«الجلف الكبير» بمصر تنادي عشاق رحلات السفاري

جزءا كبيرا من الطبيعة في مصر مهيأ لسياحة الصحراء

تشكيلات صخرية قرب وادي صورة بالصحراء الغربية بمصر
TT

كان ينبغي لهذه الرحلة أن تنطلق في الصباح. لكن سيارات الدفع الرباعي المحملة بالمؤن ظلت تنتظر حتى المساء. وبعد ثلاثة أيام من المبيت في الفندق، قال الدليل السياحي قولا لم يكن أحد يريد أن يسمعه: سنغير برنامج الرحلة. سنعود لمشاهدة الأهرامات بالجيزة والمتحف المصري بالقاهرة (على نحو 300 كلم). لا توجد تصاريح، وإذا مكثنا هنا ننتظر الإذن بدخول الصحراء، فقد ننتظر أسابيع وربما شهورا.

بدأ السائح الألماني أحمر الوجه يرطن بالغضب، وسط تسعة سياح آخرين قادمين من دول أوروبية مختلفة. كان هذا المدعو بولر يعشق سياحة السفاري في عمق الصحراء الغربية الجنوبية في مصر، وهي منطقة تعرف باسم الجلف الكبير. ولبولر ذكريات شتى عن الدروب الوعرة وعن الجبال السوداء والهضاب البيضاء وبريق النجوم ليلا، ورسومات الإنسان الأول على الصخور الساطعة تحت الشمس. قال: لا.. سأعود لألمانيا رأسا. ولن أكتفي باستعادة نقود الرحلة، بل سأطالب بتعويض عن إفساد عطلتي السنوية.

وعبثا حاول الأدلاء السياحيون إفهام هؤلاء الزوار الغربيين بأن الأمر خارج عن إرادتهم، وأن الترتيبات التي بنوا البرنامج السياحي على أساسها قد تغيرت برمتها من جانب الكثير من الأجهزة المسؤولة: إنها محاولات من جانب السلطات لحمايتكم. يقول الدليل السياحي، لافتا إلى حادثة اختطاف نحو 19 من بينهم 11 غربيا (من إيطاليا وألمانيا ورومانيا) و8 مصريين، أواخر عام 2008.

ومنذ تلك الحادثة التي كانت تقف وراءها قلاقل أمنية وسياسية في إقليم دارفور السوداني على الحدود الجنوبية الغربية لمصر، أصبحت خطوات استخراج تصاريح الرحلات السياحية للصحراء العميقة، متعددة، ومن جانب جهات مختلفة، ويستلزم الحصول على كافة التصاريح المطلوبة عدة أشهر، وأحيانا يصل الأمر لأكثر من سنة.

وتزخر صحراء مصر الغربية، وخاصة المنطقة الجنوبية الغربية، القريبة من حدود مصر مع كل من السودان وليبيا، بالكثير من الآثار ومظاهر الحياة التي كانت هناك منذ آلاف السنين. وأشهر ما يوجد هنا المعالم القديمة لدرب الأربعين الذي كان طريقا للتجارة بين مصر بالسودان. وتجد على جانبيه كثبانا رملية وعظام حيوانات القوافل الغابرة (الجمال والخيول) التي نفقت من الحر والعطش والتعب. وتزخر المنطقة أيضا بالواحات التي تعيش على عيون قديمة للمياه العذبة في وسط تلك الفيافي الجرداء، يعود بعضها إلى عهد الفراعنة، كما توجد بعض الكهوف والرسومات على الأحجار التي تعود إلى قبل آلاف السنين.

وللوصول إلى جبل عوينات يمكن أن تسلك طريقا تمر وسط الصحراء البيضاء ذات التكوينات الصخرية المنحوتة بألوانها وأشكالها المتباينة بفعل الرياح، والمياه في الأزمنة القديمة. ومن المشارف الغربية للصحراء البيضاء تبدأ تكوينات هائلة لما يعرف باسم بحر الرمال الأعظم ذي اللونين الأبيض والأحمر.

ويقول بولر إنه حجز، كالمعتاد، لدى شركة سياحية مصرية كانت تسوق لرحلات في صحراء الجنوبية الغربية التي تكثر فيها المناظر الطبيعية الخلابة، وإنه اعتاد أن يقضي إجازته السنوية في الجلف الكبير منذ بداية تسعينيات القرن الماضي.

