«غرب سهيل».. خزانة التراث النوبي الحي في جنوب أسوان

أسست لسياحة البيت النوبي.. واشتهرت بـ«عيش الشمس» ومشغولات الخرز

موسيقى نوبية واجواء من المرح في غرب سهيل («الشرق الأوسط»)
TT

المركب الشراعي الذي تحرك في السادسة صباحا كاد يصل إلى «بربر»، وهو سفح رملي غرب نهر النيل بأقصى جنوب الوادي بمصر، يفصله عن أسوان 15 كيلومترا، وهناك تبدأ رحلة يتداخل فيها التاريخ مع الأساطير وسنوات الفرح مع أيام الشقاء، حيث تقع قرية غرب سهيل.

بدأت حكاية هذه القرية قبل مائة عام، لكن رواية هذه الحكاية لم تبدأ إلا قبل سنوات قليلة حينما انتهى شباب القرية من العمل في مشروع بناء متحف النوبة، وقد راودهم سؤال: ما الداعي أن يشاهد السائح بلاد النوبة، ثقافتها وملامحها، وأجواءها، داخل البيئة الباردة للمتحف، حيث الإضاءة خافتة في أرجائه، ومركزة على قطعة هنا وأخرى هناك.. إبريق، أو جلباب نوبي، أو جرة.. إضاءة كفيلة بأن تصنع جدارا وهميا بين السائح وثقافة يسعى لرؤيتها، فتفصله عنها بقدر اقترابه منها.. لماذا والنوبة على بعد خطوات لا تزال حية؟.

من هذه التساؤلات ولدت سياحة البيت النوبي بقرية غرب سهيل، وهو ما وضعها على خريطة السياحة العالمية لتصبح مزارا سياحيا مهما، ليس في الشتاء فقط، بل في أشهر الصيف، بعدما تمكنت مظاهر الحياة اليومية من اجتذاب السائحين الذين يأتون عبر النيل إلي القرية ويقضون وقتا ممتعا على الطريقة النوبية تحت قباب بيوت ما زالت تحافظ على أصالة ناسها وتراثها.

وأهم ما يميز القرية أن كل بيوتها (البالغ عددها 30 بيتا) تعد مصانع صغيرة أو ورشا لتصنيع وتسويق الحرف البيئية والشعبية، بجانب أماكن لضيافة السائحين، وهو المنطلق الذي جعل القرية صديقة للسائح، يجد فيها راحته النفسية بتعايشه مع أهل القرية.

بنبرة حماسية قال نصر الدين عبد الستار، أحد أقدم أهالي القرية الذين ابتكروا سياحة (البيت النوبي المفتوح)، إن السياح يحرصون على زيارة القرية في الشتاء والصيف رغم درجة الحرارة الشديدة، وإن القرية يأتيها يوميا ما لا يقل عن 300 سائح خلال أشهر الصيف، وبمعدل 6 آلاف سائح في الشهر، وغالبا ما يأتي السائح الذي يبدأ يومه في السادسة صباحا وينتهي في الثامنة مساء عن طريق نهر النيل في مراكب شراعية. عند سفح رملي يسمى «بربر» يجد في انتظاره قافلة جمال تتولى نقله إلى داخل القرية ليقضي يوما في البيوت النوبية. وهناك يمكن للسائحين شراء المنتجات اليدوية، والاستمتاع بتجربة حية.

ويضيف نصر الدين أن كل ما يتعلق بتراث النوبة القديمة يجده السائح في غرب سهيل، خاصة التماسيح التي تتم تربيتها في البيوت، ويقدم لها الأجانب الطعام بعد أن يتم ترويض شراستها، ومعظمها من الحجم الصغير والمتوسط، بالإضافة إلي الطعام النوبي خاصة الخبز النوبي (عيش الشمس) الذي يترك على سطح البيت ليختمر تحت أشعة الشمس، ويقدم مع الجبن والعسل الأسود للأجانب، ومرورا بمشغولات الخوص المميزة ومشغولات الخرز والطواقي والملابس النوبية التقليدية مثل «الجرجار»، وهو عبارة عن جلابية خفيفة سوداء من قماش مخرم به كسرات كثيرة، ويتم ارتداؤها فوق جلابية ملونة، بالإضافة للنقش بالحناء الأمر الذي تتولاه نساء القرية.

