الصويرة تجذب السياح عبر «موسيقى كناوة» وذكريات الهيبيين

مدينة تنام إلى ما بعد منتصف النهار.. هي البحر والنورس والسمك والتاريخ والموسيقى والصمت

مدخل المدينة العتيقة
TT

يتوسط مقهى «غلاسيي» المدينة القديمة في الصويرة. سياح ومغاربة وفضوليون يأتون إلى هذا المقهى في منتصف النهار. حين ينهمر ضوء الشمس، وتدب حركة الناس في أزقتها. يأتون إلى هنا لتناول وجبة إفطار.

يقع المقهى في زاوية تتقاطع فيها أربعة أزقة. ليس مكانا رحبا، لكنه يتسع لزبنائه. معظمهم من السياح. طاولات رصت في ساحة ضيقة أمام المقهى. في الداخل توجد طاولتان، حول كل طاولة ثلاثة كراسي صغيرة. كثيرون يفضلون الجلوس في هذا المقهى بحيث يمكن أن يتأملوا المارة. يتابعون بداية زحام في مدينة تتثاءب في الفجر وتستيقظ بعد منتصف النهار. السياح أكثرية والمغاربة أقلية. سياح من جنسيات مختلفة. لكن أكثر ما يلفت الانتباه وجود سياح أميركيين. معظمهم من الشباب. يحمل السياح كتبا يطالعونها، أثناء تناولهم وجبة الإفطار، أو ينهمكون في العمل على أجهزة كومبيوتر محمولة.

يعمل في المقهى نادل في عقده الخامس. يتحرك بهمة ونشاط، لكنه على غير عادة الندل، لا يتحدث.

الندل والحلاقون يميلون عادة إلى «تجاذب أطراف حديث»، في بعض الأحيان يحتكرون الحديث وأطرافه. لكن نادل مقهى «غلاسيي» يعمل ويتحرك صامتا. طرحت عليه السؤال أكثر من مرة: لماذا يفضل السياح هذا المقهى دون سواه؟ يبتسم ولا يجيب. تعمل معه سيدة. تقف خلف صندوق الأداء. هي الأخرى صامتة. ترتدي جلبابا مغربيا أنيقا. كان ذلك هو المدخل للحديث معها. عندما سمعت الإطراء لجلبابها افترت شفتيها لحظة كأنها تريد أن تبتسم، لكنها لم تفعل.

جاءت شابة أميركية نضرة، لتتناول إفطارها في «غلاسيي». من ميزات الأميركيين، خاصة إذا كانوا سياحا، ميلهم للتواصل. قالت الفتاة إنها اسمها «أوليفي ادواردز» من كاليفورنيا. طالبة جامعية. تزور الصويرة مع مجموعة شباب أميركيين، لحضور سهرات «مهرجان كناوة للموسيقى»، والتجول في الصويرة لأنها تجد فيها « مذاق السكينة والهدوء في النهارات، وموسيقى شجية في الليل».

كانت تتحدث، وتنقر على لوحة مفاتيح الكومبيوتر، تضع سماعة على أذنها، تستمع إلى جهاز إلكتروني صغير يبث أغاني، وتلتهم إفطارها في الوقت نفسه. هي من تلك الشريحة التي تقبل على الحياة بمرح وشغف وحب استطلاع. تبدو في عجلة من أمرها. تأكل. تتحدث. تستمع للموسيقى. تعمل على جهازها المحمول.

قالت إن لديها موعدا مع مجموعتها لزيارة شاطئ «درب السلطان المهدومة» وهو الشاطئ الذي كان مرتعا ومكانا مفضلا ذات أيام وذات سنوات، لحشود من الشباب الهيبي. تقول «اوليفي» إن بعض رفاقها في هذه الرحلة السياحية، مهتمون كثيرا بالتراث الذي تركه «الهيبيون». زادت قائلة «بعضنا جاء خصيصا لهذا الغرض».

قالت إنهم يسكنون في ما يسمى «الرياض» بالمدينة القديمة. هي إقامات سياحية صغيرة، يشعر من يقيم فيها بأنه يعيش أجواء أسرية مع الآخرين سواء كانوا سياحا أو شبانا يعملون في هذه «الرياض». بعض تلك «الرياض» تضم معارض تشكيلية، إذ الصويرة أكثر مدينة ربما في العالم العربي وأفريقيا يأتيها تشكيليون من مختلف الأصقاع للرسم. هي كذلك لأنها تعرض مفاتنها التي تستهوي الرسامين على قارعة الطريق.