ويقول الدليل السياحي، وهو من أبناء واحة الفرافرة، الواقعة على بعد نحو 600 كلم جنوب غربي القاهرة، والذي يعرف باسم جمال، إن الإجراءات المتبعة للحصول على تصريح من وزارة السياحة المصرية كانت تقتصر على تقديم ملف، إلى هيئة تنشيط السياحة بالوزارة مرفق به خط سير الرحلة، وكشف بأسماء الزائرين (السياح)، وتعهد من الشركة بالالتزام بخط السير، وكذا تسليم صور من جوازات سفر الزائرين، وخارطة موضح بها خط السير، إضافة إلى سداد الرسوم المالية المقررة، وهي نحو عشرة دولارات عن كل فرد.

ويقول جمال: هذه الإجراءات والرسوم كانت بسيطة، لأننا لم نكن نتعامل إلا مع جهة واحدة، حيث تقوم هيئة تنشيط السياحة، بإخطار الجهات الشُّرطية والأمنية والحدودية المختصة بالرحلة وموعدها. لكن، ومنذ حادثة اختطاف السياح أواخر العام قبل الماضي، تغيرت الأمور، ولم تعد هيئة تنشيط السياحة وحدها المسؤولة عن تسيير الرحلات في الصحراء العميقة، بل لم نعد نعرف من هي الجهة المختصة.. في الوقت الحالي نتعامل مع 9 جهات على الأقل، وكل جهة تطلب رسوما بعينها.. هذا الأمر عطل الكثير من رحلات السفاري، وألغى الكثير من البرامج التي تم الاتفاق عليها سلفا مع سياح من أوروبا. نحن الآن نحقق خسائر كبيرة.

وتمتد هضبة الجلف الكبير التي تبلغ مساحتها نحو خمسين ألف كلم مربع، شرق جبل العوينات، ويوجد إلى الشمال والشرق منها منطقة الواحات الداخلة والواحات الخارجة.. وتزخر مرتفعات المنطقة بعدة فوهات بركانية قديمة. وتكثر الصخور النارية وتكوينات الكوارتز.. وهواة السفاري في بحر الرمال والجلف الكبير، سواء من الأجانب أو العرب، يجدون متعتهم في تسلق الكثبان الرملية التي ابتلعت قبل آلاف السنين جيوش الغزاة خاصة جيش قمبيز وجيش الإسكندر الأكبر، ويزور السياح أيضا الكهوف الجبلية التي يعتقد أنها تعود لعشرات الآلاف من السنين. ويضم أحدها أكثر من ألفي صورة نقشها الإنسان الأول.. وهذه المنطقة مهجورة منذ آلاف السنين. وفي الوقت الحالي منطقة قاحلة، لا يوجد فيها أي مظهر من مظاهر الحياة، ولهذا يتطلب الوصول إلى هناك فوج يتكون من خمس سيارات مجهزة من ذات الدفع الرباعي، والمؤن التي تكفي الفوج السياحي طوال مدة وجوده هناك، وكذا أجهزة تحديد المواقع المرتبطة بالأقمار الصناعية.

وفي العام قبل الماضي تعرض فوج سياحي للاختطاف بمن فيه من مصريين وأجانب، قرب الحدود مع السودان، من داخل الأراضي المصرية، على أيدي مسلحين يعتقد أنهم من متمردي دارفور، مطالبين بالحصول علي فدية قدرها 15 مليون دولار، قبل أن يتمكن الرهائن من تحرير أنفسهم والعودة إلى داخل الأراضي المصرية.

ومنذ حادثة الاختطاف التي استحوذت على اهتمام وسائل الإعلام واستمرت لنحو أربعة أيام، أصبحت شركات السياحة المتخصصة في رحلات السفاري في مصر، تواجه الكثير من المشكلات التي تعرقل هذا النوع المعقد من السياحة.. مثلا أصبح هناك حظر يمنع وضع أي تعديل على الإخطار الخاص بشرطة السياحة، مثل تغيير فندق الإقامة في حال عدم قبول العملاء بالفندق، ورغبتهم في النزول في فندق آخر. ومنع الشركات السياحية من تعديل أماكن الزيارة لأي سبب حتى لو كان ظروفا خاصة بالطقس أو المرض أو المرور.. أي، على سبيل المثال، لا يمكن تعديل زيارة معلم سياحي مقرر سلفا بمعلم آخر.

