة بينها بوحدات طويلة من نفس الخشب، روعي في تصنيعها وتركيبها الدقة العالية واستخدام أحدث المعدات وبإشراف أمهر الحرفيين والصناع.

وتتوسط سقف الجامع نماذج بديعة ونادرة من التيجان والأقواس المجصصة، والثريات المتدلية من السقف والقباب بأحجامها وأشكالها المختلفة صُنعت من الكريستال الخالص والنحاس المطعَّم بالبلاتينيوم للحفاظ على رونقه ولمعانه، بحيث توحي هذه الثريات بأشكالها وتصاميمها بنوع من التوافق والانسجام مع النقوش والزخارف الخشبية ذات الطابع الإسلامي، وتزن أكبر نجفة بالجامع وتتدلى من القبة الكبرى 4.5 طن وتحتوي على 81 فانوسا، حفر على كل منها بفراغ فضائي ساحر اسم من أسماء الله الحسنى، ضمن الحيز الدائري المحيط بكل فانوس.

كما يضم الجامع 15 بابا، خمسة منها شرقية، وخمسة جنوبية، بارتفاع 5.6 متر وعرض 2.4 متر، وهي مصنوعة من خشب التيك على هيئة مصراعين لكل باب، تحوي نقوشا وزخارف خشبية مطعمة بالقطع النحاسية، ويعلو كل باب نقش حجري بخط الثلُث لآيات من القرآن الكريم، فيما يبلغ عدد النوافذ 24 نافذة بنفس ارتفاع الأبواب، عليها زخارف إسلامية (أرابيسك) وغُطيت النوافذ بزجاج واقٍ لضمان أمن وسلامة المصلين.

وجامع الصالح كمنشأة معمارية وحضارية يجمع بين الوظيفي والجمالي بدقة متناهية، فهو من ناحيةٍ مكانٌ متميز لأداء الصلوات والشعائر، ومن ناحية أخرى إنجاز معماري وهندسي وفني فريد، يختزل فنون العمارة العربية والإسلامية، ويعيد صياغتها وفقا لأسس وقيم فنية وجمالية معاصرة، خصوصا إذا علمنا أيضا أن الجامع يضم مرافق أخرى تضفي عليه أبعادا علمية وتعليمية، لا تقل أهمية، أهمها كلية الصالح لعلوم القرآن وتتكون من ثلاث طبقات بمساحة 7.8 ألف متر مربع، ومصلى النساء بمساحة 1288 مترا مربعا، وصالة تشريفات، ومكتبة تزخر بكنوز المعرفة وأمهات الكتب والمخطوطات الأثرية والتاريخية النادرة في مختلف المجالات العلمية والمعرفية.

ويشكل إنجاز جامع الصالح في موقعه المتميز وفضاءاته الرحبة بوسط مدينة صنعاء الحديثة، تحولا جوهريا في طبيعة المكانة التي ظلت مدينة صنعاء القديمة تحتلها على مدى أكثر من 1400 عام، وعقب دخول الإسلام إلى اليمن.

ويشير الباحث اليمني ياسين التميمي إلى أن المسجد ظل يحتل قلب المدينة في تخطيط المدن الإسلامية، تليه السوق ثم الأحياء السكنية، موضحا أن احتلال المسجد لهذا الموقع، نابع من طبيعة وظيفته الدينية ومن كونه محور الحياة العامة.

وها هي صنعاء بعد أربعة عقود من التوسع والامتداد خارج سور المدينة القديمة، تعيد صياغة مركزها وتجد في جامع الصالح كيانا معماريا وهندسيا، يشغل وظيفة المركز وموقع القلب في صنعاء الحديثة ولا بد من الإشارة هنا إلى أن إنجاز هذا الصرح وفقا لأفضل الشروط والمزايا المعمارية، التي تلخص ملامح شخصية العمارة اليمنية والعربية والإسلامية والإنسانية، إلى جانب كونه متنفسا سياحيا، كان خلاصة جهد خلاّق وكبير، كما يوضح السيد علي بن علي مقصع، الذي شارك باعتباره مديرا لمشروع الجامع، وضمن فريق من المتخصصين، في جولة على أهم الجوامع والمساجد في العالم الإسلامي، ووقف على أهم خصائصها ومميزاتها، وقبل أن يطرح مشروع تصميم الجامع لمسابقة اشتركت فيها مكاتب هندسية واستشارية عربية ودولية، وقامت لجنة مختصة بدراسة التصاميم المقدمة للمسابقة، لتأخذ بأفضل ما فيها من خصائص، ثم عهد إلى شركة استشارية بإعداد التصاميم الأولية والمستوعبة لمجمل الأفكار والرؤى الهندسية الواردة في التصاميم، ثم تولت شركات يمنية وعربية متخصصة تنفيذ المشروع بإشراف شركة دار الهندسة اللبنانية.

ويشير مدير الجامع إلى إن الشخصية المعمارية لهذا الصرح تختزل الصفات والسمات النادرة للعمارة اليمنية وتزاوج بين مختلف رموز التاريخ اليمني القديم، كالخط المسند والزخارف للتدليل على حالة التواصل مع الحضارات القديمة بإنجازاتها المعمارية الضخمة.

ويشكل البعد السياحي لجامع الصالح، حضورا خاصا، فهو محطّ أنظار السياح العرب والمسلمين، ومُدرَج على قائمة المعالم السياحية التي يروج لها على نطاق واسع، كما أنه إحدى محطات الوفود العربية والإسلامية الزائرة لليمن، لأداء الصلوات والتمتع بمزاياه الفنية والهندسية المدهشة وتدرس وزارة السياحة اليمنية حاليا إمكانية إيجاد مسارات خاصة داخل الجامع، تتيح للزوار من غير المسلمين فرصة زيارة هذا المعلم المعماري والهندسي الفريد، ولا شك أن نجاح هذا المسعى سيجعل من جامع الصالح أحد أهم المعالم والمرافق السياحية في العاصمة صنعاء.