نيروبي.. مدينة تنام وتصحو على زخات المطر

العاصمة الكينية منتجع مفتوح لعشاق الطبيعة والحياة البرية

نيروبي تعني بلغة قبائل الماسي مكان المياه الباردة
TT

الطريق من مطار جومو كنياتا إلى وسط العاصمة الكينية نيروبي عبارة عن شريط أسود ضيق محفور بعناية على بساط أخضر تحفه من الجانبين الأشجار الاستوائية الباسقة داكنة الخضرة، تطير من على أغصانها أسراب الطيور الملونة، فزعة من صوت محرك سيارة الأجرة، وهي تنهب الأرض باتجاه قلب المدينة، رغم أن المسافة لا تستغرق أكثر من نصف ساعة من المطار إلى مركز نيروبي، فإن حالة الزحام المروري الواضحة تضاعف من الزمن الذي تستغرقه هذه المسافة.

وسط نيروبي مزدحم ونابض بالحركة والحيوية، وذلك أمر طبيعي ومتوقع بالنسبة لعاصمة تعد اليوم أكبر مدن شرق أفريقيا، ورابع أكبر مدينة على مستوى القارة السمراء، بوصفها مركزا تجاريا وسياحيا جاذبا للزوار من مختلف بلدان العالم، ويزيد من حيوية نيروبي وازدحامها تعداد سكانها البالغ أربعة ملايين نسمه، أكثر من نصفهم يتركزون في المنطقة الإدارية والتجارية للمدينة بمساحتها البالغة 150 كيلومترا مربعا، إلى جانب أربعة ملايين سيارة، خاصة وعامة تجوب طرقاتها ليل نهار، جلها سيارات أجرة تقدم خدماتها بأسعار معقولة.

ولعل أول ما يلفت نظر الزائر إلى العاصمة الكينية أن نظام المرور ومقاود السيارات إلى اليمين على عكس نظم السير في الكثير من البلدان، وهو نظام موروث عن القوانين البريطانية، التي حكمت بها كينيا خلال الاحتلال البريطاني.

ونيروبي بشكل عام مدينة عصرية ذات إيقاع سريع، لكنها تتميز بشخصية فريدة تمزج بين ثقافات وألوان وسحنات شتى، كما أنها بحكم كونها مدينة استوائية ممطرة، تقع على ارتفاع 1660 مترا فوق مستوى سطح البحر، تتصف بجو معتدل وممطر طوال العام، ما يجعل منها وجهة ملائمة لطالبي الراحة والاستجمام، خاصة بالنسبة لعشاق الطبيعة والحياة البرية التي تحف ضواحيها، فضلا عن توفر مستوى جيد من الخدمات والتسهيلات على مستوى الفنادق والمطاعم والأسواق ووسائل النقل، يعزز من ذلك بساطة وطيبة معشر سكانها، وحفاوتهم بالزوار والحرص على خدمتهم، كل ذلك يؤهل نيروبي اليوم لتكون واحدة من أهم المقاصد السياحية في القارة الأفريقية.

والسيرة الذاتية للعاصمة الكينية تشير إلى أنها اقتطعت من جسم غابة استوائية كثيفة عام 1889م، كمجرد محطة على خط السكك الحديدية، الذي كان يربط أوغندا بمدينة ممبسة على الساحل الكيني، وكان لهذا الخط الحديدي أهميته الاستثنائية إبان الوجود الاستعماري في أفريقيا، لكن نيروبي التي بدأت محطة ومركز خدمات صغيرا تنامت حضريا بوتيرة متسارعة، وشهدت تحولات معمارية ومدنية دراماتيكية، جعلت منها مركزا سياسيا واقتصاديا وسياحيا حيويا، خلال أقل من قرن واحد، ما جعلها تنتزع لقب العاصمة الكينية من مدينة ممبسة التي حملت هذا اللقب لفترة طويلة.

وكلمة نيروبي مشتقة من كلمتي (انكاره، نيوروبي) وتعني بلغة قبائل الماساي أعرق القبائل الكينية، مكان المياه الباردة، وإن كانت تعرف أيضا بالمدينة الخضراء تحت الشمس.

ورغم انفتاح نيروبي وسعيها للأخذ بأسباب الحياة العصرية، فإنها على مستوى آخر تبدي حرصا على الارتباط بماضيها العريق، وتراثها الغني الفريد، الذي يعد أحد أهم مقومات شخصيتها، وعنصر الجذب والتفرد لديها، لذا تنتشر في أنحائها عدد من مراكز حفظ وتوثيق من رقص وأزياء تقليدية وآلات موسيقية وإيقاعية وصناعات حرفية ويدوية، تعمل هذه المراكز المتخصصة على إعادة إنتاج هذا الإرث وصياغته منتجا سياحيا يسهم اليوم في جذب أعداد كبيرة من السياح، فاحتفاظ الكثير من القبائل الكينية بنمط العيش التقليدي، يمثل فرصة لمشاهدة أنماط ثقافية تقليدية ربما انقرضت لدى كثير من الشعوب.