كثيرون يفضلون «الرياض» لأن أسعارها معقولة، بين 100 و200 درهم (ما بين 12 و25 دولارا) في الليلة. غرفة مريحة. صالونات استقبال تزينها لوحات تشكيلية، ونباتات الظل المتسلقة. النزلاء يمكنهم طهي وجباتهم بأنفسهم إذا رغبوا.

بعض هذه الإقامات سكن بها في الستينات وحتى منتصف السبعينات، مجموعات من الهيبيين خلال سنوات ازدهار تلك الموجة. ورواج «فلسفتهم»، قبل أن تذبل أفكارهم كما تذبل الزهور وتنحني وتسقط.

على الرغم من أن موجة الهيبيين ظهرت في ستينات القرن الماضي، فإن كثيرين من الشباب باتوا يحنون إلى تلك الموجة التي شغلت العالم بل وأشعلت فيه أسئلة حارقة. ظهرت تلك الموجة في أميركا، ثم انتشرت في العالم.

تمرد أولئك الشباب على قيم الطبقة الوسطى في الغرب، وكانوا يفضلون أن يعيشوا ضمن مجموعات، في حرية كاملة، عارضوا حرب فيتنام بلا هوادة، كانوا ضد «الوجبات السريعة»، يعشقون الموسيقى، يرتدون ملابس رثة، يطلقون شعورهم، ولا يكترثون للنظافة. كانت الحياة تعني لهم «دنيا بلا قيود اجتماعية، ومعاني جديدة للعيش».

كان شعارهم هو «أن يعيش الناس في سلام وهدوء، وعليهم أن يتعلموا ويعرفوا». لكن انتشار تعاطي المخدرات بينهم، جلب لهم الكثير من الانتقادات. عبر بعضهم الحاجز الغامض الذي يفصل بين العقل والجنون، بين التعقل والفوضى. أصل كلمة «هيبي» في الإنجليزية التي اشتق منها اسم الظاهرة «هي شخص يدرك أو يعرف». تلك فترة كانت مطبوعة بالصخب الفكري، لذلك وجدت فلسفتهم رواجا.

الآن تجذب الصويرة، التي كان يأتيها كثيرون من الهيبيين إلى أن تقرر إغلاق شاطئ «درب السلطان المهدومة»، مجموعات من الشبان الأوروبيين والأميركيين، يريدون أن يعرفوا كيف كان يعيش أولئك الرافضون قبل أزيد من أربعة عقود، ماذا كانوا يفعلون، ولماذا اختاروا الصويرة؟ هذه المدينة تقع على الأطلسي (جنوب الدار البيضاء) وتعرف باسم «مدينة الرياح وطيور النورس» تشتهر بالسمك المشوي، ويتسم سكانها بقدر وفير من التسامح.

هكذا راحت الصويرة تنعش سياحتها، بفضل الموسيقى والحنين إلى أجواء الهيبيين.

«الموجة الجديدة» من الهيبيين، الذين صارت تعج بهم الصويرة بالتزامن مع «مهرجان كناوة» يرتدون في الغالب ملابس من منسوجات الصناعة التقليدية المغربية، ملابسهم بعيدة عن التأنق، الفتيات منهن شعرهن يتناثر ذات الشمال وذات اليمين بلا ترتيب، وجوههن غفل من آثار مساحيق التجميل والأصباغ. من الواضح جدا أنهن لا يكترثن لمظهرهن.

يرسم الشباب أشكالا طريفة على رؤوسهن، يرتدون ملابس قصير، يحملون في الغالب إما كتابا أو كومبيوتر أو جهازا إلكترونيا صغيرا لبث الموسيقى، وفي بعض الأحيان آلة موسيقية، غيتار أو ما شابه، يضعون حقائب على ظهورهم.

هؤلاء الشباب يستيقظون متأخرا، يأتون إلى مقهى «غلاسيي»، أو مقاهٍ أخرى في «ساحة مولاي الحسن». بعضهم لا يتردد في أن يتوسدوا حقائبهم تحت أشجار وارفة في الساحة يتفيأون ظلالها.

