مدينة فوق سطح العراق

العمادية.. عمرها آلاف السنين وتتربع على قمة بارتفاع 1400 متر

بيوت معلقة في قمة العمادية
TT

للوصول إلى مدينة العمادية، (ئاميدي) حسب التسمية الكردية، يتطلب المرور بمجموعة مثيرة من الاكتشافات المتتالية، اكتشافات جمالية فرضتها طبيعة إقليم كردستان التي تفاجئ الزائر بجبالها الشاهقة الخضراء ووديانها السحيقة المؤثثة بالأشجار.. إن ثمة عين ماء تختفي هنا، أو شلالا يتحول صوت هدير مياهه إلى خلفية للمشهد الساكن، أو قمة جبل حمراء إلى جانب أخرى سوداء تعد مفاجآت لا تعلن عن نفسها بسهولة ما لم تذهب إليها بنفسك وتتنفس رائحتها أو تلمس صخورها، وهناك لا بد أن تمد يدك إلى عين الماء أو سيل الشلال البارد والصافي لتبلل روحك وتنعم بصفاء تلك الطبيعة وكأنك تضع توقيعك معلنا عن مرورك بهذا العالم الساحر بمفرداته.

ليس من باب الدقة أن تقول في أي مدينة من مدن كردستان: «أنا ذاهب، أو سأذهب إلى العمادية» بل يجب القول: «أنا سأصعد إلى العمادية»، فالطريق من مركز محافظة دهوك التي يتبع لها إداريا قضاء العمادية، وعلى امتداد 70 كيلومترا، يبدأ بالصعود إلى الجبال، جبل إثر آخر، ومع كل جبل ستكون هناك وديان وشلالات ماء وقرى مسترخية فوق الصخور وبينها، التي تآلفت مع الناس، أو الناس هم من تآلفوا معها.

70 كيلومترا من الاكتشافات المتواصلة وأنت تتجه نحو القمة مرورا بمصايف صنعتها الطبيعة، مصيف عند حافة جبل يحمل اسم (زاويته)، تنتشر فيه وعلى طول الطريق المقاهي التي تغذيها مياه الينابيع المنحدرة من أعلى الجبال، هذا المصيف يهيئك للوصول إلى مصيف سرسنك، واحد من أقدم المصايف العراقية، التي يقوم على كتف طريقها العام قصر الملك فيصل الأول، الذي بقي منتجعا ملكيا حتى آخر أيام الملك فيصل الثاني الذي اغتيل في يوليو (تموز) 1958 قبيل قضاء إجازته في هذا المنتجع، ولو كان قد بكر بهذه الزيارة ربما كان أنقذ حياته وحياة عائلته والعهد الملكي في العراق. وليس بعيدا عن القصر الملكي يقوم قصر الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وفي مقارنة لافتة نجد أن مساحة القصر الملكي أصغر بكثير من مساحة القصر الرئاسي الذي احتل قمة مرتفع محاطا بالآلاف من الكيلومترات المسورة التي تضم حدائق وبحيرة اصطناعية.. اللافت أيضا أن الناس هناك حافظوا على بقاء القصر الملكي بينما هدموا، عن عمد وانتقام، القصر الرئاسي.

نترك سرسنك، حيث الطريق ينعطف يمينا صعودا نحو القمة لنرصد ثمة قرى وبلدات تتناثر في الوادي الذي صار عند يسار المشهد، وبعيدا عن المرتفع الذي نرتقيه، ولنجد أنفسنا قريبين جدا من قمم محاذية وعالية لا يزال الثلج يكللها ببياض ناصع مثل نفوس السكان الأكراد الذين عرفوا بكرمهم ونبلهم ووفائهم، وقبل أن تدلف السيارة ذات الدفع الرباعي وبقوة محرك تمكنها من تسلق المرتفعات، من اليسار سيبهرنا مشهد مدينة العمادية التي تقوم فوق صخرة، فوق قمة جبل محاطة بالوديان من كل جوانبها، فما يفصلنا عنها وعن هذا الموقع بالذات هو وادي مصيف سولاف الذي وجدناه مزدحما بالسياح الذين جاءوا من جميع مناطق العراق لينعموا بأجوائه الباردة، وليسترخوا تحت ظلال الصخور التي جعلت منها المؤثرات الطبيعية أعمالا فنية تعكس تحديات عاشتها المنطقة بناسها وتاريخهم، صخور ينفلق منها الماء ويذهب إلى كل الاتجاهات ليبلل الهواء والبشر والأشجار والصخور ذاتها.

