كراكوف.. من أجمل أسرار أوروبا السياحية المكتومة

عاصمة بولندا الثقافية وأعرق حواضرها

مبنى قاعة القماش (السوكيينيتسا) يتوسط ساحة السوق الرئيسية (الرينيك) في المدينة القديمة
TT

عند انحناءة حادة على الضفة الشمالية من نهر الفيستولا - أو الفيسوا، كما يعرف باللغة البولندية - تقع «المدينة القديمة» أو الحي التاريخي القديم من مدينة كراكوف، العاصمة الثقافية والفنية والأكاديمية لبولندا.

هذه البقعة البديعة الجمال المضمخة بالأصالة، في جنوب بولندا، تبدأ من ضفة النهر بتلة فافل (Wawel) المتوجة بقلعة تطل بشمم على ما حولها. وخلف القلعة، المتقنة البناء.. التي غدت بمر العقود مكان دفن ملوك البلاد وعظمائها، تمتد «المدينة القديمة» شمالا.

يعود تاريخ تأسيس «المدينة القديمة» - أو الـ«ستاريه مياستو» - إلى القرن الميلادي السابع، وهي اليوم تحتل مكانا بارزا على «قائمة اليونيسكو للتراث العالمي». وحولها، في كل الاتجاهات، وعبر النهر، تمددت أحياء كراكوف واتسعت أرجاؤها لتغدو إحدى مدينتين - مع وودج - تتنازعان المرتبة الثانية بين كبريات مدن بولندا من حيث عدد السكان. ولكن بالنسبة لمن يزور كراكوف لأول مرة لا ينم مطار كراكوف - الصغير بعض الشيء - عما تعد به هذه المدينة الجميلة زائرها. فالمطار عمليا مطار إقليمي، مع أنه بشكل رسمي مطار دولي، وحمل قبل فترة غير بعيدة اسم البابا يوحنا بولس الثاني، أحد أشهر من ارتبطت أسماؤهم بالمدينة.

ولا يبدأ الانبهار إلا عند الاقتراب من وسط المدينة. وهنا تختلف الحكاية. هنا يبدأ المشوار السياحي الممتع مع إحدى تحف أوروبا المعمارية والثقافية.. وسر من أروع أسرارها السياحية التي ظلت لفترة طويلة مكتومة عن سياح العالم.

* رحلة تاريخية

* المصادر التاريخية تخبرنا أن البقعة التي قامت فيها كراكوف، وتحديدا تلة فافل، عرفت السكنى منذ العصر الحجري. وفي القرن الميلادي السابع نشأت المدينة، ومن ثم ازدهرت كأحد أهم المراكز التجارية في شرق أوروبا بحلول أواخر القرن الميلادي العاشر.

لأكثر من 500 سنة كانت كراكوف عاصمة لبولندا بين عامي 1038 و1596، وفي عام 1364 أسس الملك كازيمير الثالث في المدينة جامعتها الشهيرة، الجامعة الياغييلونية.. ثاني أقدم جامعات أوروبا الشرقية بعد جامعة تشارلز (أو جامعة الملك) في براغ. وطُبع فيها أول كتاب يطبع في بولندا عام 1473.. نمت المدينة وبلغت الأوج أكثر تحت حكم السلالة الياغييلونية التي حكمت اتحاد بولندا وليتوانيا، وحقا كان القرنان الخامس عشر والسادس عشر حقا «عصرا ذهبيا» لكراكوف. ففي هذه الفترة شيدت في المدينة تحف معمارية كثيرة لافتة، بما فيها عدد كبير من المباني الخاصة والمؤسساتية والدينية، بينها عدد كبير من الكاتدرائيات والكنائس بجانب الكنس اليهودية في حيها اليهودي التاريخي كاجيميج (Kazimierz)، جنوب شرقي تلة فافل، واستقطبت المدينة إليها كبار الفنانين والحرفيين والأدباء ورجال الأعمال.. وقادت عن جدارة النهضة الفنية في البلاد.

