سبعة أيام في المالديف قبل أن تغرق

جزر فقيرة تجذب الأغنياء

TT

«ما الذي يمكننا تحقيقه؟ فقط نتمنى ألا نموت!!» محمد ناشيد – الرئيس المالديفي في كلمة له ضمن اجتماع لحكومة المالديف تم عقده تحت الماء من أجل حث العالم على إصدار قرارات تحمي المناخ على الكوكب هل فكر أحد ما أنه من الممكن أن يقوم بزيارة مكان ويقيم فيه عدة أيام وبعدها بعدة سنوات لن يكون لهذا المكان وجود على سطح الأرض؟! هذه الفكرة، كانت لتكون مستحيلة قبل أزمة الاحتباس الحراري التي تزنر عقل الأرض وتعد ضربا من ضروب الخيال، ففكرة كهذه ما كانت لتعشش سوى في عقول العلماء الذين يؤرقهم مصير الكوكب، هؤلاء الذين يقدّرون في مختبراتهم وأبحاثهم الميدانية المآل الذي سيصيب كوكبهم بعد حمية الاستهلاك البشري لموارد الكوكب – والكواكب الأخرى – التي تستمر منذ قرن على الأقل. هي فكرة تصلح لفيلم من أفلام الخيال العلمي أو لحلم مجنون يحمله شخص مهووس بالغرائب. لكنها، حقيقة، لم تعد تنتمي إلى كل هذا، إذ قبل الزيارة التي قمت بها إلى جزر المالديف في مارس (آذار) 2006 كانت بعض الدراسات قد نشرت، فعلا، وتستشرف غرق الألف ومائتي جزيرة التي تتكون منها مجموعة جزر المالديف، ليغرق معها نحو ثلاثمائة وثمانين ألف مواطن مالديفي، أو على أقل تقدير يهجرون موطنهم الأصلي إلى بلاد أخرى لا يعرفون عنها شيئا. إذ إن معظم المواطنين في هذا البلد القابع في وسط المحيط الهندي، والمعروف عنهم شغفهم بالبحار التي ولدوا وعاشوا في كنفها، لا يعرفون الكثير عن العالم الخارجي، إما بسبب قلة الحيلة وإما بسبب أنهم مستكينون لقدرهم في وسط محيط طبيعي لا يرحم ضحاياه. لكن هذه الدراسات، التي بدأت تخرج إلى العلن منذ منتصف التسعينات، على الأقل، لم تكن تتوقع غرق الأرخبيل قبل عام 2050، أي إنها بدأت بالتوقعات قبل نحو ستين عاما، لكن توقعات علماء المناخ كانت في اتجاه تفاؤلي، في حين كانت سرعة ذوبان الجليد تسير في اتجاه آخر. وتشير المعلومات إلى أن المدة التي كانت متوقعة لغرق الأرخبيل تضاءلت إلى الثلث، مما يعني أن الأرخبيل لن يكون موجودا في حدود عام 2025. مما يعني أن هواة السفر ومحبي هذه الجزر أمامهم فرصة قصيرة لزيارتها، هذا في حال صدقت هذه التوقعات.

لم تكن الاستعدادات التي قمت بها من أجل زيارة المالديف كبيرة جدا، فالبلد يستقبل السياح بدون فيزا. بلد فقير إلى هذا الحد لا يمكنه على الأرجح فتح سفارات في بلدان العالم لزيادة المصاريف. والإقامة غالبا ما تكون في جزيرة صغيرة هي الفندق نفسه لا أكثر ولا أقل، في حين أن وسائل النقل بين الجزر هي إما الطائرات المائية أو الزوارق البحرية السريعة. ما كان يلزمني في ذلك الوقت هو ملابس خفيفة جدا وجواز السفر، لا مأكولات خاصة، لا مشروبات ولا أي شيء آخر، فحكومة الجزر لديها أوامر صارمة جدا تمنع إدخال أية مأكولات أو مشروبات عبر المطار وذلك لتنشيط الحركة التجارية. لكن الرحلة في ذلك الوقت من بيروت إلى الدوحة ومن الدوحة إلى مطار مالي «عاصمة الجزر» استغرقت أكثر من ثماني ساعات في الطائرة وخمس ساعات تقريبا في مطار الدوحة الذي كان يعج بالمسافرين المحشورين في قاعات صغيرة لا تسعهم بسبب الأعمال التي كانت تجريها إدارة المطار من أجل توسيعه ليصبح بالحجم المناسب كمطار دولي كبير.

