بمشاهد قبلية.. كرنفال «الزامبو» السياحي يعيد الحياة ويبث الفرح والجنون

تقليد سنوي تتوارثه مدينة الميناء اللبنانية منذ 100 عام

يمرحون ويهرجون في مهرجان « الزامبو» («الشرق الأوسط»)
TT

استقبل أهالي مدينة الميناء البحرية في طرابلس الصيام عند الطائفة المسيحية، بتقليد سنوي قديم يعرف بكرنفال «الزامبو». وحدها الميناء بين كل مدن العالم لا تزال تحافظ على هذا التقليد، الذي أمسى تظاهرة احتفالية تتكرر كل عام لتعيد إلى أزقة المدينة المطلة على البحر الأبيض المتوسط والزاخرة بتاريخ عريق الحياة، بمشاهد بدائية مليئة بصور وشخوص ووجوه تنتمي إلى قبائل وثنية قبل ولادة المسيح.

ففي الأسبوع الذي يسبق الصوم الشرقي، تكون فيه المدينة على موعد مع كرنفال «الزامبو»، الذي يشارك فيه العشرات من الشبان الذين يجتازون الشوارع والحارات، مطلقين بأصوات عالية الأغاني المعتمدة لدى القبائل الأفريقية، مع برنامج حافل يتضمن سلسلة «اسكتشات» مستوحاة من الأدغال، وذلك على وقع قرع الطبول.

و«الزامبو» هو تقليد عرفته الميناء منذ نحو المائة العام. لا علاقة له بمعتقدات دينية ولكنه مجرد تقليد أو عادة عرفها أبناء الميناء منذ القدم وتوارثوها عن أجدادهم، وما زالوا حتى اليوم يحافظون عليه مع محاولة لتطويره عاما بعد عام ضمن الإمكانات المتاحة.

يجتمع المشاركون بالمهرجان صباحا قرب «سينما فيكتوريا» حيث يبدأون بدهن أجسادهم باللون الأسود المصنوع من مادة الفحم والمغرة، وبعضهم يستخدم اللونين الأحمر والأصفر الذهبي اللامع للتميز وإضافة روح المرح أكثر. ينطلقون وهم يرتدون تنانير ورقية قصيرة ملونة، ويضعون قبعات مختلفة القياسات من القش والريش. ويحملون بأياديهم عصيا، وهناك من يرتدي أشكال حيوانات كالدببة والغوريللا للفت النظر وتسلية الأطفال الذين يُبهرون بمشاهد ضاحكة وغريبة لا يألفونها كل يوم.

بعد الانتهاء من التحضير عند الساعة الثامنة والنصف صباحا تبدأ رحلة المجموعات «البدائية» بالتجمع وترتيب الصفوف، حيث يحتشد أهالي الميناء وطرابلس وأعداد أخرى من مناطق لبنانية مجاورة وبعض السياح الذين صاروا يعرفون موعد الكرنفال ويأتون خصيصا إلى لبنان لمشاهدته والمشاركة به. ففي ساحة «حي الخراب» يطلق الشبان صراخهم وهم يرددون: «زامبو.. زامبو.. كوي بوي». وهذا الهتاف متوارث منذ عقود ويعرفه الكبار والصغار في المدينة التي تتميز بيوتها بحميميتها وقربها من البحر وبحجارتها الباردة.

يجوب المشاركون بين الأزقة التي تفوح من حدائق بيوتها الواطئة رائحة الفل حيث ترتفع شجيراتها على أسوار البيوت وتعطي للسير فيها متعة خاصة. يمضي المشاركون في رقصهم وهرجهم ويولولون كالهنود الحمر مرددين أغنيات غريبة مع رقصات أفريقية ممزوجة بشيء من الحركات الغربية الحديثة حيث يرقص الشبان رقصات الهيب هوب والروك رغم لباسهم الأفريقي. وهنا تأتي حداثة المهرجان. إذ جدد الشبان والمنظمون له رقصاته لتلاءم شباب العصر وأهواءهم ولتناسب ذوقهم الموسيقي وأزياءهم التي طوروها لتصبح أكثر فكاهة وقربا من عصرهم، حيث تتميز بكثرة الألوان وغرابتها وبعضهم صار يفضل أن يكون لباسه شبيها بلباس «الليدي غاغا»، حيث بدا بعض الشبان والفتيات بلباس المغنية الأميركية المشهورة لإضفاء بعض من الغرابة على الاحتفال. جاد العبد قال: «ارتديت لباس الليدي غاغا لأؤكد أن الاحتفال عصري ويلامس حس الشباب». أما شانتال سرور التي تجولت وهي ترتدي كعبا عاليا غريبا وتضع نظارات ذهبية كبيرة وتضع على رأسها شعرا مستعارا من لون الفوشيا فقالت: «قررت المشاركة بطريقة مميزة غير مألوفة». وبسبب غرابة لباسها لم تفلت شانتال من دهشة الأطفال الذين صاروا يتجمعون قربها.

