تريض وذُق طعم الفطير «المشلتت».. أنت في القناطر الخيرية

تبدأ طقوسها بمركب يشق عباب النيل وسط خضرة الريف المصري

جمال الطبيعة في القناطر متعة سياحية لها إيقاعها الخاص («الشرق الأوسط«)
TT

حتى وقت قريب كانت الرحلة الترفيهية لدى المصريين تعني الذهاب إلى مكانين، الأول إلى «القناطر الخيرية» إذا كان مدار الرحلة لا يتعدى اليوم الواحد، والمكان الثاني هو الإسكندرية إذا كان مدار الرحلة يمتد لأكثر من يوم. ويحفظ غالبية الأطفال المصريين أغنية شهيرة تقول «يا سواق يا شاطر.. ودينا القناطر»، يرددونها خاصة أثناء رحلاتهم المدرسية سواء كانت الرحلة بالفعل تقصد حدائق «القناطر الخيرية» أو أي جهة أخرى، فهي الوجهة المحببة للصغير قبل الكبير، لارتباطها في عقولهم ووجدانهم بالمساحات الخضراء والحدائق المفتوحة والمتنزهات.

تقع «القناطر الخيرية» بمحافظة القليوبية (22 كم من القاهرة العاصمة) وهي المنطقة التي يتفرع فيها النيل لفرعيه رشيد ودمياط، وتستمد اسمها من «قناطر محمد علي» التي تقوم بحجز المياه أمامها فتتحكم في تدفق المياه للـ3 رياحات الرئيسية في دلتا النيل (المنوفي، والتوفيقي، والبحيري)، وبالتالي توزيع المياه إلى أهم فرعين من النيل في مصر، وهما فرعا دمياط ورشيد.

تتميز القناطر الخيرية بطرازها المعماري الجميل حيث تشتهر بالعيون أو البوابات، وهي 71 بوابة على فرع دمياط، و61 بوابة على فرع رشيد، خصصت لسريان المياه منها حيث يصل عرض كل منها إلى نحو 5 أمتار، وقد وضع محمد علي باشا والي مصر حجر ‏ ‏أساسها في أبريل (نيسان) من عام 1843 ميلادية، وافتتحت عام 1868، وتصل مساحتها إلى 500 فدان على النيل مباشرة، وقد سميت بالقناطر الخيرية منذ عام 1914 ميلادي، وكلمة القناطر معناها «الكباري» أما كلمة الخيرية فتعود إلى الخير الذي جلبته لقرى وأراضي الدلتا في جمهورية مصر، التي تعد من أخصب الأراضي الزراعية على مستوى العالم.

وبخلاف أهميتها المعمارية، تعد القناطر الخيرية مزارا سياحيا وترفيهيا سواء للمصريين، خاصة الشباب وطلبة المدارس والجامعات، أو السائحين العرب والأجانب، وما تتميز به القناطر أنها مفتوحة طوال أيام العام، ويزيد الإقبال عليها أيام العطلات الرسمية والأعياد فيما يعرف برحلات اليوم الواحد، لكن موسم زيارتها الأكبر فيكون خلال موسم الربيع، وتحديدا يوم «شم النسيم»، حيث تتزين القناطر في هذا اليوم وتشهد المنطقة زحاما شديدا منذ الصباح الباكر لهذا اليوم يستمر حتى وقت غروب الشمس، وتستقبل القناطر في ذلك اليوم نحو مليوني زائر!.

ولهذه الأسباب تستحق القناطر الخيرية أن تكون نموذجا للسياحة الداخلية وكذلك الريفية ذلك النوع المزدهر جدا في بلدان أوروبا خاصة إنجلترا وإسبانيا، وما يعضد ذلك أن الرحلة إلى القناطر الخيرية تكون عبر البواخر النيلية أو الأتوبيسات النهرية التي تشق طريقها في نهر النيل لأكثر من 120 دقيقة، كما يمكن الوصول لها برا عبر وسائل المواصلات المختلفة العامة والخاصة في زمن أقل بكثير، لكن ذلك لا يضاهي جمال ومتعة الرحلة النيلية.

تبدأ الرحلة النيلية من كورنيش النيل بالقاهرة في تلك المنطقة المشهورة باسم «ماسبيرو» نسبة إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري، وهناك يمكن ركوب البواخر الكبيرة التي تتسع لعشرات الأفراد أو استئجار مركب خاص، ومع بدء الرحلة يستمتع الفرد بالمشاهد الطبيعية التي تطل على النيل مباشرة، والمرور المتعدد أسفل الكباري التي تصل بين ضفتي نهر النيل، وبطول الطريق يمكن ملاحظة الكثير من الفيلات المتجاورة لبعض المشاهير في المجتمع المصري من الفنانين والإعلاميين الذي فضلوا أن يكون استمتاعهم بالنيل من هذا المكان، وخلال الرحلة يمتزج صوت المياه المترجرجة تحت أقدام المراكب، وهي تشق طريقها في النيل مع أصوات الضحكات والموسيقى والغناء، لتزيد من متعة الرحلة وتبعث في داخل الفرد تشويقا لما ينتظره عندما ترسو البواخر في القناطر الخيرية.

مع وصول الباخرة أو القارب إلى مرساه في القناطر؛ لن يحتاج الزائر إلى مرشد سياحي ليدله أو يرتب له برنامجا للزيارة، فأمام الزائر أكثر من وسيلة للترفيه، يمكن الاستمتاع بها على مدار ساعات اليوم، أولها الاستمتاع بالجلوس وسط الحدائق الشاسعة التي تفتح أبوابها مقابل قروش قليلة، وهذه الحدائق تعد فرصة للانطلاق واللعب خاصة للأطفال الذين بإمكانهم أيضا استخدام الأرجوحة والألعاب الترفيهية.