يكمل مراد محمود يوسف (رئيس جمعية القرية الاجتماعية) تفاصيل اليوم بقوله «عندما يمر الأجانب بشوارع القرية يشعرون بأن الزمن قد عاد بهم إلى أيام النوبة القديمة التي قرأوا عنها في الأدب النوبي، فيجدون نفس الشمس وشاطئ النيل والوجوه السمراء، ونفس البيوت الموجودة على المدرجات الجبلية بفنائها الداخلي وزخارفها الخارجية، ونفس مشهد المرأة النوبية التي لا تكف دائما عن تنظيف بيتها وما حوله، ونفس المصاطب الموجودة أمام جميع البيوت التي تملأ بالرمال وتحرص النساء على تنظيفها وغربلتها بحيث تبدو الرمال طازجة على الدوام».

وعن شكل البيت النوبي قال تامر عبد النبي (صاحب أحد البيوت) إن البيت النوبي يعتمد معماره على الأقبية والأحواش السماوية المفتوحة، ويبنى بالطوب (الآجر)، وهو متنفس الناس في الصيف لذلك فهو بيت صحي تسطع داخله الشمس ويدخله الهواء، وهو ما يلائم الأجانب خاصة في الصيف. وأضاف أن أهم ما في القرية هو الحفاظ على التراث النوبي والعادات النوبية التي كانت موجودة في القرى القديمة (الواقعة على بحيرة ناصر) قبل التهجير، والتي يتم الحرص على توريثها جيلا وراء جيل خوفا من اندثارها، خاصة الألوان التي تكسو كل حياة أهالي القرية وفي زي الرجال وحنة النساء ولون الرمال والبيوت.

وعن الاسم التاريخي للقرية قديما قال الدكتور أسامة عبد الوارث، مدير متحف النوبة بأسوان، إن تسمية القرية بهذا الاسم جاء نتيجة وقوعها غرب جزيرة سهيل، تلك الجزيرة المقدسة التي عبد فيها الإله خنوم، الذي كان يعتقد أنه الخالق وأن الجزيرة هي منبع النيل. وأضاف أن المؤرخون ذكروا عن هذه الجزيرة أنه في عهد الملك زوسر (الفرعون الثاني في الأسرة الفرعونية الثالثة بداية الدولة القديمة، الذي حكم مصر 29 عاما) حدثت مجاعة لمدة سبع سنوات، ونصحه أحد كهنته بأن يقدم القرابين لخنوم (معبود الشلال)، ولما قدم القرابين فاض النهر، واعتبرها المصريون القدماء بيت الإلهة ساتت، إلهة الفنتين (زوجة الإلهة خنوم)، وكانت لها أهمية عظمى وأصبحت مقدسة، وكان كل الملوك يتقربون للإلهة ساتت وينقشون على أحجار الجزيرة حتى وصلت النقوش إلى 297 نقشا، وأصبح اسمها جزيرة الجبال المنقوشة لكل العصور، وكل حاكم كان يرسل نائبه إلى الجزيرة لاعتماد أوراقه وينقشها على الصخور حيث إن هذه النقوش تظهر أعمال النائب والسيرة الذاتية التي أوصلته إلى هذه المكانة.

وعن بداية فكرة البيوت النوبية قال اللواء مصطفى السيد، محافظ أسوان، لـ«الشرق الأوسط»، إن القرية نشأت منذ نحو مائة عام عند بناء خزان أسوان القديم عام 1902 وتعليته الأولى عام 1912 عندما نزح كثير من المقيمين بالجزر الواقعة جنوب الخزان إلى هذه المنطقة، وفكرة تحويل القرية لمصنع وبيت نوبي جاءت بعد افتتاح متحف النوبة وبعد قيام بعض شباب القرية بالعمل في المتحف الذي يحكي الحياة النوبية بكل معطياتها، فجاءت الفكرة وقتها للشباب بنقل ما شاهدوه في المتحف إلى أرض الواقع خاصة أن قرية غرب سهيل لم يطلها التهجير، ومعظم أهلها من النوبيين وهم الأقدر على حكي تراثهم وعاداتهم على الطبيعة. وأضاف السيد «بدأ الأهالي يعيدون بناء بيوتهم من جديد، وقد تم وضع خطة بدأت بـ16 بيتا لجعلها مراكز لإنتاج وتسويق الحرف البيئية والشعبية، بجانب أماكن لضيافة السائحين، واستكمالا لهذه الخطة فقد وصل عدد المنازل إلى 30 منزلا على النسق نفسه، بالإضافة إلى إنشاء مرسى سياحي على النيل بطول 60 مترا لاستيعاب الحركة السياحية الوافدة إلى القرية صيفا وشتاء».