هناك يتجمع هواة التصوير من السياح القادمين من مناطق لبنانية وبعض الدول العربية والأجنبية، لالتقاط صور للفتيان الذين يحاولون لفت انتباه المصورين بضحكاتهم الهستيرية، ولا يفلت أحد من عبثهم وهم يتمازحون بتلطيخ المارة والواقفين بالطرقات لمشاهدتهم باللون الأسود حيث يحمل كل واحد منهم إسفنجة مشربة بخليط مائي من اللون الأسود.

بين الأزقة يصبح كل واحد مشاركا بالطقوس ولو «بخربشة» خفيفة يحتفظ بها إلى حين عودته إلى البيت. لكن رغم ذلك يبقى الكثيرون يصورون بهواتفهم وجوههم ويضعونها على «الفيس بوك» وملامحهم مليئة بالفرح، «وهنا يكمن مضمون لذة المشاركة»، كما يقول جمال نجار (22 سنة).

توفيق عجوز من مواليد 1925 كان يشارك بالكرنفال في فتوته وشبابه، يتحدث عن ذكريات عتيقة للكرنفال فيقول: «أسست مع بعض رفاقي فرقة موسيقية وضمت آلات كالعود والكمنجة والطبل والأكورديون والبزق والناي، وكنا نشارك في فعاليات (الزامبو) مسلمين ومسيحيين، كما كانت هناك ثلاث فرق أخرى تشارك معنا في إحياء (الزامبو). لباس المشاركين لم يكن موحدا، بل كان كل منا يرتدي ما يراه مناسبا من لباس تنكري، وننطلق مجموعات نغني ونرقص أثناء تجوالنا في شوارع وأزقة الميناء على مدى أسبوع، وكنا نتعارف على تسمية ما نقوم به بـ(اللعوبة)، أي ما يشبه الكرنفال».

يؤكد توفيق أن أشكال الرقص وأنواعه لم تكن محددة، فيقول: «كنا نرقص العربي والأجنبي ونبتكر رقصات عفوية خاصة بنا، حتى إن البعض كان يؤدي رقصات قوقازية وهي عادة تكون مع السكاكين مع رقصة تركية كانت تسمى (زيبالي)». يشير توفيق إلى أن تاريخ «الزامبو» في الميناء يعود إلى وجود فرقة سنغالية عسكرية ضمن وحدات جيش الانتداب الفرنسي، كانت تقيم احتفالا على الطريقة الأفريقية قبل أسبوع الصوم، وكان أبناء الميناء «يتفرجون» عليهم وهم يتجولون راقصين بألوان بشرتهم السوداء الداكنة والمطلية بمختلف الألوان الزاهية، ومع الوقت بدأ الشباب يقلدونهم، مع ترداد عبارة «زامبو زامبو»، التي كان السنغاليون ينطقونها خلال احتفالاتهم. ويضيف أن «العسكر السنغالي غضب لتقليده فاشتكى للقيادة الفرنسية التي حظرت على شباب الميناء القيام بذلك إلا داخل المنازل وفي داخل الحارات».

ويوضح توفيق أن الألبسة التنكرية المرتبطة بالكرنفال تطورت وأصبح المشاركون يستأجرونها من عند «قيصر عامر» في بيروت قبل أن يفتتح فرعا له في ساحة التل بطرابلس، وكانت الأجرة على أساس استعمالها لمدة أسبوع فقط تعاد من بعدها مغسولة مكوية له».

