أزمير المتحضرة.. إحدى أهم مدن الشرق الأوسط القديم

بناها الإسكندر وزارها الإمبراطور أدريان

تستقطب ازمير نشاطات تقنية وتجارية ومالية من الخارج
TT

أزمير من أجمل المدن التركية وأشهرها تاريخيا، فهي من أهم محطات البحر الأبيض المتوسط منذ قرون طويلة، وقد تحول مرفأها المهم ومفتاحها على العالم، إلى منطقة اقتصادية حرة منذ التسعينات في إطار التطور الذي تعرضت له المدينة خلال العقود القليلة الماضية. وهي لا تزال من أكثر المدن التركية انفتاحا على الخارج وأوروبا، وربما أكثرها تنظيما، وأكثرها استقطابا للسياح بعد إسطنبول التاريخية ووسطها المعروف.

يعتبر مرفأها ثالث أكبر المدن التركية كما هو معروف، وثاني أكبر المرافئ في البلاد وأهمها نشاطا على الصعيد التصديري. ويقع على الخليج الذي يحمل اسمها عند بحر إيجة في الجهة الشمالية من المتوسط. وقد منحها هذا الموقع الجميل على بحر إيجة ومقابل جزيرة كيوس اليونانية وعلى نفس الخط الجغرافي للعاصمة اليونانية أثينا أيضا، لقب جوهرة إيجة تاريخيا.

وعلى الرغم من أن العثمانيين أيام الإمبراطورية الطويلة الأمد لم يولوها الاهتمام الذين أولوه لإسطنبول وحلب في سورية، فإن مرفأ المدينة بدأ يسترجع أنفاسه وأمجاده في القرن السابع عشر، مع تعزيز انفتاحه على المحيط الأوروبي والمتوسطي وعلى العالم.

ولطالما اعتبرت المدينة التي تستقطب الكثير من النشاطات التقنية والتجارية والمالية من الدول الخارجية، والتي وصفها الكاتب الفرنسي فيكتور هيغو صاحب رائعة البؤساء بالأميرة الجميلة، مدينة حيوية وديناميكية وأوروبية الهوى إذا صح التعبير وتضم نخبة من الهينيين والكثير من أبناء الطبقات الوسطى والعليا في تركيا وجيل من الشباب والمحترفين مهنيا وصناعيا من الجنسين.

ولهذا الانفتاح على العالم، كانت المدينة مسرحا للكثير من النشاطات الرياضية والاحتفالية الدولية، ولم تخسر إلا أمام مدينة ميلانو في حق استضافة الإكسبو عام ألفين وخمسة عشر. وقد استضافت من قبل في السبعينات بطولة ألعاب المتوسط وبطولة العالم للجامعات عام ألفين وخمسة، أي قبل خمس سنوات. وللمدينة مطار دولي وداخلي لخدمتها وهو مطار عدنان ميندريس، وهي قريبة من الكثير من المحطات السياحية المهمة التي يقصدها الأوروبيون والأميركيون واليابانيون عادة، مثل مدينة أو رائعة إفيسوس التاريخية المذهلة. وهذا الموقع من مواقع المدن اليونانية والإغريقية القديمة في بلاد الأناضول على الساحل الغربي لتركيا، والتي كانت جزءا من التحالف الأيوني خلال الفترة اليونانية الكلاسيكية. وكانت أيضا ثاني أكبر مدن الإمبراطورية الرومانية في فترة من الفترات بعد العاصمة روما. ولا تزال بقايا هيكل أرتميس أو ديانا رومانيا الرائع والمذهل، ماثلا للعيان ويمكن للسياح تامله والتعرف على جماله، وقد كان يعتبر من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. كما أن المدينة قريبة أيضا من موقع بيرغامون الأثري المهم واليوناني أيضا، وموقع سارد الرائع أيضا، والذي كان عاصمة مملكة ليديا قديما وإحدى أهم مدن الإمبراطورية الفارسية، وبلدة موردوغان الساحلية الجميلة والصغيرة، والتي تقدم الكثير من الخدمات للسياح مثل الغرف والفنادق والمواصلات والاتصالات والمطاعم وغيره من الخدمات السياحية الرئيسية.

