الرصافة ملهمة الشعراء

مدينة مجبولة بعبق التاريخ لم يبق منها سوى الذكريات والأطلال

سور الرصافة وبواباته الرائعة («الشرق الأوسط»)
TT

في صباح يوم من أيام أواسط شهر مارس (آزار)... الطقس حار في دمشق على غير عادته في مثل هذه الأيام التي تستقبل فيها جميع المدن السورية فصل الربيع بنسائمه اللطيفة وحرارته المعتدلة، التي تنسينا برودة فصل الشتاء القاسية, قلت لمرافقي ونحن نهم بركوب السيارة التي ستقلنا نحو المنطقة الشرقية من سورية، وهو ابن إحدى هذه المناطق المجاورة للبادية: كم علينا أن نتحمل الطقس الحار هناك في البادية؛ حيث سنقضي يوما كاملا فيها؟ فضحك معلقا بكلام العارف والخبير: لا تخف يا صديقي، فهناك سيكون للربيع كلمة أخرى، وللطقس جمال من نوع آخر؛ حيث الهواء العليل والبساط الأخضر الذي يجعل من الجو لطيفا في الربيع، خاصة أنك ذاهب إلى (الرصافة) معشوقة الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك التي عاش فيها أجمل سنوات عمره، وجعلها مصيفه ومربعه الدائم, وقبله كانت مركز الإمبراطور البيزنطي جوستنيان، التي خلف فيها أجمل القصور والعمارات والبوابات، وحتى خزانات المياه التي ما زالت قائمة منذ أكثر من ألف وخمسمائة عام شاهدة على عظمة هذه المدينة التاريخية. وحيث تتردد بين أوابدها قصائد الشعراء الخالدين، فهي ملهمتهم، من «الفرزدق» الذي ينصح الناس بزيارتها ليستريحوا من عناء الحياة من خلال قصيدته الشهيرة، التي يقول فيها: إلام تلتفين وأنت تحتي وخير الناس كلهم أمامي متى تردي الرصافة تستريحي من الأنساع والجلم الدوامي إلى «أبو النواس» وهو يصف ديرها الرائع داعيا الناس للاستمتاع بجماله، قائلا:

ليس كالدير بالرصافة دير فيه ما تشتهي النفوس وتهوى إنها الرصافة حيث الحلم والجمال والتاريخ والطقس الرائع. وانطلقنا إلى الرصافة مدينة الحلم والجمال والتاريخ وعبق الماضي، وفي أوائل فصل الربيع الذي، كما وصفه الشاعر وكأنه كان يعيشه في الرصافة، عندما قال:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما؟! الطريق الذي اخترناه، وحسب نصيحة صاحبي، كان مختصرا وجميلا؛ حيث يربط العاصمة دمشق بمحافظة الرقة شرق البلاد، وحيث تقع الرصافة على هذا الطريق الذي أنشأته الحكومة السورية قبل خمس سنوات، ويختصر المسافة ما بين دمشق والمنطقة الشرقية وضفاف نهر الفرات من خلال العبور في مدينتي حمص والسلمية وسط البلاد، وقبل الوصول للرقة بنحو 50 كلم كانت الرصافة «الحلم» تلوِّح لنا أن نتوقف لتحتضننا كأم حنون بين عشرات الأوابد الرائعة، وبكل ما تملكه من شموخ وتاريخ عريق وأوابد تحكي هذا التاريخ للزائر والسائح، التي منها ما هو مكتمل في بنائه وعمارته حتى يخيل للزائر أنه يعيش في تلك الأيام الغابرة من مجد هذه المدينة قبل ألف وخمسمائة عام زمن جوستنيان الأول وبعده بمائتي سنة زمن هشام بن عبد الملك الذي لقبت به «رصافة هشام».

والطريق من دمشق حتى الرصافة يستغرق بالسيارة نحو خمس ساعات، ولن يشعر السائح بالملل حتى بعد أن يدخل في مناطق البادية من أسريه إلى الرصافة؛ حيث المسافة تستغرق نحو ساعة من الزمن فبعد أن يترك المعمورة خلفه ومدن وقرى سورية الوسطى، فإن منظر الطريق وهو يخترق البادية على اليمين واليسار، وفي أشهر الربيع حيث نباتات وشجيرات الرغل والشيح والقيصوم واليتنه، وغيرها من النباتات الرعوية تنمو بلونها الأخضر، وسيشاهد من نوافذ سيارته عددا من الرعاة يجوبون مع أغنامهم هذه السهوب الخضراء، كما أن هذا الطريق يتيح للسائح فرصة قد لا يشاهدها إلا في بادية تدمر، وهي منظر قطعان الجمال (الإبل) تتجول مع أصحابها أيضا على يمين الطريق ويساره، لتضيف متعة أكبر للمسافر وهو ينظر إليها من زجاج حافلات النقل العام التي تقله، وهي عادة متوفرة بشكل دائم على مدار اليوم من مرآب حرستا قرب دمشق التي توصله لمدينة الرقة، ويمكنه الطلب من السائق التوقف في الرصافة قبل انتهاء الرحلة, وهناك أيضا الطريق الآخر الذي يوصل السائح للرصافة ولو أنه أطول من الأول، ولكنه طريق جميل أيضا حيث ينطلق الزائر من دمشق في اتجاه مدينة حلب مستخدما الطريق الدولي، ومن ثم يتجه إلى الرقة عبر طريق جميل يجاوره نهر الفرات ومزارعه الخضراء في مسكنة وغيرها، وبأشجار حورها وصنوبرها الرائع، وبعد الوصول للرقة يأخذ الطريق المتجه نحو سد الفرات ومدينة الثورة، ومن ثم سينعطف باتجاه الرصافة حيث يستغرق هذا الطريق الجميل معه للوصول إلى الرصافة نحو سبع ساعات, ورغم طوله نسبيا فإنه طريق رائع؛ حيث يتيح للسائح فرصة زيارة مواقع أخرى في الرقة وقلعة جعبر وحوايج الفرات وغيرها. وهنا نصحني مرافقي أن تكون عودتنا من هذا الطريق، وهذا ما فعلناه في اليوم التالي بعد أن قضينا نهارا كاملا في الرصافة، وعدنا لننام في مدينة الرقة ومن ثم لننطلق نحو مدينة حلب عاصمة الشمال السوري، ومنها إلى دمشق؛ بحيث في حال قرر السائح استخدام الطريقين في الذهاب والعودة فإنه سيحقق متعة رائعة ومزدوجة من خلال الاستمتاع برؤية البادية السورية في طريق الذهاب ورؤية نهر الفرات في طريق العودة، وإكمال زياراته إلى مدن أخرى انطلاقا من حلب إن رغب في التوجه للساحل السوري أو لمناطق المدن المنسية وإيبلا القريبة من حلب.

