دعوة لممارسة الهوايات البحرية في المياه اللبنانية

الجزر اللبنانية تسحر الأجانب بتعدد النشاطات فيها

ممارسة رياضة التزلج على الماء («الشرق الأوسط»)
TT

هكذا يجد رالف (27 عاما) الشاب الفرنسي القادم إلى لبنان، نفسه مذهولا أمام مشهد الجزر البحرية في ميناء طرابلس، المدينة الواقعة في شمال لبنان. ويسارع إلى التقاط صور فوتوغرافية لأناس تتمازج أجسادهم مع لون البحر وهم يتنافسون في التسلية. تعجبه الرحلات البحرية اليومية التي يقوم بها أصحاب المراكب الخشبية و«الفلوكات» في عرض البحر الفسيح.. فمع بداية فصل الربيع وانطلاق موسم السياحة الصيفي في لبنان، تكتظ هذه المراكب بالمتنزهين الآتين من مناطق لبنانية ودول عربية، ليستمتعوا بمشاهدة البحر في جو حميمي خاص.

تعرف رالف هناك إلى العم سركيس، وهو صياد سمك عتيق، وصار يجالسه يوميا قبيل انطلاقه بحثا عن السمك، ليعود ليلا ليبيعه في مسمكتي «أنوس» و«صيادي» اللتين تعتبران من أشهر مسامك المدينة. يسهر معه في مقاهي كل واحد منها يعود بناؤه إلى مائتي عام خلت، وفيه من ذكريات الصيادين ما تحفظه بعض الجدران من صور معلقة بلا عناوين.

استأجر رالف غرفة مطلة على شاطئ البحر، إذ يتكاثر وجود فنادق و«بانسيونات» قديمة، كالتي نشاهدها في الأفلام الإيطالية، بين أزقة الميناء وحاراته. فنادق تعتمد على سياح البحر، يستغنم أصحابها فرصة الطقس المشمس والحار في فصل الصيف ليستقطبوا الرواد، من زوار يقصدون مدينتهم للتسلية وتمضية عطلهم على بواخرها ومراكبها متنقلين بين جزرها، ومستمتعين برملها البني المائل إلى الاحمرار، وتصبح مكانا ملائما لممارسي هواية الصيد والتزلج فوق أمواجها الهائلة، والانتقال منها إلى مدن لبنانية أخرى كجبيل وصور وبيروت العاصمة، حيث يكون الصيف اللبناني واعدا ككل عام بمهرجانات سياحية «ثمينة»، إذ لا تقتصر وزارة السياحة في تفاعلها مع منظمي المهرجانات السياحية على إطلاق موسم سياحي بحري. وقد تم التأكيد على أهمية هذا القطاع مرارا على لسان وزير السياحة فادي عبود، وليس آخر ذلك في مؤتمر صحافي قال فيه إن «السياحة البحرية هي واجهة لإطلاق صورة لبنان». فالبحر لدى اللبنانيين له رمزية متعلقة بأجدادهم الفينيقيين، الذين ارتحلوا عبره ليطلقوا الحرف إلى العالم، وليوسعوا تجارتهم بالأخشاب والصدف الأرجوانية المستخرجة من عمق بحر وطنهم الزاخر بالتاريخ.

رالف صار كل صباح يتنقل مشيا على رصيف الكورنيش مستمتعا برذاذه المالح، ومستكشفا معالم هذه المدينة التي كانت يوما من الأيام مركزا لاجتماع سنوي لمدن يونانية تنتخب مجالسها التشريعية. مدينة يطل عليها البحر بكل شفافيته، تاركا في زائرها ملمسا رقيقا من مشاعر قد لا تتكرر. وتصبح في كل عام ملتقى لهواة الـ«جت سكي» الذين يستغلون وجود جزر مطلة عليها وتابعة لسلطة بلديتها لممارس هوايتهم، وهذه الجزر بمثابة محميات طبيعية تفتح أبوابها كل صيف أمام السياح وممارسي هوايات بحرية مختلفة لتحتضنهم ويضخوا في شرايينها الحياة بعد أن تكون مغلقة في باقي أيام السنة.

يمشي رالف ممسكا دفتره الأحمر، مدونا كل ما يشاهده، ليوثق تجربة «تستحق أن تحفظ في الذاكرة» وفق ما يقول. تسحره رؤية الصيادين وهم يجهزون شباكهم للذهاب في رحلاتهم ليسترزقوا ويكسبوا لقمة عيشهم وليطعموا أطفالهم في غرف صغيرة ورطبة داخل «خان التماثيلي» العائد بناؤه إلى 6 قرون مضت، والذي يبدو قبالة البحر وكأنه قصر غارق في التاريخ والزمن.

تجذبه مشاهد آسرة لبائعي الذرة والكعك و«غزل البنات» المنتشرة على طول الكورنيش، لتضيف إليه خصوصية أخرى غير موجودة إلا في البلدان العربية، حيث الجو الشعبي يطغى على نمط حياة الناس، فتبدو البساطة على رقتها تجذب السائح أكثر من مظاهر الترف التي تزين جزر العالم المنثورة في محيطات بعيدة.