يقول توفيق إن الاحتفالات توقفت خلال فترة الحرب الأهلية، لكنها عادت أوائل التسعينات. وأكد على أن إطار نشاطاتها توسع، عبر المشي في الشوارع والطرق على أبواب المنازل التي تفتح للاستماع إلى غناء المشاركين ومشاهدة الرقصات، وبعضهم صار يسهم ماديا، وهو نوع من الدعم يجمعه المنظمون على مدى الأسبوع ويقومون بصرفه على سهرة في أحد المطاعم.

يقول منظم الكرنفال بشارة حسن إن «المهرجان يبدأ بحفلات ليلية جوالة في شوارع الميناء القديمة، حيث يتنكر الأولاد بأزياء منوعة لينتهي يوم الأحد صباحا بـ(مسيرة الزامبو) الشهيرة، التي يتنكر فيها الشبان بأزياء أفريقية ويطلون أجسادهم باللون الأسود ويرددون عبارات مثل (حي وموتو) الأكثر تردادا، بينما يحاول (الشامان) إحياء (الميت)، بينما يردد المتحلقون حوله (زامبو زامبو) ليصبح الصراخ هستيريا عندما يفيق الميت من سباته ويحيا من جديد». ويضيف حسن: «للمتفرجين حصة من المرح أيضا حيث (يدهنون) بدورهم من المشاركين باللون الأسود».

ويقول بشارة إن أكثر ما يميز تطور المهرجان هو إدخال مشاهد تمثيلية من قصص الخرافة التي اكتسبوها في الثقافة الشعبية مثل نزع الأرواح من قبل متوحشي الغابات، حيث بدا حامل للرمح المثلث يغرزه في صدور المنبطحين أرضا، فتدخل لعبة الدخان لتعبر عن زهق الروح، وخروجها من الجسد.

ويختلف بشارة حسن على أصول المهرجان إذ يقول: «إن المهاجرين الأوائل من المدينة إلى البرازيل أرادوا بعد عودتهم إلى الميناء إحياء ما يشبه كرنفال الريو، فنظموا (الزامبو)»، بينما يقول حبيب أروادي إن العكس هو الصحيح، وإن اللبنانيين المهاجرين إلى البرازيل أخذوا معهم تقليد «الزامبو» إلى بلدهم الجديد ليصبح لاحقا مهرجان الريو.

اللافت هو الشبه بين مهرجان مدينة الميناء و«الأبوكرييس» اليوناني الذي يقام في اليونان قديما، ويرجح أن يكون قد أتى به المهاجرون اليونانيون الكثر الذين سكنوا مدينة الميناء منذ ما يزيد على قرن من الزمن. ويمثل المهرجان وسيلة للتسلية الشباب المشاركين، حيث يتاح لهم التعبير عما يرغبون فيه علنا، فيكتبون تعابير على أجسادهم، كشعاراتهم وأسمائهم الخاصة، وعنوان البريد الإلكتروني، «ربما قد أستطيع أن أتواصل مع فتاة ما»، بحسب رامي (18 سنة). ويمحى كل هذا مع انتهاء المهرجان بـ«غطسة» في مياه البحر الباردة لإزالة الألوان عن الأجساد. البيرتو روحانا يقول إن مشاركته هي للتأكيد على استمرار عادة وتقليد تربوا عليه ويدخل الفرح إلى قلوب الناس. تتغير الوجوه وتتنوع من سنة لأخرى، بينما يبقى سيمون الرزي يحمل «التنكة» التي تجمع فيها التبرعات على الطريق أثناء المسيرة ليبقى أمين صندوق «الزامبو» منذ 1977.

يتطلع أهالي المدينة ومنظمو الاحتفال إلى أن يتحول الكرنفال إلى مهرجان سياحي عالمي يمتد لأيام ويستقطب السياح من لبنان وخارجه. ويؤكد حسن أن هناك تنسيقا مع البلدية لتحويل هذا المهرجان المحلي إلى مهرجان عالمي. وطالب البلدية ووزارة السياحة بأن يهتموا بالمهرجان والعمل على تطويره وتوفير الإمكانات اللازمة ليصبح عالميا.