متحف تدمر الوطني.. ومعروضات تصيبك بالدهشة

ساعتان فيه لا تكفيان

TT

قد تشعر في داخلك بشيء يمكن تفسيره بأكثر من معنى وأنت تتجول في أوابد مدينة تدمر التاريخية الشهيرة عاصمة البادية السورية، وهذا أمر طبيعي كونك تعيش بين معالم مملكة استثنائية أسستها ملكة استثنائية عاشت فترة زمنية غير عادية رغم قصرها حيث الزمن الروماني الكاسح في ذلك العصر.. ولكن الشعور الوحيد الذي سينتابك ليس له سوى تفسير واحد وهو الدهشة وأنت تتجول في أروقة وحدائق متحف تدمر الوطني الذي يحتفل القائمون عليه في هذا العام 2011 بذكرى عيده الخمسين حيث تأسس في يوم 6 أغسطس (آب) من عام 1961 في مدينة تدمر العصرية وفي وسط الساحة التي أخذت اسم ملكتها الرائعة زنوبيا في مبنى من طابقين يواجه مبنى بلدية المدينة. ومما لا شك فيه فإن شعور الدهشة الذي ينتاب كل من يزور هذا المتحف الرائع ينبع من تلك المقتنيات التي يعرضها في قاعاته القليلة التي تضيق عن استيعاب آلاف المكتشفات التي يعثر عليها كل عام في مدينة تدمر الخالدة وباديتها الشاسعة، ورغم ذلك فكفيلة تلك المقتنيات المعروضة بأن تقدم لك بانوراما لتاريخ وعراقة هذه المدينة والمملكة الحلم وملكتها الأسطورة زنوبيا.

الوصول إلى المتحف: زيارة المتحف ممكنة في أي يوم من الصباح وحتى ساعات المساء حيث لا يوجد يوم عطلة أسبوعية والوصول لمتحف تدمر الوطني سهل جدا خاصة لمن يكون قد أنهى جولته في المدينة القديمة ومعالمها المتنوعة وقلعتها الجميلة المطلة على واحة وأوابد تدمر والمسماة قلعة فخر الدين المعني، فبعد ساعات من التجول بين هذه الأوابد لا بد عزيزي السائح والزائر أن يكون ختام زيارتك مسكا (كما يقول المثل الشعبي) والمسك هنا زيارة متحف تدمر الذي يمكن الوصول إليه سيرا على الأقدام وستستغرق زيارة المتحف نحو ساعتين على الأقل لتتمكن من الاستماع بمشاهدة جميع معروضاته وبمنظر حديقته الجميلة التي تحولت هي الأخرى لمتحف هواء طلق.

اطلب بطاقة الدخول من استعلامات المتحف على بابه الخارجي وهي بقيمة 3 دولارات، في المدخل الخارجي للمتحف سترى «أسد تدمر» المكتشف في معبد اللات عام 1977 وهو يرمز للربة العربية اللات كربة للحرب وكان الأسد رمز القوة الذي ينفذ قوتها وعلى يده اليسرى كتابة تدمرية تقول: «أن الربة اللات تبارك كل من لا يسفك الدم في المعبد» وهذا يعني حق اللجوء إلى المعبد فمن دخله فهو في سلام وتعود منحوتة أسد تدمر إلى القرن الأول قبل الميلاد ويجسد - كما يقول الباحث الأثري خالد أسعد مدير آثار تدمر السابق - التقاليد العربية في فنون نحته وما يرمز إليه، بعد ذلك لا بد أن تشاهد وأنت تدخل البهو الداخلي للمتحف كهفا مصنوعا قبل 47 عاما يمثل الحياة في الكهوف في عصور ما قبل التاريخ حيث يقدم تجسيدا للكهف الأصلي الموجود على مسافة نحو 22 كلم غربي تدمر الذي نقبت فيه مع عدد من الكهوف بعثة أميركية في عام 1955 وتابعتها بعثة يابانية في بداية سبعينات القرن الماضي وكشفت عن بقايا عضوية وأدوات صوانية لإنسان العصر الحجري القديم والأوسط وسترى في الكهف (المقلد) نماذج الإنسان المعروف بالإنسان العاقل الذي لجأ إلى الكهف ثم بدأ تدريجيا يقترب من مصادر المياه حيث جذبه نبع أفقا التاريخي الشهير قرب تدمر وأسس بجانبه مساكنه البدائية.

التجول في قاعات المتحف: بعد زيارة الكهف انطلق لزيارة قاعات المتحف حيث سترى معروضات مدهشة حقا في طابقي المبنى التي تقدم لك بانوراما رائعة لمنجزات الفن التدمري من منحوتات وفسيفساء ومصنوعات ذهبية وبرونزية وفخارية وزجاجية وجصية كما سترى في جناح المتحف الغربي نماذج من الفن الإسلامي ونماذج من صخور البادية وخاماتها ومستحاثاتها وخرائط طبوغرافية لواحة تدمر وغير ذلك.