لكن المدينة نفسها بالطبع تضم نخبة من المواقع السياحية التي قد تغري أنواعا كثيرة من السياح، ومنها برج الساعة على الخط الساحلي لخليج أزمير الذي يحاط بساحة كوناك المعروفة والنظيفة والكبيرة والمعبدة بالحجارة والمليئة بأشجار النخيل الجميلة. والبرج الجميل المحاط بأربع نوافير للمياه مع القباب وهو مصمم معماريا على الطريقة العثمانية مع تأثر كبير بعمارة المغرب العربي والأندلس ومن قبل المعماري الفرنسي رايموند بيري. وكان الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني قد أهدى الساعة إلى المدينة في الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين على ولاية السلطان عبد الحميد الثاني عام 1901. وهناك أيضا قمة جبل يمنلار، حيث يقع معبد أو ضريح تانتالوس التاريخي الذي يعود إلى ما قبل الميلاد. وعلى قمة الجبل هناك بركة تسمى البركة السوداء. وهي مثال على المواقع التاريخية التي تعود الفترة الهيلينية أو بالضبط الفترة التي انتشرت فيها الخرافات والأساطير الإغريقية إلى جانب بلدة كمال باشا الجميلة والمزدهرة اقتصاديا وسياحيا وصناعيا وجبل سبيلوس الذي يرتبط كثيرا بالأساطير اليونانية الإغريقية القديمة، إذ إنه في قلب مملكة ليديا القديمة وفي المنطقة الإيجية من تركيا. وتطل قمة الجبل على بلدة مانيسا والطريق الذي يصلها بأزمير. ولعشاق الآثار القديمة أيضا يمكن زيارة موقع أو مكان التجمع القديم في مدينة سميرنا القديمة والتاريخية، أو ما يعرف بالـ«أغورا». وهذه المدينة من المدن التي ارتبط اسم الإسكندر الأكبر بها وبتأسيسها وعرفت ازدهارا كبيرا أيام الحكم الروماني. ويعتبر موقع الأغورا متحفا أثريا مفتوحا، ولا يزال العمل جاريا على كشف المزيد من الآثار المهمة التي تنتشر على موقعين رئيسيين كالمسرح الذي مات وأحرق فيه القديس اليوناني القديم سانت بوليكاربوس. لكن قبر القديس كما يقال يقع تحت سور ومدخل قلعة قاديفيكال أو جبل باغوس أو ما كان يعرف بالقلعة المخملية في قديم الزمان. ولا تبعد القلعة أكثر من ميلين عن الخط الساحلي أو الواجهة البحرية في المدينة. وتحت القلعة أو عند سفح قاديفيكال هناك واحد من أروع وأجمل الأسواق الشعبية التقليدية التي بناها العثمانيون قديما في تركيا ومدينة أزمير وهو سوق «كاميرلات» عند شارع أنافارتالار الذي يضم موقعا صوفيا مهما أيضا. وتعتبر السوق الشعبية التي تنتشر من سميرنا إلى ساحة كوناك تقريبا من الأكثر الأماكن حيوية ونشاطا ومتعة للسياح والراغبين في التعرف على أجواء تركيا التجارية والمالية والترفيهية. كما تضم منطقة السوق أيضا معالم إسلامية مهمة كالمحكمة والجامع القديم الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر ومصمم بطريقة عثمانية جميلة وباللون الأبيض والبرتقالي مع القباب والمنارة العالية والرائعة. بالطبع إن قلعة قاديفيكال ليست القلعة الوحيدة في المدينة التاريخية، فهناك ثلاث قلاع حقا قد تشفي غليل محبي القلاع والمناطق العالية فوق المدن وتلالها. ومن هذه القلاع قلعتا كاليسي وسانساكالي التي كانت تاريخيا مهمة جدا لحماية المدينة وأمنها. وتقع القلعة في حي أنشير التي بين نارليديري وبلسوفا في الجهة الجنوبية من الخط الساحلي. وفي المنطقة الشمالية من المدينة، ولمحبي الطبيعة تضم المدينة واحدة من أجمل المحميات الطبيعية الخاصة بحماية الطيور المحلية والنادرة وهي محمية «سيغلي» أو «جنة أزمير للعصافير» كما يطلق عليها. وتضم المحمية 205 أنواع من الطيور منها ثلاثة وستون طيرا محليا وأربعة وخمسون نوعا من الطيور المهاجرة في الصيف وستة وخمسون نوعا من الطيور التي تعيش في المحمية نفسها. ولمحبي الأحياء التاريخية أيضا والجميلة العمران يمكن زيارة شارع أوتيلار الشهير في وسط المدينة، والذي تنتشر فيه المباني الرائعة بألوانها الجميلة والمختلفة من الصفراء إلى الزهرية والبيضاء والخضراء الخفيفة. كما هناك أكثر من تسع كنائس يهودية مهمة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر في الحي اليهودي القديم وفي منطقة كاراتاس.

والمدينة بشكل عام تضم نخبة من المباني والعمران التاريخي المتعدد الفترات وهناك الكثير من المباني أيضا التي تذكر بشرفات مدينتي جدة السعودية وبغداد العراقية الخشبية الجميلة المطلة على الشوارع، والفسحات الخضراء الواسعة والشرحة والكورنيش الرائع والنظيف.

