الشونبرون مرآة الفن النمساوي.. وفرساي فيه تعيش الروح الفرنسية

ما بين القصرين أكثر من قصة وحكاية

بني قصر الشونبرون في النمسا ليكون نسخة من قصر فرساي الفرنسي بمساحة اصغر
TT

ما بين القصرين الكثير والمثير، جمال حديقتيهما، وروعة مبنييهما، هذا بالإضافة لمدى أهميتهما وعظم أثرهما في تاريخ شعبيهما.

القصران هما قصر فرساي الفرنسي وقصر الشونبرون النمساوي. الشونبرون هو القصر الصيفي الذي عاشت فيه الإمبراطورة الأم ماريا تريزا في العاصمة النمساوية فيينا، وفرساي هو القصر، حيث عاشت ابنتها الإمبراطورة ماري أنطوانيت على بعد كيلومترات من العاصمة الفرنسية باريس. وما بين القصرين وفي أرجائهما سطرت كتب التاريخ ومجلداته، الكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية، ثم تلاشت الأهمية الكبرى للقصرين، كمقرين لحكام البلدين ليضحيا موقعين أثريين من أهم المواقع السياحية وأجملها في بلديهما والعالم.

بحسب المساحة، فإن الشونبرون هو القصر الأصغر وإن كان عدد حجراته أكثر، 1441 غرفة، وقد طورته الإمبراطورة ماريا تريزا، إمبراطورة الهابسبورغ، كنسخة من قصر فرساي الفرنسي الطابع، حيث عاشت أصغر بناتها وأجملهن، ماري أنطوانيت بعد زواجها من الإمبراطور لويس السادس عشر. وهذا هو سبب التشابه الكبير بين المبنيين، على الرغم من الاختلاف الواضح الذي يلحظه الزائر لأرجائهما الداخلية، إذ يظل الشونبرون ثريا بأثاثه، والصور الشخصية، فتكاد تحس بأن الأباطرة سكانه قد غادروه لتوهم في رحلة إلى الخارج، مما أتاح للسياح متعة التجوال بحرية في غرفهم من طابق إلى طابق، إذ تزدان كل غرفة بمعداتهم، وملابسهم، وأوانيهم وموائدهم التي تبدو وكأنها في انتظارهم لتناول وجباتهم، أما أسرتهم فكأنهم سيأوون إليها في المساء.

عكس هذا تماما الإحساس عند التجوال في أرجاء غرف وصالات فرساي، حيث يستوقف الزائر خلو القصر من الأمتعة الشخصية لسكانه، عدا القليل جدا من الأسرة المشدودة المنصوبة، والقليل من الطاولات والمقاعد، فيما تجذب الزائر وتسحره روعة تصميم الغرف، وخاصة صالة المرايات التي تزينها مرايا على الجانبين وبطولها، كما تتدلى من وسط سقفها الثريات. في هذه الصالة تم توقيع اتفاقية فرساي 23 يونيو (حزيران) 1919، والتي أنهت الحرب العالمية الأولى، وبذرت بذرة عصبة الأمم التي تطورت لتصبح منظمة الأمم المتحدة.

هذا الفرق الكبير بين حال أثاث القصرين مهم جدا، إذ يفسر تماما المصير الذي آل إليه حال آخر أباطرة كل قصر، وكيف انتهى مصير آخر ملاكه الحقيقيين.

وبينما توفي آخر سكان الشونبرون، الإمبراطور فرانس جوزف، ابن الإمبراطورة ماريا تريزا وفاة طبيعية، داخل غرفة نومه بالشونبرون، القصر الذي ولد وعاش فيه 1830 - 1916 من دون أن يؤثر قيام الحرب العالمية الأولى والثانية على هيئة الشونبرون، نجد أن الثوار قد هاجموا قصر فرساي، حيث جبروا الإمبراطور لويس السادس عشر وزوجته الإمبراطورة ماري أنطوانيت على الفرار ونحروهما ونهبوا قصرهما الذي اقتلعوا أثاثاته، عدا الضئيل منها، مما تم نقله إلى باريس، ثم صعب على إدارة فرساي أن تشتريه مرة أخرى لفداحة ثمنه أو أن تستعيده من متاحف ضخمة كمتحف اللوفر. أو ربما لم يرغب المسؤولون في طمس حقيقة تاريخية. وتلك أسباب خلو فرساي من الأثاث، بينما تتوفر بالشونبرون أدوات مكياج الإمبراطورة وزهورها المجففة، بل حتى فرشاة أسنان الإمبراطور وإبريقه وريشته وأوراقه على منضدة تزينها صور فوتوغرافية بجوار سريره.

يمثل القصران روعة معمارية وتخليدا للفن الباروكي. وتعتبر كل غرفة وكل صالة من غرفهما وصالاتهما تحفة في حد ذاتها من الأرضية وحتى السقوف العالية وما رسم عليها. دع عنك الثريات والمرايا واللوحات، بل حتى مقابض الأبواب والنوافذ أما حديقتاهما فهما موضوعان منفصلان بذاتهما، سواء من حيث المساحة والمنظر المبهج العام، أو عند الوقوف على التفاصيل والتدقيق في أنواع النباتات، والتماثيل، والطرق، والفواصل، والممرات، والنوافير.