نبدأ جولتنا في قاعات المتحف الأرضية، ففي القاعة الأولى نرى مجموعة من الكتابات الدينية والتذكارية وهناك لوحة تحوي موجزا عن اللغة والكتابة التدمرية وإلى جوارها قاعدة تأسيس معبد بل المؤرخة في عام 32م وفي وسط القاعة مجموعة من المذابح النذرية المكتشفة بين أعوام 1947 و1978 في مدخل نبع أفقا، ولو نظرنا إلى جدار القاعة الجنوبي سنشاهد حاملة تمثال عليها كتابة يونانية، التمثال تقدمة من نقابة الدباغين وصانعي القرب في تدمر إلى (صاحب السمو حيران بن الملك أذينة عام 258م). نذهب إلى القاعة الثانية حيث نشاهد في وسطها مجسما لمعبد بل كما كان قبل تهدمه وهو من تصميم الفنان وفا الدجاني كما نرى في جدار القاعة الشرقي قوسا لربة الظفر المجنحة تحمل إكليلا من الغار وسعف نخيل وهناك لوحة لكاهن يولد من صدفة وهناك لوحة ذات إطار مزخرف تضم تمثال «إله الفصول والمواسم» ومحرابا صغيرا وفي أسفلها عدة نسور توحي بأنها تحملها وفي الأعلى نسر يفرد جناحيه، فيما جدار القاعة الغربي يضم أفاريز من الزخارف النباتية والهندسية تعود إلى معبد بل القديم في القرن الأول قبل الميلاد. نتوجه بعد ذلك للقاعة الثالثة من المتحف لنشاهد معروضاتها التي هي عبارة عن مجموعة من النحت المدني الذي كانت تماثيله تزين شوارع المدينة ومعابدها وأعمدتها التذكارية تخليدا لشيوخ تدمر وفرسانها ورؤساء قوافلها وهجانتها ووجهاء المدينة وتجارها وهي تماثيل بالحجم الطبيعي حيث يرتدي أشخاصها الملابس المحلية التدمرية وهي عبارة عن ثوب طويل فوقه عباءة تلتف حول الكتف والشخص ينتعل صندلا أو هناك من يرتدي قميصا وسروالا مطرزين بخيوط ذهبية أو فضية أو من القصب وهو اللباس المستورد من بلاد فارس للطبقات الميسورة في المدينة، وفي جدار القاعة الغربي هناك لوحة نحتت عليها سفينة وربانها كانت تنقل التجارة ما بين ميناء تدمر في ميسان على الخليج العربي ومينائها على نهر الفرات والمسمى دورا أوروبوس أو الصالحية، تعرفنا اللوحة النادرة على أسماء بعض التدمريين الذين كانوا يمتلكون سفنا في الخليج العربي والمحيط الهندي وعلى الجدار الجنوبي من القاعة نشاهد لوحة تضم ضابطا وبعض الجنود الذين يحفظون الأمن على الطرق التجارية مع إبلهم وخيلهم وأسلحتهم وهم ما يسمون الهجانة أو حرس الحدود. وفي الرواق الغربي من القاعة هناك لوحات منحوتة لبعض الأرباب التدمريين مجتمعين ومنفردين حيث بذل الفنان التدمري - كما يقول الباحثان الأثريان خالد أسعد وعدنان البني - جهدا في إضفاء صفتي الجمال والقوة على أربابه فصورها تقود العربات الحربية وتلبس الدرع وتشرع الرماح وتركب الجمال والخيول وتشهر السيوف وترمي السهام وتقف في صفوف أو تسير في المواكب، وفي وسط الرواق مجموعة من الخزائن التي تضم أواني فخارية وزجاجية وبطاقات الولائم الدينية يحملها المدعوون إلى المعابد في المواسم وعلى البطاقة صورة صاحب الدعوة وهناك مجموعة من السرج والمباخر الفخارية، كما تضم الخزائن مجموعة من المصنوعات البرونزية المختلفة والنقود الفضية والبرونزية والنحاسية والدنانير الذهبية التي تعود للقرنين السادس والسابع الميلاديين ومنها دينار للخليفة محمد المهدي من القرن التاسع الميلادي، ونشاهد في جدار القاعة الشمالي لوحة فسيفساء لأسكولاب رب الطب ورمزه الثعبان. ننتقل بعد ذلك للقاعات الثلاث المتبقية من المتحف نشاهد فيها مجموعة من السرر الجنائزية وتماثيل ومشاهد جنائزية عثر عليها في المدافن التدمرية لأسر معروفة ومنها أسرتا بولبرك وساسان التدمرية تعود للقرن الثالث الميلادي. كما يمكننا مشاهدة القاعة الجصية في المتحف وهي من أحدث القاعات المؤسسة فيه قبل أشهر وتضم مجموعة من المقتنيات والتماثيل الجصية التي عُثر عليها عام 1975م وذلك عند بناء فندق الميريديان بتدمر (فندق الديديمان حاليا) وذلك في قاعة مخصصة لها في متحف تدمر الوطني وذلك بهدف إظهار ما لهذه القطع الجصية من أهمية كبيرة في تطور الأساليب الفنية الزخرفية في مدينة تدمر الأثرية خلال عصر الازدهار.