إذا أردت أن تكتشف مناظر بديعية أكثر للنيل يمكنك القيام بنزهة نيلية خاصة على ظهر أحد القوارب، التي تتجول براكبها بجوار العيون أو الجزر الصغيرة التابعة إداريا لمدينة القناطر، والاقتراب من فرعي النيل، دمياط ورشيد، عند نقطة الملتقى، فهذه الرحلة تعد فرصة لمشاهدة المناظر الطبيعية وحدائق القناطر المتجاورة في منظر بانورامي بديع.

يمكن لزائر القناطر الخيرية أيضا الاستمتاع بممارسة رياضة ركوب الخيل أو ركوب الدراجات الهوائية أو البخارية، كما يمكن استئجار عربات «الحنطور» التي تجرها الخيول والتجول بها بين الحدائق أو على الجسور المقامة أعلى مياه النيل.

إذا أراد الزائر أخذ قسط من الراحة فيمكنه الإقامة في الغرف أو الشاليهات السياحية التي تطل على النيل مباشرة وتملكها قرى سياحية تضم مطاعم وكافيهات وملاهي وملاعب رياضية ومسارح مفتوحة أيضا، لتكون بمثابة منتجع سياحي ولكن في شكل بسيط لخدمة الزائرين.

أما الطعام في القناطر الخيرية فهو مختلف، ويأتي على رأسه الفطير «المشلتت» الذي يتم خبزه في أفران تقليدية، والذي يتم تناوله مع العسل الأبيض الذي تنتجه مزارع النحل المنتشرة في القناطر، وكذلك تنتشر مطاعم «الكشري» الذي يجد إقبالا كبيرا من جانب الزوار لرخص ثمنه، بينما يصطحب الكثير من الزائرين طعامهم الخاص معهم خاصة في أعياد الربيع حيث يكثر تناول أسماك الرنجة والسردين والفسيخ بجانب البصل، وتفضل الكثير من العائلات الزائرة تجهيز الطعام داخل الحدائق باستخدام مواقد غاز صغيرة رغم ما يمثله ذلك من خطورة.

وحتى تكتمل الزيارة يمكن للزائر تفقّد أهم المعالم التاريخية والسياحية في القناطر الخيرية، وأولها «متحف الري» الذي يشمل وسائل الري المختلفة منذ عهد الفراعنة حتى الآن، وبه مجسمات للسد العالي وجميع الكباري والقناطر المقامة على طول النيل، وحديثا تم إدخال مشروع حديث بالصوت والضوء يحكي تاريخ الري في مصر منذ عهد الفراعنة.

وهناك قصر الخديوي الذي بناه الوالي (محمد علي) مؤسس القناطر، والذي كان الملك فاروق ملك مصر السابق يتخذه كاستراحة له، وكذلك توجد أيضا استراحة شهيرة للرئيس المصري السابق محمد أنور السادات حيث كان يقيم فيها أكثر وقته واستقبل فيها معظم ضيوفه من رؤساء دول العالم والملوك والأمراء.

للقناطر الخيرية أهمية كبيرة من الناحية الزراعية، فهي تضم الكثير من المشاتل والمزارع والنباتات والزهور النادرة، وتحتفل الحكومة المصرية بموسم الربيع بتنظيم معرض سنوي للزهور خلال شهر مارس (آذار) من كل عام، حيث يحتوي المعرض على نباتات الزينة الداخلية والخارجية والزهور ذات التربية الخاصة التي تتم زراعتها على مدار العام وتزهر في فصل الربيع، كما تضم القناطر أيضا معهد بحوث الهيدروليكا والطمي الذي يختص بالبحوث والدراسات المتعلقة بالري والصرف، وبها محطات بحوث البساتين والدواجن والأسماك والنباتات العطرية ومركز تدريب البساتين ومركز تنمية الإدارة للنهوض بمشاريع التنمية الزراعية.

كما تضم القناطر محلج الأقطان، وهو مبنى ذو سمت أثري مهم ويتميز بموقع فريد على النيل، وقد أنشئ في عهد محمد علي باشا عام 1847 بعد أن أنشأ القناطر بهدف النهوض بصناعة القطن المصري والاهتمام بزراعته، خاصة أن القطن المصري يمتاز بالجودة والمتانة على مستوى العالم، والمحلج حاليا يخضع لعملية تطوير لتحويله إلى مركز عالمي للحفاظ على التراث المصري‏.‏ على مدار عقود متعاقبة نجحت القناطر الخيرية على مستوى السياحة الداخلية في مصر التي عمادها المواطن البسيط ومحدود الدخل من خلال توفير الخدمات الترفيهية أمامه التي تقدم بأقل تكلفة، إلا أن القناطر الخيرية تقف الآن على أجندة خطط الدولة المصرية لاستغلال إمكاناتها السياحية وتحويلها إلى منطقة جذب سياحي عالمي، فهناك مشاريع حالية للنهوض بها وإعادة اكتساب مكانتها القديمة من خلال الحفاظ على طابعها المعماري والحضاري والجمالي، من خلال إنشاء مراكز تجارية وتطوير منطقة الشاليهات ثم طرحها للاستثمار، ‏ إلى جانب مشاريع عملاقة لتنظيم عملية الري في الدلتا، وهو ما سوف يجعل من القناطر الخيرية منطقة ذات تميز على خريطة السياحة الريفية وسياحة اليوم الواحد، نظرا لما يتوافر بها من إمكانات تجمع بين إمكانية توظيفها لسياحة البسطاء وسياحة الأغنياء.