إلا أن هذا «العصر الذهبي» اقترب من نهايته عندما توفي آخر ملوك السلالة الياغييلونية، زيغيسموند (زيغمونت) الثاني، بلا عقب يتولى الحكم عام 1572، فانتقل العرش البولندي إلى الملك الفرنسي هنري الثالث، الذي تلاه عدد من الحكام الأوروبيين عانت المدينة تحت حكمهم تراجعا كبيرا في أحوالها. وتفاقم تراجعها مع الدمار والنهب اللذين خلفهما الغزو السويدي، ثم حلت بالمدينة موجة من الطاعون فتكت بأكثر من 20 ألف نسمة من أهلها. وعام 1596 نقل الملك زيغيسموند الثالث (من سلالة فاسا السويدية) عاصمة الدولة البولندية - الليتوانية من كراكوف إلى وارسو.

وبين نهاية القرن السابع عشر ومنتصف القرن التاسع، تلاحقت أحداث كثيرة على المدينة، وكذلك على بولندا نفسها بفعل صراعات القوى الكبرى المحيطة بها، ومطامح القوى البعيدة عنها، عندما اجتاح نابليون بونابرت بولندا في طريقه لمهاجمة روسيا.

وبين عامي 1846 و1918 غدت المدينة قلب «دوقية كراكوف العظمى». ثم بعد غزو ألمانيا النازية بولندا وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية اختار الألمان المدينة - التي يسمونها كراكاو - عاصمة لـ«الحكومة الألمانية (الاستعمارية) العامة». ولكن على الرغم من ويلات الحرب، كانت كراكوف - على غرار العاصمة التشيكية، براغ - من الحواضر القليلة في وسط أوروبا التي نجت كنوزها المعمارية الأصلية من الدمار.

اليوم تحتل كراكوف رسميا موقع العاصمة الإدارية لإقليم بولندا الصغرى، في أقصى جنوب البلاد، مع أنها تظل فعليا عاصمة الثقافة والعلم والفن والسياحة في بولندا. وكان عام 1978 عاما مهما جدا في حياة المدينة، ففيه أصبح كبير أساقفتها الكاردينال كارول فويتيوا (البابا يوحنا بولس الثاني)، وبات أول سلافي يتبوأ هذا المنصب، أول بابا غير إيطالي خلال 455 سنة. كذلك اختارت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم والتربية (اليونيسكو) ضم «المدينة القديمة» في كراكوف إلى «قائمة التراث العالمي». ومع سقوط الشيوعية استفادت كراكوف الجميلة من عصر الانفتاح.. فأطلت على العالم من جديد كوجهة سياحية مشرقة متميزة.

* موقع متميز

* تتمتع كراكوف بموقع جغرافي بديع، في حوض نهر الفيستولا وعند السفوح الشمالية لجبال تاترا، على ارتفاع معدله 219 مترا عن سطح البحر. إلا أن الحكم الشيوعي بين 1945 و1989، أنشأ لها بضع ضواحي أبرزها الضاحية الصناعية الضخمة مثل نوفا هوتا، البعيدة جدا عن الجمال الكلاسيكي لـ«المدينة القديمة».

ولكن مع هذا تظل كراكوف بصفة عامة مدينة خضراء نظيفة، تضم عددا كبيرا من الحدائق العامة الغناء، وتشكل منظرا رائعا من «قبة كوشيوسكو» (كوبييتس كوشيوسكي)، التلة الاصطناعية المطلة على المدينة من الغرب بارتفاع 326 مترا التي أنشئت لتخليد اسم البطل القومي تاديوش كوشيوسكو. ثم إن كراكوف، بحكم موقعها، تعتبر نقطة الانطلاق إلى أكثر مناطق البلاد ارتفاعا في أقصى الجنوب على الحدود مع سلوفاكيا والجمهورية التشيكية، وفيها زاكوباني أشهر المنتجعات الجبلية في بولندا.

مناخ المدينة معتدل عموما، لا سيما إبان فصل الصيف، إذ يتراوح معدل الحرارة فيها خلال الصيف بين 18 و20 درجة مئوية، مع احتمال صعودها في بعض الأيام إلى 30 درجة. أما في الشتاء فيتراوح المعدل بين الصفر و2 تحت الصفر، وقد تهبط درجة الحرارة في الأيام القارسة البرودة إلى 15 تحت الصفر لكنها في أيام الشتاء الدافئة يمكن أن ترتفع بسرعة إلى 20 درجة مئوية.