ويكتسب الرقص والأزياء التقليدية بألوانها المبهرة والحلي وأدوات الزينة المصنعة من مواد طبيعية، والأصباغ الطبيعية التي يلون بها الراقصون أجسادهم، وهم يرقصون على وقع الإيقاعات الأفريقية الحارة مرددين الأهازيج والأغاني المعبرة، أهم عناصر الجذب السياحي التي تروج لها السلطات الكينية، وتعول عليها في إكساب منتجها السياحي ميزة نسبية، لذا تنتشر فرق الرقص التقليدي في الأماكن العامة من حدائق ومطاعم ومتنزهات وساحات، تقدم رقصاتها مرحبة بالزوار، خاصة أفراد قبيلة الماساي بقاماتهم الفارعة وأزيائهم ورقصاتهم الإيقاعية المثيرة، ولعل ذلك ما يفسر تصدر صور أبناء الماساي الملصقات السياحية واللوحات الفنية واللافتات الإعلانية، كما يرجع الاهتمام بتراث هذه القبيلة ومحاولة بعثه وتوظيفه كعنصر جذب سياحي، إلى كون الماساي من القبائل التي تحتفظ إلى اليوم بطابع حياتها التقليدي، دون تأثر أو استجابة لأساليب الحياة المدنية.

ويجب أن لا يفوت زائر نيروبي فرصة زيارة حديقة الحيوان بوسط العاصمة التي تضم مجموعة نادرة من الحيوانات من نمور وأسود وزرافات وغزلان وقرود وزواحف وطيور، وإذا توفر لديكم الوقت بإمكانكم القيام برحلة سفاري إلى الغابات والمحميات الطبيعية القريبة من العاصمة، داخل سيارات خاصة وآمنة، تجوب المحميات وتمكنكم من مشاهدة الحيوانات الضارية وهي تطارد فرائسها من الغزلان وحمير الوحش والبقر الوحشي والجديان، فيما تحط الطيور بأمان على ظهور الأفيال والزرافات، كما تشاهدون النسور على ضفاف بحيرة «ناكورو» وهي تخطف بمخالبها الأسماك من عمق المياه، فهناك أكثر من 450 نوعا من الطيور التي تعيش على ضفاف هذه البحيرة، أبرزها طيور الفلامنغو التي ترسم بألوانها الزاهية لوحات مبهرة على سطح مياه البحيرة، غير أن رحلات السفاري تتطلب في العادة وقتا طويلا، وقد يحتاج الزائر للانتظار لعدة ساعات ليشاهد الأسود والنمور من مخابئها فالحيوانات المفترسة تنشط ليلا فيما تبقى في حالة ثبات طوال ساعات النهار، لذلك يفضل أن تنطلق رحلات السفاري مع ساعات الفجر الأولى حيث تكون الحيوانات في أوج نشاطها وحركتها.

ولا بد للزائر من العروج على مطعم «كارنفور» ليس ببعيد عن وسط المدينة لتناول وجبة تتكون من اللحوم بشكل أساسي مع بعض الخبز الأسمر والمقبلات، فإلى جانب لحوم الأبقار والأغنام، يقدم المطعم لحوم الغزلان والنعام والديك الرومي وحتى التماسيح، ويتوالى على مدى أكثر من ساعة تقديم هذه اللحوم، فترى النادل يحمل فخذ الغزال ساخنة على قضيب معدني، ويقوم بتقطيع اللحم إلى طبقك دون توقف، ويستمر تقديم بقية اللحوم بذات الطريقة، ومن تقاليد هذا المطعم أن النادل لن يتوقف عن تقديم مختلف أنواع اللحم لك، ما لم تقلب طبقك على المنضدة في إشارة للاكتفاء، وكل ذلك مقابل 30 دولارا فقط.

هذه هي نيروبي العاصمة الكينية التي تنام وتصحو على زخات المطر الاستوائي طوال العام وتجفف جدائلها الخضراء تحت أشعة شمس الظهيرة الدافئة، فيما تعبق في المساء بروائح القهوة والمانجو والأناناس، وترقص حتى الصباح على وقع الإيقاعات الأفريقية الصاخبة، فالأسواق هنا تغلق أبوابها بحلول المساء، فيما تبقى بعض المرافق الخدمية تعمل على مدار الساعة، وتشرع مرابع السهر والترفيه أبوابها حتى ساعات الفجر.