كنت محظوظا كما قالت لي المضيفة في الطائرة لأن الرحلة ستصل في الصباح مما يعني أن منظر الجزر من النافذة قبل أن تحط الطائرة سيكون مشوقا وجميلا، المطار نفسه منظره جميل إذ هو عبارة عن جزيرة صغيرة عليها مدرج واحد بطول كيلو متر واحد ولا يستقبل المطار سوى أصناف معينة من الطائرات التي يمكنها أن تنزل على هذا المدرج. المطار من الداخل بسيط وغير متكلف؛ مبنى من طبقة واحدة ويتألف داخله من صالة فسيحة يجلس فيها موظف رسمي للاطلاع على جوازات السفر وختم الدخول والخروج عليها ثم صف طويل من نوافذ خاصة لمكاتب الفنادق الكبيرة الموجودة في الأرخبيل.

توجهت إلى يافطة تشير إلى اسم الفندق الذي سأقيم فيه، تأكد الموظف بلطف بالغ من الأوراق والحجز وأخذني إلى رصيف الميناء حيث سآخذ من هناك زورقا بحريا سريعا وستستغرق الرحلة خمسا وأربعين دقيقة إلى جزيرة كلوب رينالهي الواقعة في منتصف الأرخبيل. على الميناء كل شيء بسيط، بدءا من المقهى الوحيد الموجود قبالة باب المطار وانتهاء بالأشخاص أنفسهم الذين يبدو عليهم اللطف والبساطة، فيما تلوح العاصمة المالديفية من مسافة قريبة، وهي جزيرة أيضا، بملامح بساطة تظهر جلية على الأبنية. لكن، وما إن بدأ الزورق بالخروج من الميناء حتى بدأت مظاهر البذخ على الفنادق الشهيرة التي تستعمر الجزر القريبة من العاصمة، هكذا إلى أن أصبحت الجزر المأهولة بفنادق تتناقص تدريجيا، فإلى جنوب العاصمة الجزر بمعظمها خاوية من الفنادق والاستثمارات، ورغم أن الأرخبيل يشهد طفرة سياحية مهمة، ويشتهر بها، إلا أنه من غير الممكن أيضا استثمار كافة الجزر، فبعضها لا يمكن استثماره أبدا، إما بسبب صغر الحجم أو بسبب الإمدادات التي تمكن هذه الاستثمارات من النجاح.

وصلت إلى كلوب رينالهي قبيل العاشرة صباحا، لأقيم سبعة أيام في هذا المكان الجميل، كانت الجزيرة خاوية وكنت الوحيد الذي سينزل فيها. أما باقي الركاب فسيتوزعون على جزر أخرى قريبة وبعيدة عن المكان. الفندق بسيط جدا، ويقع على جزيرة صغيرة الحجم لكنها ساحرة بمناظر خلابة وبشاطئ رملي كبير نسبيا مقارنة بغيرها من الجزر. الطبيعة هنا جميلة، وبما أنني وصلت بعد أن كان تسونامي قد مر من هنا، فإن العثور على المرجان المتكسر في الماء كان أمرا سهلا جدا، وهو من النوع الأبيض الذي يضيء ما إن تحل العتمة على المحيط. أما ارتفاع الجزيرة عن سطح البحر فلا يتجاوز النصف متر في أعلى مناطق الجزيرة، مما يعني أنها معرضة مثل غيرها من الجزر إلى الغرق كلما أصبحت معدلات ارتفاع مياه البحر وذوبان الجليد في القطب مسألة واقعية أكثر. الأمر الذي تؤكد عليه بشكل دائم السلطات المحلية، وهذا ربما السبب في توقف الاستثمارات الكبرى في الأرخبيل. إذ يمكن لأي شخص أن يستأجر جزيرة لمدة تسعة وتسعين عاما ويقيم عليها المشروع الذي يريد، لكن ماذا سيفعل بها إذا غرقت بعد 10 أعوام على سبيل المثال.

جزر المالديف التي تعتبر من أكثر الأماكن جاذبية على ظهر الكوكب، لا تضم فقط هذه الجزر الجميلة والمنعزلة عن العالم. بل هي تحتوي على بيئة بحرية نادرة جدا وغنية جدا بالحياة البحرية والحيوانات البحرية من أسماك القرش المسالمة وأسماك الراي الكبيرة جدا والتي تنام على الشاطئ أمام السياح كمان لو أنها في منزل أليف، بل أيضا عشرات، بل مئات، الأنواع الأخرى من الأسماك والحيوانات البحرية مثل المرجان بمختلف أنواعه وأشكاله وأيضا مجموعة مهمة ونادرة من الطيور البحرية التي أصبحت قليلة جدا. إلى جانب النباتات التي تعيش في هذه البيئة الصعبة. وهي إن غرقت ذات يوم كما هو متوقع فستكون خسارة للعالم ولسكانها الذين سيتوزعون حتما في مناف أخرى بعيدا عن المحيط الذي ولدوا وعاشوا حياتهم في كنفه رغم كل القسوة وكل العزلة التي يقيمون فيها.