* ما يهم الزائر والسائح

* أبرز الأماكن والأبنية السياحية في المدينة وخارجها في طليعة ما يستحق المشاهدة والزيارة في كراكوف «المدينة القديمة» (ستاريه مياستو)، التي تعد متحفا قائما بذاته يضم ستة آلاف موقع أثري وشبه أثري بطرز العمارة القوطية والباروكية وعصر النهضة داخل حيز حضري تطوقه اليوم، بدلا من السور القديم، غابة خضراء هي حديقة بلانتي (بلانتي بارك). وفي قلبها ساحة السوق الرئيسية (الرينيك) وشارع فلوريينسكا وشارع غرودسكا. أما أبرز مباني الساحة فمبنى الـ«سوكيينيتسا» (قاعة القماش) وبازيليك سانت ماري والمباني القديمة في الجامعة الياغييلونية والمتحف الوطني. ثم هناك في جنوب «المدينة القديمة» تلفت الزائر قلعة فافل والكاتدرائية. وخلف القلعة عبر تلة فافل، يمتد حي كاجيميج، الحي اليهودي التاريخي، بساحاته وشوارعه، واليوم توجد في ساحته الرئيسية بعض أفضل مطاعم المدينة.

* المتاحف والمسارح ودور الفن

* أما على صعيد الفنون، فإن كراكوف تضم ما لا يقل عن 28 متحفا ومعرضا فنيا دائما، أهمهما متحف تشارتوريسكي وفرع كراكوف من المتحف الوطني. كما تضم عددا كبيرا من المسارح المرموقة وبجانبها قاعة موسيقية هي مقر فرقة كراكوف الفيلهارمونية. وفي هذا السياق، تقدم المدينة لعشاق الموسيقى والمسرح والسينما تشكيلة واسعة من المهرجانات والعروض والملتقيات الثقافية السنوية، مع العلم أن بين أشهر من عاش في المدينة اثنين من ألمع المخرجين العالميين، آندريه (آنجيه) فايدا، ورومان بولانسكي.

* الحدائق العامة والمحميات

* توجد في كراكوف وفي محيطها حدائق عامة ومحميات خضراء وغابات كثيرة، أشهرها وأجملها حديقة «بلانتي بارك» التي أسست بين عامي 1822 و1830 وتحيط بـ«المدينة القديمة» وتمتد على 52 فدانا، و«حديقة جوردان» - أو «يوردانا بارك» - التي أسسها عام 1889 وأهداها للمدينة الدكتور هنريك جوردان (يوردان) أحد رواد الرياضة في البلاد، و«حديقة النباتات»، وحديقة «كراكوفسكي بارك» وحديقة «بولونيا بارك». وتضم معظم هذه الحدائق مرافق للرياضة والترويح بجانب النصب الجميلة. أما على صعيد المحميات والغابات فيوجد في المدينة وضواحيها ما مجموعة 120 فدانا من الأراضي الخضراء والغابات المحمية بقوة القانون، والتي تشكل متنفسا للسكان والزائرين. وأما خارج المدينة، فهناك محمية «أويتسوفسكي بارك» المحمية الممتدة على مساحة تزيد على 14 كيلومترا مربعا وتبعد عن المدينة 16 كلم.

كذلك ينصح الزائر والسائح بزيارة مناجم الملح الصخري في فييليتسكا، قرب كراكوف إلى الجنوب الشرقي منها. وعلى مسافة أبعد هناك جبال تاترا، تبدأ على 100 كلم إلى الجنوب من المدينة، ومدينة تشسوتوهوفا التاريخية، إلى الشمال الغربي منها.

* معلومات مفيدة وعملية

* المطار: مطار البابا يوحنا بولس الثاني/ كراكوف – باليتسا، يقع على بعد 11 كلم عن المدينة.