ويقال إن اسم المدينة يعود إلى اسمين من اللغة اليونانية الألونية ميرا وسميرنا، وهو اسم إحدى المحاربات الإغريقيات القديمات المعروفات اللاتي كان يطلق عليهن اسم الأمازونات من أمازون. ويبدو أن الأمازونة سميرنا أغرت ملك ومؤسس أثينا القديمة ثيسيوس ابن إيثرا، (وكان لثيسيوس أيضا أبوان هو الإله البحر بوزيدون والرجل العنزة إغييوس) ودفعته لتسمية المدينة باسمها. والبعض يقول إن اسم أزمير مشتق من اسم أحد الأعشاب والنباتات الطيبة الرائحة والعطرية، والتي تنتشر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويطلق على النبتة اسم ميري الذي تبناه الرومان. لكن في اللغة الإنجليزية وقبل الفترة التركية في المدينة، أي أيام اليونان كانت يتم تعريف وتسمية المدينة بسمرنا.

والاسم التركي العثماني الحالي أزمير هو الاسم المحور من ذلك والحديث. ولا يزال اسم أزمير باللغة اليونانية حاليا «سمرني» وفي الأرمينية أزمير وسميرنا في الإيطالي وأسميرنا في الإسبانية والفرنسية. بأي حال ظلت المدينة مرتبطة باسم سميرنا حتى عام 1930 عندما بدأ الجميع بتبني الاسم الجديد أزمير.

مهما يكن فإن المدينة تاريخيا، واحدة من أقدم المواقع المسكونة في منطقة الشرق الأوسط، وربما يعود تاريخ استيطانها البشري إلى أكثر من 9500 سنة، أي إلى العصر الحجري الحديث الذي شهد الثورة الزراعية في غرب آسيا ومنطقة الهلال الخصيب أو المشرق العربي وقبرص. وقد تم العثور على آثار وتحف في المقابر يعود تاريخها إلى ثلاثة آلاف سنة. وعام 1500 قبل الميلاد وقعت المدينة تحت سيطرة الحثيين. ويبدو أن المدينة في القرن الثالث قبل الميلاد كانت من أهم المحطات الثقافية والتجارية المتقدمة في منطقة الأناضول. وبعد غزو أهل البحر الفينيقيين من فلسطين ولبنان وأهالي دول البلقان سيطر الإغريق على المدينة. ويقال أيضا إن هومر الشاعر اليوناني المعروف قديما وصاحب الأوديسة والإلياذة من أبناء المدينة. ويقول هيرودوتس إن المدينة أسست من قبل الألونيين قبل أن يسيطر عليها الأيونيون الإغريق في القرن السابع قبل الميلاد. ويقال أيضا إن بعد تلك الفترة بدأت المدينة تتمتع بصفتها كمدينة، على الرغم من أن عدد سكانها لم يتعد الألف نسمة آنذاك. وكانت محاطة ببساتين الزيتون والعنب ومصانع الأدوات المطبخية والأواني الفخارية الضرورية، وبشكل عام اعتاش أهلها على البحر وصيد الأسماك والزراعة. وقد أصبحت المدينة محطة مهمة على المتوسط من الناحية التجارية والثقافية في القرن السادس قبل الميلاد. بعد ذلك وقعت المدينة تحت سيطرة الليديين الذين دمروها وعمروها من جديد. وقام الفرس بعد ذلك بتدمير المدينة أيضا أيام حروبهم مع الإغريق ومحاولاتهم السيطرة على المناطق الساحلية لبحر إيجة مع سيروس العظيم. وفي القرن الرابع أعاد الإسكندر الأكبر الاعتبار للمدينة عبر بنائها من جديد عند منحدر أو سفح جبل باغوس الذي تقع عليه قلعة قاديفيكال. وعرفت المدينة الشهيرة فترات من الازدهار والعظمة مع الفترة الرومانية التي تلت، حيث أصبحت من المواقع الدينية المسيحية القديمة المهمة في آسيا. وقد زارها لعظمتها الإمبراطور الروماني المعروف أدريان خلال جولته في مناطق الإمبراطورية الرومانية والتي شملت الكثير من المناطق التاريخية الجميلة ومنها مدينة بعلبك اللبنانية في سهل البقاع. كما يقال إن الإمبراطور كاركالا زارها أيضا لجمالها وطيب هوائها. ويبدو أن الأتراك سيطروا عليها لأول مرة عام 1076 تحت قيادة القائد السلجوقي شاكا بيك مع بعض الجزر الأيونية المجاروة.