من المشكلات الأخرى أن أفراد تأمين أفواج رحلات السفاري الذين تخصصهم السلطات المرافقة للرحلات السياحية، غالبا لا يكون لديهم التأهيل اللازم للخروج في رحلات السفاري مع السياح.. ويقول جمال: بعض أفراد التأمين غير معتادين على المبيت في الخلاء أو مجاراة سياح السفاري على المشي في المناطق الصحراوية الرملية والجبلية الوعرة. أو، بشكل عام، معظم أفراد تأمين السياح ليس لديهم التأهيل اللازم للوجود في العراء لمدة 24 ساعة طوال الأسبوعين المخصصين للرحلة.

ويقول جمال إن دولة مثل تونس، التي لا تمتلك من مقومات السياحة سوى أقل من 10% مما هو موجود في مصر، خاصة في سياحة السفاري، أصبح يقصدها في هذا المجال أضعاف من يقصدون الصحارى المصرية، لسبب بسيط، وهو أنها لا تضع عراقيل مثل تلك التي أصبحنا نواجهها هنا.

ومنذ حدوث طفرات متزايدة في سياحة السفاري في مصر منذ بداية الألفية الجديدة، إلى جانب السياحة الاعتيادية للأماكن الأثرية والشاطئية الشهيرة، أصبح يوجد نوعان، هما سياحة السفاري القريبة، للسائحين الأقل دخلا، وتبلغ مدتها نحو ثلاثة أيام، وتصل كلفتها خلال هذه المدة إلى نحو 500 دولار للفرد الواحد، والنوع الثاني هو سياحة السفاري البعيدة، التي يصل السائحون من خلالها إلى مناطق بحر الرمال والجلف الكبير وحتى مشارف حدود السودان، وتصل مدة هذه الرحلة إلى 12 يوما في المتوسط، وكلفتها للفرد الواحد طوال مدة الرحلة نحو 5 آلاف دولار، تقل أو تزيد حسب درجة الرفاهية والمسافة المطلوبة في الرحلة، التي تصل أحيانا إلى أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، من القاهرة للجلف الكبير، ذهابا وإيابا.

ويقول دليل سياحي يدعى موسى إن بعض الجهات المعنية التي أصبح لها حق إصدار تراخيص لرحلات السفاري لا تعرف طبيعة المناطق التي يقصدها السياح، لأنها ليست من اختصاصها بالأساس، وإنما من اختصاص جهات أخرى، ومع ذلك تشترط الانتظار للدراسة قبل الموافقة. وقد يتأخر الترخيص، أو لا توافق من الأساس. هذا تسبب في إلغاء أكثر من 18 رحلة، من بين نحو خمسين رحلة، لتأخر الموافقة عليها. بعض الجهات الأخرى تقوم بتعيين ضابط برتبة ملازم أول، مسلح بمسدس، لمرافقة الرحلة وتأمينها، ومراقبة التزامها بالبرنامج الذي صدر الترخيص بموجبه، إلا أن موسى يقول إن إجراءات وقواعد الموافقة على البرنامج لا تخضع لقوانين وقواعد ثابتة ومعروفة مسبقا لدى العاملين بقطاع التسويق لهذه البرامج.. «على سبيل المثال.. يتم شطب بعض الأماكن من البرنامج لعدم الموافقة على الزيارة في حين أنه من الممكن زيارة الأماكن نفسها دون تصاريح أو بتصاريح يمكن استخراجها من جهات محلية». ويضيف موسى أن دخول الكثير من الجهات للتعامل مع رحلات السفاري جعل بعض العاملين في تلك الجهات، وكذا بعض المرافقين للرحلات من غير المتخصصين أو من غير الواعين لطبيعة هذا النوع من السياحة، ينظرون للمجموعات العاشقة لرحلات السفاري على أنهم «مجموعة ليست سوية أو ينظرون إليهم على أنهم مجموعة من الأجانب المختلين عقليا، لا لشيء إلا لأن هؤلاء السياح يقصدون أماكن صحراوية وجبلية خالية من أي نوع من أنواع الحياة اللهم بعض الشجيرات الجافة.. بعض العاملين والمرافقين الرسميين، ممن ليست لديهم خبرة بسياحة السفاري ينظرون للسياح الأجانب الذين يقصدون الصحراء العميقة باعتبار أن لهم أغراضا متعلقة بالتجسس على مصر أو القيام بالأبحاث غير المشروعة في تلك المناطق. بعض العاملين والمرافقين الرسميين لا يستطيعوا أن يتخيلوا أن الناس تسافر هذه المسافة من أجل الاستمتاع بالصحراء هنا بمصر أو في أي بلد آخر».