ويمتاز الشونبرون بامتلاكه لأقدم حديقة حيوانات يعود تاريخها إلى عام 1752 كما تزينه نافورة ضخمة «الغلورييت» أو نافوة نبتون التي بنتها ماريا تريزا كرمز يذكر بقوتها أن خاضت حربا.

في المقابل لم يعرف عن فرساي حيوانات غير تلك التي جلبت لقرية مصطنعة أقيمت لتلعب بها الأمبراطورة ماري أنطوانيت ورفيقاتها، وكان يسرها أن تبدو كفلاحة قروية تمتلك الماعز والخراف. ويقال إنهم كانوا يلمعون لها الخراف وترش عليها البودرة ليصير صوفها أكثر بياضا فتقوم الإمبراطورة ابنة الإمبراطورة المدللة بحلبها.

من جانب آخر، اشتهر الشونبرون بكونه بيتا سكنته أسرة قوامها 16 طفلا، هم أبناء وبنات ماريا تريزا، كما أنه قد شهد الكثير من الاشتباكات العائلية بين الإمبراطورة وزوجة ابنها الإمبراطورة الصغيرة إليزابيث أو سيسي التي لم تحبها ماريا تريزا يوما، بينما أحبها الشعب. وما يزال النمساويون يحبون سيسي ويحتفلون بها ويشبهونها بالأميرة ديانا، لجمالهما وتعاسة حياتهما الزوجية مع الفارق أن سيسي كانت تحظى بحب زوجها وإن كرهتها أمه. وكانت سيسي تتجنب العيش في الشونبرون حتى تبتعد عن والدة زوجها التي لم تقبلها أبدا زوجة تليق بوريث العرش، وكانت تفضل لو أن ابنها قد اختار الشقيقة الكبرى لسيسي، وكلتاهما ابنتا شقيقتها.

من جانبه، عرف تاريخ فرساي النسوي بصورة أشهر سيدات لعبن أدوارا كخليلات، في مقدمتهن مدام دو بامبادور، عشيقة الإمبراطور لويس الخامس عشر، التي لعبت بحقيقة دور سيدة القصر القوية ليس كجسد فحسب، بل كعقلية سياسية ساعدت الإمبراطور ودعمته، وقد كانت صاحبة ذهن وقاد، أجاد حبك الدسائس والمؤامرات، لذلك حسب حسابها رجال البلاط. ويقال إن الجميع انشغل وتساءل عن الكيفية التي ستسود العلاقة بينها وماري أنطوانيت عند انتقال ماري أنطوانيت إلى فرساي، وخاصة أن ماري أنطوانيت بتربيتها الدينية لم تخف تقززها من تلك السيدة التي اعتبرتها مجرد عاهرة.

ميزة أخرى من المميزات التي تميز الشونبرون وهي أن الوصول إليه سهل جدا، باعتباره حيا من أحياء فيينا له محطة قطار أنفاق باسمه ضمن محطات الخط الرابع، كما يصل إليه أكثر من تروماي وباص، وذلك مما ساعد أهل البلد للاستمتاع كثيرا بحدائقه ذات الأبواب المشرعة مجانا، والتي وبفضل روعتها وهدوئها أصبحت المفضلة عند الرياضيين للركض حولها بصورة يومية. ويعتبر الشونبرون أكثر المزارات السياحية النمساوية دخلا وجذبا للسياح للاستمتاع بالقصر، وبحديقة حيواناته التي تحتل المرتبة الـ16 بين حدائق الحيوان عالميا وذلك لتنوع حيواناتها وما تحظى به من اهتمام، وما تشهده من مناشط فنية، إذ أصبحت موقعا جاذبا للمعارض الفنية والعلمية بالإضافة للنشاطات الخيرية، كما أنها مهد لتمتين العلاقات الدبلوماسية بين النمسا وحكومات وشعوب العالم وقصة الباندا النمساوي المولد صيني الجنسية لا تزال من القصص التي تفتخر بها الحديقة، على الرغم من رحيل هذا الباندا للصين منذ شهور.

ولن يفوتنا أن ننوه بأن للشونبرون مطعما يعتبر من أحسن مطاعم فيينا، ويحظى بسمعة راقية جدا بين سكانها الذين يقصدونه لتناول طعامهم في الأجواء ذاتها التي تناول فيها أباطرة الهابسبورغ أطعمتهم.

أما قصر فرساي فيحتاج الوصول إليه لنحو 40 دقيقة من باريس بالقطار السريع، هذا بالإضافة لباصات تقوم برحلات خاصة، وبالطبع يمكن الوصول إليه بالسيارات الخاصة، وعموما تستنفد زيارته ساعات أطول من زيارة الشونبرون.