محطة السكك الحديدية الرئيسية: إلى الشمال الشرقي من «المدينة القديمة»، تربط خطوطها كراكوف بعدد كبير من مدن بولندا وأوروبا (15 دقيقة عن المطار)، وتنطلق منها رحلة كل ساعة إلى وارسو.

الفنادق: من أفضل فنادق كراكوف فندق «شيراتون – كراكوف» (فخم حديث - قرب قلعة فافل جنوب «المدينة القديمة»، يطل على النهر)، وفندق كوبرنيكوس (فخم كلاسيكي – في قلب «المدينة القديمة» قرب قلعة فافل)، وفندق «غراند أوتيل» (فخم كلاسيكي - في «المدينة القديمة» شمالي «الساحة الكبرى» أو «الرينيك»)، وفندق «أوروبيس فرانسوسكي» (فخم عريق في شمالي «الساحة الكبرى» في «المدينة القديمة»)، وكلها من فئة «4 نجوم». ثم فندق بولونيا (3 نجوم – شمال «المدينة القديمة»)، وفندق «شوبان هوتيل - كراكوف» (3 نجوم حديث – إلى الشرق بعيد نسبيا عن «المدينة القديمة»)، وفندق «كوبوس» (حديث ومريح – عبر النهر عن كاجيميج) وفندق «كاجيميج» (3 نجوم – في كاجيميج).

المطاعم: توجد في «المدينة القديمة» وحي كاجيميج تشكيلة واسعة من المطاعم التي تتراوح بين المطاعم الفاخرة، والمطاعم والمقاصف السياحية والمقاهي الشعبية. مع تنويه خاص بمحلات الأيس كريم الممتازة.

* معلومات عامة إضافية

* عدد السكان: يقدر تعداد سكان كراكوف بنحو 750 ألف نسمة، يرتفع مع إضافة ضواحيها إلى مليون و125 ألف نسمة.

شخصيات ارتبطت بالمدينة: البابا يوحنا بولس الثاني (كبير أساقفة كراكوف وخريج الجامعة الياغييلونية)، وعالم الفلك العظيم نيكولاس كوبرنيكوس (خريج الجامعة الياغييلونية)، وتاديوش كوشيوسكو (البطل القومي البولندي الذي قاد انتفاضة فيها)، الأمير فواديسواف تشارتوريسكي (صاحب أهم المجموعات الفنية في العالم)، هيلينا روبنشتاين (مؤسسة دار مستحضرات التجميل الأميركية الشهيرة، ولدت في المدينة عام 1870).

الأندية الرياضية: تتبوأ كراكوف مواقع الصدارة في قطاع الرياضة ببولندا، لا سيما في كرة القدم. ففي المدينة ناديان تمارس فيهما عدة رياضات، يعتبران من أعرق وأنجح أندية دوري المقدمة (الممتاز) في كرة القدم، هما: فيسوا كراكوف (بطل الدوري 12 مرة آخرها موسم 2008 - 2009، وثاني الدوري في الموسم الماضي)، وكراكوفيا كراكوف (بطل الدوري أربع مرات، وهو أول بطل للدوري، والنادي الذي أسسه الدكتور هنريك جوردان وكان يشجعه البابا يوحنا بولس). ولكل من الناديين ملعبه الكروي الخاص قرب نهر الفيستولا في غرب المدينة، قرب حديقة جوردان (يوردانا بارك).

الجامعات والمعاهد العليا: تتميز كراكوف بمكانتها العلمية والثقافية الرائدة في بولندا، وتتصدر قائمة مؤسساتها العلمية والثقافية الجامعة الياغييلونية (1364)، وجامعة إيه جي إتش (أكاديما غورنيتشو - هوتنيتشا) للعلوم التكنولوجيا (1919)، وجامعة كراكوف للتكنولوجيا، وجامعة كراكوف للاقتصاد، وجامعة العلوم الزراعية في كراكوف، وجامعة التربية والتعليم، وأكاديمية الموسيقى في كراكوف، وأكاديمية الفنون الجميلة، والمعهد البابوي للاهوت، وأكاديمية لودفيك سولسكي لفن الدراما.