نتوقف في مصيف سولاف قليلا لنتأمل عن قرب، ومن جهة الوادي، تلك المعجزة الطبيعية التي أوجدت مساحة من الأرض فوق قمة تعلو لأكثر من 1400 متر عن سطح البحر ولتقوم فوقها مدينة العمادية، وما من زائر إلا ورصد هذه المدينة عن بعد وعن قرب، ومن الوادي المحاذي لجهتها الشمالية، ومن أي نقطة تتيح له فرصة الرصد والكشف عما تخبئه هذه المدينة من مفاجآت قبيل الوصول إليها.

إن مجرد التفكير بالصعود إلى العمادية يعد مغامرة شائقة، فالشارع الوحيد الذي يقود إليها يتلوى على سفح الجبل الذي تقوم فوقه مثل أفعوان جبار، ولم يقُد سيارته للمرة الأولى عليه إلا ينظر نحو جهة الوديان المحيطة بالجبل؛ إذ سرعان ما تحول مصيف سولاف والبلدات التي مررنا بها قبل قليل إلى نقاط صغيرة تغرق في ضبابية تحت الغيوم التي تعلو المدينة عليها، أو تكون بينها في غالبية أوقات الشتاء، لكن كاكه (الأخ حسب اللغة الكردية) بيشتوان، الذي يفخر بأنه يعرف كل نقطة من جغرافية إقليم كردستان، وهو هوليري (أربيلي نسبة إلى هولير أو مدينة أربيل) الأصل والنشأة، يمضي إلى القمة العالية بثقة المجرب والعارف بكل طرقات ومفاجآت المنعطفات الضيقة التي لا تمنح أي فرصة للمناورة أو التجاوز، ذلك أن عرض الشارع الذي نحتته الآليات يكاد يكفي لسيارتين فقط، ذهابا وإيابا.

ندخل العمادية (نحو 530 كم شمال بغداد) من إحدى بواباتها، حيث كانت فيها ثلاث بوابات، الباب الشرق، المعروف بـ«باب زيبار»، نسبه إلي منطقه زيبار التي يطل عليها وقد هدم عام 1938 عندما تم شق طريق السيارات إلى المدينة، والباب الغربي، وهو باب واسع مبني بحجر الحلان ويطلق عليه «باب الموصل»، و«سقافا» بفتح السين وعليه 4 منحوتات أصغر حجما من الإنسان الطبيعي، وتعود أغلبها إلى عصر «الفرثيين» سنة 148 قبل الميلاد (سنة 226 ميلادية)، ولا يستبعد أن تكون لملوك «الفرثيين» الذين حاربوا الرومان. وإلى الشرق يمتد طريق لقوافل الحيوانات، ومنه إلى كلي زنطه، مؤديا إلى مدينة أربيل التاريخية. وباب الباشا الذي يعلوه شعار الإمارة الذي هو شعار عائلة الباشا الحاكمة فيها حينئذ. ويمتد منها طريق يسمى كولانا قوجا، ومنه إلى كلي مزيركا، حيث يمتد شمالا ليصل إلى الحدود التركية وإلى مدينة جلميرك التاريخية في تركيا. وفي الغرب يوجد فيها باب الموصل، حيث يمتد منها طريق البغال إلى مدينة الموصل.

الزمن بقي جامدا، غير متفاعل مع هذه المدينة القائمة فوق سطح العراق لسنوات كثيرة، وهذا ما حافظ على بقاء الكثير من البيوت التي تحمل الطراز المعماري التقليدي للعمادية، بيوت مبنية من صخور الجبل، متقشفة في مساحتها، كون المدينة في الأصل بالكاد وجدت لها متسعا لتوجد لنفسها موقعا في هذه الجغرافيا الصعبة، وخلال تجوالنا في مركزها ودوراننا مع شكلها البيضاوي لم نعثر على قطعة أرض خالية أو متسع لناء ولو غرفة إضافية فوق هذه الصخرة العالية التي يطل أهلها، الذين يقرب عددهم من 8 آلاف نسمة، من منازلهم مباشرة على عمق وادٍ سحيق يحيط بكل جوانبها.