ولأهمية المنطقة ثقافيا وجماليا، ولتفرد تضاريسها، اعتبرتها الحكومة المصرية كمحمية طبيعية منذ عام 2007. تعد المنطقة غنية بكل المقومات الطبيعية الخالية من كل أنواع التلوث البيئي ويعتقد أن منطقة السيلكا الزجاجية هناك تكونت منذ نحو 28 مليون سنة بحسب الهيئة العامة للاستعلامات المصرية‏. وأدى الترويج السياحي للمنطقة، بحسب مسؤول في هيئة تنشيط السياحة، إلى زيادة عدد رحلات السفاري للجلف الكبير التي بلغت ذروتها في أعوام 2005 و2006 و2007، حيث تراوح العدد في هذه السنوات حول ثلاثين ألف سائح سفاري في السنة، و..«أخيرا تراجع هذا المؤشر بشكل كبير، بعد أن كان قد قفز إلى خمسين ألف سائح قبيل حادث الاختطاف الشهير الذي وقع العام قبل الماضي». ومع ذلك ما زالت السلطات وشركات السياحة المحلية تروج لسياحة السفاري في الخارج.

ويتطلب هذا النوع من السياحة مجهودا كبيرا في التسويق وكذلك يحتاج لفترة زمنية مسبقة يتم خلالها الإعلان والحجز لهذه الرحلات بفترة سنة قبل تنفيذ الرحلة.. يقول موسى الذي عاد للتو من رحلة تسويقية في النمسا لسياحة السفاري بمصر: «الآن كيف يتم التسويق لرحلات السفاري في الجلف الكبير ونحن غير متأكدين من أنه سوف يتم تنفيذ هذه الرحلات.. في الفترة من 02/02/2010 إلى 28/02/2010 تم إيقاف عدد 18 رحلة كانت متجهة إلى مناطق الجلف الكبير وبحر الرمال الأعظم لعدم استخراج تصاريح لهذه الرحلات، بسبب تضارب الاختصاص بين الجهات المختلفة دون النظر إلى ارتباطات شركات السياحة مع عملائها القادمين من الخارج لقضاء وقت الإجازة في مصر.. كيف تثق شركات السياحة خارج مصر في مصر بصفة عامة وفى شركات مصر بصفة خاصة».

على الرغم مما يقوله عنه أدلاء سياحيون وشركات سياحة سفاري هنا، فإن وزارة السياحة المصرية لم تتوقف عن مواصلة الدعاية لهذا النوع من السياحة، خاصة في البلدان الأوروبية، ويقول مسؤول في هيئة تنشيط السياحة إن «جزءا كبيرا من الطبيعة في مصر مهيأ لسياحة الصحراء.. ومستقبل هذه السياحة واعد»، قائلا إن ما يقال عن عراقيل في سياحة السفاري بعد حادث اختطاف السياح، العام قبل الماضي، لا يهدف إلا إلى تأمين السياح، وعدم تكرار تجربة الاختطاف مرة أخرى.. وأن إجراءات التأمين تتطلب الكثير من الإجراءات التي ربما تؤثر على تدفق سياحة السفاري، وهو ما تحاول الهيئة مع السلطات، التغلب عليه، بحيث يتحقق الهدفان، جلب مزيد من السياح، مع تأمين تحركاتهم في مناطق الصحراء العميقة.

وقد يتمكن المسؤولون وشركات السياحة من التوصل إلى وضع قوانين واضحة وصريحة يتم تعميمها على الجميع بالأماكن والإجراءات الواجب اتخاذها، بحيث لا يتم تغييرها إلا بسابق إنذار وبمدة كافيه لمراجعة شركات السياحة المحلية والأجنبية المرتبطة معها ببرامج سياحية. ويرى البعض هنا أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بعد مناقشة مستقبل سياحة السفاري في البلاد من مختلف جوانبها، بداية من المناطق التي سيتم السماح بزيارتها أو تكاليف التصاريح المطلوبة، وكيفية أداء وتأمين الرحلات بحيث يتم التسويق لرحلات السفاري بالخارج «بطريقة صحيحة ومحترمة».

هنا، في الفرافرة، وبعد ثلاثة أيام من المبيت في الفندق قال الدليل السياحي قولا لم يكن أحد يريد أن يسمعه: تم تغيير برنامج الرحلة، لأن تصاريح العبور إلى الجلف الكبير لم تصل بعد، وقد لا تصل.