التجول في قصور ومعابد الرصافة: في الرصافة «الحلم» التي تقع مع سورها الضخم ومنشآتها الخالدة على مساحة تقدر بـ22 هكتارا تختصر فيها كل ما يمكن أن يقرأه السائح من تاريخ هذه المدينة عبر آلاف السنين؛ حيث ورد ذكرها في النصوص الآشورية في القرن الثامن والتاسع قبل الميلاد، وكانت مركز حاكم آشوري، وجاء ذكرها في التوراة بصيغة «راصف» في سفر الملوك، وكانت في عام 431م مركز أسقفية، ودعيت في القرن الخامس الميلادي باسم سرجيوبولس أي مدينة سرجيس تخليدا لاسم القديس سرجيس، الضابط الروماني الكبير الذي تنصر واستشهد من أجل نصرانيته بالقرب من الرصافة, حيث تحول قبره إلى مزار، ونتجول بين أوابد الرصافة متنقلين بين القصور وما تبقى منها ومن الكنائس التي بناها جوستنيان الأول في ما بين 527 و565م، ونسير بجانب أسوارها المستطيلة الشكل؛ حيث تستغرق رحلة الأسوار بأطرافها الأربعة أكثر من ساعة من الزمن بسبب طولها الكبير الذي يتجاوز الكيلومترين، ونتوقف عند بوابتيها المتبقيتين الشمالية والجنوبية لنستمتع بزخارفها الفاخرة؛ حيث حرص جوستنيان أن تكون نموذجا للعمارة الراقية من خلال الأعمدة التيجان المزينة بالنقوش النباتية والحيوانات، ولا ننسى البوابة الشرقية، فهي جميلة رغم صغرها، ولكنها ذات ثراء زخرفي رائع، كما نتجول في أطلال كنيسة القديس سركيس؛ حيث حفظ فيها رفات القديسين سركيس وباخوس والقديسة جوليا، وهناك مبنى الماريتريوم، ونلج صهاريج المياه العملاقة (الخزانات) الأثرية التي تعد الأكبر من نوعها في مدن العالم القديم، ونشاهد بقايا الكنيسة التي نقش على واجهتها كتابة باليونانية تذكر الملك العربي الغساني الذي شيدها، ونتجه خارج الأسوار البيزنطية للمدينة لنستمع من الدليل السياحي والأثري عما اكتشفته قبل سنوات البعثة الألمانية للتنقيب من بقايا قصر أموي يعود لهشام بن عبد الملك، الذي أحب الرصافة وأحبته حتى إن الخلافة جاءته وهو في الرصافة، وتوفي وهو فيها، ودفن في الرصافة وبنى فيها قصرين بقيت أطلالهما شاهدة على عشقه لها، كذلك شق قناتين مائيتين من الفرات إليها بطول ستة كيلومترات وهما «المري والهني»، وصفهما الشاعر جرير بقصيدة يمدح فيها جمال الرصافة والقناتين، عندما قال:

شققت من الفرات مباركات جواري قد بلغن كما تريد بها الزيتون من غلل ومالت عناقيد الكروم فهن سود كما جعل ميادينها مكانا لسباقات الفروسية حيث كان يتسابق فيها آلاف الجياد العربية الأصيلة, ولجلسات الشعر والأدب ومكانا للتسلية ومسرحا للترف والعز.

أين ينام ويأكل الزائر للرصافة؟: لقرب الرصافة من مدينة الرقة، ولكونها مدينة تاريخية وأثرية بامتياز؛ حيث يمكن للسائح أن يمضي نهارا كاملا فيها، وأن يتناول طعام الغداء بجانب أوابدها وداخل سورها أو خارجه، حيث مناظر البساط العشبي الأخضر في فصل الربيع، والجلوس عليه مستظلا بسور المدينة وجدران قصورها ومعابدها، وفي المساء يمكنه أن يذهب إلى مدينة الرقة حيث تستغرق المسافة نحو ثلاثة أرباع الساعة، ويمكنه أن ينام في أحد فنادقها، وهي الكرنك السياحي ذو الثلاث نجوم، وفندق السياحة ذو النجمة الواحدة، أو يمكنه النوم في منشأة عمار، وهي تعمل بنظام الدور المفروشة، كما يمكنه تناول الطعام في أحد مطاعم الرقة، ومنها:الرشيد والكرنك ودرة الفرات، وجميعها بثلاث نجوم، والأمير والرابية والشرق والمسبح البلدي وباسل وسمير وغسان ونقابة المعلمين، وجميعها بنجمتين، والغوطة والفردوس بنجمة واحدة.