رالف لم يأت إلى الميناء إلا بعد أن تجول في جبيل وصيدا وصور والتقط صورا مختلفة من أماكنها، لكن أكثر ما جعله يمدد فترة بقائه في لبنان هو تلك الجزر، حيث أتيح له أن يمارس هوايته في الـ«جت سكي»، التي يمتطيها كما يمتطي الحصان رياحا عاتية غير آبه لأي خطر. فهذه الهواية التي تطورت في لبنان لتصبح أحد العوامل الجاذبة للسياحة البحرية، تترك في نفس رالف شغفا غريبا. يقول «متعة خاصة أن تمارس هوايتك في مكان فسيح، وداخل عمق بحر صاف، وقرب جزر هادئة ورائعة ينتشر فيها ضجيج الناس الهاربين من حياتهم وروتينها القاتل».

تتحول تلك المساحة الزرقاء إلى أمكنة للمرح واللهو وممارسة رياضة التزلج والغطس والسباحة والصيد بمختلف أأنواعه. لا شيء هناك ينتمي إلى البر، رغم أن الجزر العائمة بهدوء فوق الماء توحي بأنها غيمة منفصلة عن كل محيطها مليئة بحياة وأصوات وألوان تمتزج بعضها بعضا مشكّلة فرحا لا متناهيا.

رالف ينظر عميقا إلى المكان ويقول إن «البحر في لبنان مختلف»، مضيفا «كل شيء في لبنان له روحه الخاصة. البشر هنا دوما يضحكون ويمرحون رغم كل ما يمرون به». تأخذه روح البحر بكل ضجيجها وهدوئها في آن. يفرح بأجواء البحر الممزوجة بشغف «لبناني» لا ينتهي، رغم كل ما يحصل في هذا البلد المضغوط سياسيا. فهذه عادة اللبناني أن يعيش كل لحظة بلحظتها ويمد فرحه إلى ضيوفه. يؤكد رالف أن حياة اللبنانيين تجعلهم متفلتين من كل قيود وضغوط الحياة ويستمتعون بلحظاتهم.

رالف شعر بأنه في إحدى جزر المالديف لروعة ما رآه هناك. صار يتأمل الأفق الأزرق بابتسامة رافقتها جملة فرنسية هادئة كطبعه «ما أروع المتوسط». لكن البحر المتوسط في لبنان له سحره الخاص، ونكهة الجمال فيه تسكن في تفاصيل جزره وشاطئه وموقعه القريب من الجبال الخضراء والمكللة بالثلوج ومن السهول الريفية العابقة برائحة حنين خافت.

لم يكن رالف يعرف أن زيارته إلى لبنان مع بداية موسم السياحة فيه، ستجذبه إلى هذا المدى الرقيق حيث اليخوت ترافقها القوارب الخشبية الصغيرة مركونة قرب الشاطئ. كان يخطط كما يقول لزيارة مصر و«شرم الشيخ» تحديدا، لكنه شعر بأن السياحة في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها مصر بعد انتهاء ثورة شبابها وتخبطها في إصلاحات ومظاهرات يومية لن تجعله سعيدا بزيارته، فقرر أن يزور لبنان «لأنه البلد الأول لدى الفرنسيين في الشرق»، يقولها وهو يضحك، ثم يردف قائلا «لبنان هو وجهة أي فرنسي وأوروبي لما يتمتع به من جمال وحريات وتنوع جغرافي، والأهم لبساطة مناطقه وتعددها».

ومع تطور السياحة البحرية في لبنان نمت محلات بيع المعدات البحرية. يقول حبيب مسلم، وهو صاحب متجر لبيع المعدات البحرية في جبيل، إن «بيع وتأجير معدات البحر ازدهرا في السنوات الأخيرة بعد أن تطور قطاع السياحة البحرية في لبنان. وبعد أن قامت وزارة السياحة بخطط فاعلة لتعريف السياح بمواقع بحرية لبنانية يمكنهم خلالها أن يمارسوا هوياتهم ويتمتعوا بالتحدي في عرض البحر عبر تنظيم مسابقات سنوية». وإلى جانب محلات بيع المعدات ازدهرت سياحة الأعراس «المائية»، أي تلك التي تقوم في عمق البحر. فهي حديثا أطلقت نوعا سياحيا جديدا في لبنان، وأصبح لها اختصاصيون يقومون بتدريب الزوجين وضيوفهم على فنون الغطس، حيث تقام مراسيم الزواج تحت مياه البحر.

إلى ذلك، تتنوع في سياحة البحر اللبناني المطاعم والفنادق والمراكز الخدماتية التي تستوطن قرب البحر أو على كورنيشه، حيث تقدم عروضا مميزة للسياح، وتوفر لهم خدمات بأسعار رخيصة وذات نوعية جيدة. يقول رامز أبو شقرا، صاحب مطعم بحري، إن «سياحة البحر تعتمد على المطاعم، إذ يروق للزائرين تناول أطعمة وأسماك وأعشاب بحرية، ليشعروا بأنهم داخل الـ(امبيانس) وأنهم لم يأتوا فقط لرؤية البحر، بل إنهم جربوا كل ما يتعلق به». ويؤكد أبو شقرا لـ«الشرق الأوسط» أن السياحة البحرية في لبنان سيكون لها مستقبل زاهر إذا بقيت على هذا المنوال، مشددا على أهمية تفعيل دور المؤسسات السياحية الخاصة ووزارة السياحة وتفاعلها مع السفارات الخارجية، من أجل تعريف أفضل بسياحة لبنان وبحره ومواقعه المميزة. وأمل أبو شقرا أن يعود لبنان «سويسرا الشرق» بكل ما للكلمة من معنى، لأن لبنان لن يقوم وفق ما يقول إلا بسياحته المزدهرة.