في العصر، قبل المغيب، يتجهون نحو الميناء يأكلون السمك المشوي. في الليل يسهرون حتى الفجر مع «موسيقى كناوة» وينتقلون بعدها إلى أزقة المدينة القديمة قرب السور الذي يفصلها عن البحر، هناك يعزفون، ويسمع بعضهم هدير البحر وجلبة تحدثها طيور النورس البيضاء، يتأملون الأمواج المتكسرة.

إنهم يأملون أن يمزجوا بين ذكريات المكان حيث حياة «الهيبيين الأوائل»، والزمان حيث ثمة حاضر آخر. حاضر الشبكات الاجتماعية والإبحار في شبكة عنكبوتية ترتاد كل الآفاق. يجلسون القرفصاء فوق سور المدينة. تتكسر تحت أقدامهم أمواج بحر الصويرة. إنه نوع آخر من السياحة. سياحة يستهويها التاريخ. سياحة تحاول استرجاع التاريخ. سياحة حنين إلى تاريخ مضى. ربما يعود بصورة مختلفة.

في العصر تزدحم أزقة الصويرة بناسها وسياحها. بعض من يسيرون في الزحام من السياح، يأملون تناول وجبة في واحد من تلك المطاعم الصغيرة بطاولاتها الخشبية الوطيئة، ووجباتها التي تعتمد السمك مادة أساسية.

بعضهم يريد أن يشتري مصنوعات خشبية صنعت من خشب العرعار، أو ثيابا صوفية وقطنية مزركشة. الحوانيت الصغيرة تحولت مع هذه الثياب إلى زفة ألوان.

بعضهم يبحث عن شرائط «موسيقى كناوة». يطلق في الصويرة على فناني هذا النوع من الغناء «المعلمون». «موسيقى كناوة» هي في الأصل موسيقى أفريقية. هي موسيقى «العبيد» الذين نقلوا قسرا في زمن مضى إلى أصقاع شتى منها المغرب، ربما من هنا اهتمام بعض الأميركيين السود بهذه الموسيقى، وهو ما يفسر مجيء بعضهم إلى الصويرة. إنهم يجدون رابطا بينها وبين موسيقى الجاز، التي كانت هي أيضا موسيقى «العبيد» في مزارع القطن في البراري الأميركية.

«موسيقى كناوة» حلوة ومريرة، فرحة وحزينة، متفائلة ويائسة.

من أبرز مطربي هذه الموسيقى «المعلم محمود غينيا». صوته يأتي دائما شجيا مؤثرا وكأنه يرسل رسالة مودة تضمد جراح أولئك «العبيد» الذين يرقدون تحت التراب. صوت ينبعث من كل زوايا المدينة القديمة. السياح يشترون تسجيلاته، على الرغم من أنهم لا يفهمون كلماته.

بعض السياح لا يبحثون عن أكل أو صناعة تقليدية أو تسجيلات موسيقية، بل يكتفون بالتفرج على الزحام.

هؤلاء السياح، وعلى الرغم من أن البحر يمتد على امتداد الصويرة، يذهبون نادرا إلى الشاطئ. إنهم يزورون الصويرة من أجل الفرجة والتاريخ والموسيقى. منذ سنوات راهن اندري ازولاي ابن المدينة، على الموسيقى. ولعل من المفارقات أن والدة ازولاي كانت قابلة في أحياء المدينة القديمة، وهو يحاول الآن توليد أفكار لإنعاش مدينته.

على الرغم من أن المدينة الحديثة، خارج الأسوار، انتعشت بفضل السياحة، حيث شيدت فنادق ومطاعم، فإن معظم السياح يفضلون المدينة القديمة وأزقتها، وفنادقها الصغيرة، وإقاماتها السياحية، ومطاعمها، وتلك المقاهي التي تبقى حتى مطلع الفجر. مدينة يأتي إليها السياح من جميع الأصقاع، ويتحول فيها المغاربة الزوار أيضا إلى سياح.

مدينة تستيقظ في منتصف النهار، وتنام في الصباحات، وعندما تتهاطل عليها قطرات الندى الصباحية تبتل أزقتها، ويصبح لها رائحة خاصة. هي خليط من روائح القهوة والثوم، والخبز والهلاليات (كرواسن) الساخنة التي خرجت لتوها من الفرن.

الصويرة هي البحر، والنورس، والسمك، والتاريخ، والموسيقى.. والصمت.