تتكون المدينة من 4 محلات هي: ميدان، وسردبكى، وحمام، وأيوم.. وبسب الرفاه الذي ينعم به الأكراد تحت إدارة إقليم كردستان، فإن الطرز المعمارية الحديثة غزت العمادية، كما تزدحم شوارعها القليلة بأنواع فاخرة وجديدة من السيارات ذات الدفع الرباعي التي تتمكن من تسلق المرتفعات وصولا إلى المدينة، ومن مركزها تتعرج الأزقة باتجاه حوافها المطلة على الوديان. وغالبية سكان المدينة حاليا هم من الأكراد الذين يدينون بالإسلام ومن النواحي التابعة للقضاء نواحي جامانكي وسرسنك وديرلوك بامرني.

ويستغرب الزائر للعمادية من سبب اختيار سكانها المؤسسين الأوائل هذه الصخرة - القمة - لتكون موطنا لهم، لكن عبد الله ئاميدي، ابن المدينة وباحث مهتم بتاريخ العمادية، يزيل الاستغراب حول واقع المدينة التي ترفض أن تكبر على الرغم من عمرها الطويل، وذلك «لعدم وجود مساحة فوق التلة الصخرية الكبيرة»، حتى تم شق الطرق إلى أسفل المدينة ووضعت مشاريع كثيرة هناك مثل المعهد الفني ومبانٍ لدوائر حكومية ودور سكنية حتى توسعت العمادية (ئاميدي) الآن.

وتؤكد المعلومات التاريخية عن العمادية أنها كانت عاصمة لإمارة بهدينان الكردية التي كانت تتبع بالولاء للدولة العثمانية وكانت تدفع الضرائب لها. يومذاك كانت تحكمها عائلة ما زالت قبور بعض أفرادها في المدينة، ومنهم السلطان حسين، الذي يوجد مرقده المبني مع قبته جنوب شرقي المدينة إلى الجنوب من مدخل السيارات لها، وتسمى المقبرة؛ إذ تحتفظ بقبابها الحجرية ومعمارها الفريد، ثم بالقرب منها تمثال الفنان الفلكلوري الكردي من أهالي المدينة حمكي توفي، وتقودك الأزقة في اتجاهات كثيرة؛ حيث تتجه غربا إلى أقدم معابد المدينة التي تعود للعصر المثرائي الأول (الألف الثاني قبل الميلاد) كما يشير عبد الله ئاميدي.

إن أبرز ما كان يميز إمارة بهدينان التي كان مقرها في العمادية هو أنها كانت تحمي وتضم مختلف الأديان فيها؛ إذ كانت ولا تزال مسكونة من المسلمين والمسيحيين، كما سكنها اليهود أيضا لغاية منتصف القرن الماضي، وأهم آثارهم فيها هي بقايا قبر النبي حزقيل، ويسمى لدى العامة مقام حزاته. وهذا كان أحد أسباب محاولات غزو أمير ولاية سوران في راوندوز لها بدعوى نشر الإسلام فيها وقد نجح في احتلاها وقتل أمير اليزيدية الذي كان تحت حماية والي العمادية.

العمادية كانت تقع على طريق الحرير التاريخي، وقد تم تعبيد أغلب أجزاء ذلك الطريق سنة 1914 لكي يكون سالكا للسيارات، كما تضم المدينة عددا من الآثار التي تعود للحقبة الآشورية، إضافة إلى آثار من الحقبة العربية الإسلامية؛ حيث توجد نقوش بالخط العربي الكوفي وآيات قرآنية على بعض أبواب المدينة، كما تضم البلدة كنيسة أثرية وأنقاض كنيس (معبد) يهودي، إضافة إلى ذلك توجد قلعة العمادية التي تقع شمال غربي المدينة، كما توجد في المدينة بقايا وآثار جامع قباد التي هي بقايا مدرسة قباد، وتقع في الوادي شمال المدينة وكانت مدرسة لتدريس الفقه الإسلامي. وكانت تضم غرفا لمبيت الطلبة أيضا، وسميت باسم الأمير قباد الذي أنشأها، وهو أحد أحفاد السلطان حسين. وكانت المدرسة على صلة مع جامع الأزهر في أوائل القرن الماضي، وهذا ما شجع العراق للطلب من منظمة اليونيسكو التابعة للأمم المتحدة إدراج مدينة العمادية ضمن سجلات التراث العالمي.