في لبنان.. صخب الموسيقى ومتعة التسوق ورفاهية المكان

بعد 67 يوما من السياحة المتوسطية

منطقة جبيل الساحلية التاريخية
TT

كنت في رحلة إلى دول البحر المتوسط استغرقت 67 يوما، حيث التقطت صورا لمناظر طبيعية جميلة وشواطئ ساحرة وآثار قديمة أكثر مما يمكن أن يلتقط أي شخص في فصل الصيف، وربما أكثر مما يمكن لأي شخص تحمله. أعلن رسميا - مع أن ذلك فقط بشكل مؤقت - أنني منهك.

لذلك، ففي لبنان، محطتي الأخيرة، قررت أن أتجاهل الجبال الخلابة والتحف المعمارية البديعة فيها، وأتجه لحضور مهرجاناتها الموسيقية الصيفية، وتفقد أسواقها الرائعة التي تنبض بالحياة. اتخذت قراري أيضا أن أبتعد عن المراتب المهلهلة بالفنادق الرخيصة وبيوت الشباب وأن أتجه للإقامة مع أسر.

حجزت إقامتين عبر «لوتيل ليبانيه»، موقع إنترنت يعرض أسماء نزل المبيت والإفطار بمختلف أنحاء لبنان، قاصرا اختياري على غرف «معينة»، تلك التي يبلغ سعرها 60 دولارا لليلة الواحدة لشخص واحد (و78 دولارا لشخصين). (ويقبل التعامل بالدولار في كل مكان في لبنان، مثلما يقبل التعامل بالجنيه اللبناني، بقيمة 1.500 للدولار). وكان كلا المنزلين يطل على الشاطئ الواقع في شمال بيروت، ذلك المكان الذي كانت تقام فيه الكثير من المهرجانات التي رأيت أنني يجب أن أحضرها. ونظرا لأن الطريق السريع المؤدي إلى الشاطئ كان مكتظا بالشاحنات والحافلات الرخيصة التي يمكنك أن تستقلها من أي مكان، وأن تنزل منها في أي مكان آخر، وجدت أنني لن أحتاج لسيارة.

كانت محطتي الأولى في بيبلوس أو جبيل، التي كانت مدينتها القديمة، الشهيرة بوجود قلعة صليبية تعود إلى القرن الثاني عشر، من أشهر وجهات الرحلات اليومية القادمة من بيروت. لكني كنت هناك لحضور مهرجان «بيبلوس» الدولي ودفعت (40 دولارا) قيمة تذكرة لمشاهدة الثنائي أمادو وماريام، الزوجين الماليين الكفيفين اللذين سحرا الدول الفرانكفونية بموسيقى البوب الأفريقية الممتعة التي يقدمانها.

كانت التذكرة تستحق سعرها، وكانت تمنح معها مجانا المنقوشة اللبنانية المغطاة بالزعتر والجبن، نظرا لأن الكشك الذي يقوم ببيعها كان يديره بسام متى، والذي كان هو نفسه مضيفي في المنزل اللبناني الذي توصلت إليه من الموقع الإلكتروني Hotel Libanais.

وعلى الرغم من أن المنقوشة كانت أكلة مميزة، فإن التجربة التي مررت بها في منزل متى لم تف بتوقعاتي. ففي خلال اليومين، استيقظت في منزل خاو على عروشه ولم يأت لي الإفطار الذي وعدت به (مع أنه قدمت لي اعتذارات). وفي اليوم الذي غادرت فيه، طلب مني بسام تناول الغداء، وشرح لي أنه كان منشغلا جدا بمشكلات في العمل.

تفهمت الأمر. لقد أمضى الناس أسابيع سيئة. لكن كان لا يزال من الممتع - والمفيد - البقاء في حي سكني على قمة مرتفعات أعلى المياه. وبدا أن منزل الأسرة الحجري الجميل من أنواع البيوت التي تخضع لتطوير يفتقر إلى التنظيم الجيد، والذي يحول منطقة الشاطئ اللبناني بأكملها إلى منطقة زحف عمراني هائل على نحو فوضوي. وفي المكان الذي يفترض أن يكون الفناء الخلفي لمنزل عائلة متى، كانت ترتفع عمارة سكنية إسمنتية. وكان الطريق المتعرج الذي اتخذته نحو سفح التل متجها إلى المدينة القديمة مزيجا مروعا من أراض زراعية ومواقع بناء ومتاجر راكدة، الأمر الذي لا يتبينه هؤلاء الذين أقاموا في المدينة القديمة النابضة بالحياة والمنمقة.

تناولت أيضا طعاما رخيصا، وهو أمر يعتبر صعبا جدا في المدينة القديمة. وشرق الطريق السريع، يوجد متجر أبو أندريه للفلافل، حيث تباع ساندويتشات الفلافل مع الكرنب المخلل والبقدونس والطماطم، والفلفل الأحمر حسب الاختيار، والذي يحقق مكاسب قيمتها 2.000 ليرة لبنانية. وإذا اشتريت مأكولات بمبلغ 500 جنيه، فستحصل على زجاجة مياه مجانا، وإذا أضفت البقلاوة إلى أي حلويات تشتريها من حلواني «داربوا»، ستحصل على وجبة بأقل من 4 دولارات.

وكان ثاني منزل حللت به في لبنان أكثر من مجرد عوض عن المنزل الأول. استضافتني أسرة أنجول، التي كانت تقيم في مجمع سكني من أربعة طوابق في أنفة، المدينة التي تبعد نحو 15 ميلا عن الشاطئ. وكانت الوحيدة التي تتحدث الإنجليزية هي ماري خوسيه، المهندسة المعمارية التي عرفتني بشكل منهجي بالمدن والمطاعم في المدينة ودعتني لحضور صلوات في «نوتردام دو غارديان»، الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية رائعة الجمال التي تعود إلى العصر البيزنطي، والمطلة على البحر خارج المدينة. وكانت الشخصية الرائعة مثلها هي جدتها الرقيقة التي لا تتحدث الإنجليزية والتي طرقت بابي حاملة طبق فاكهة في أحد الأيام؛ ووالدتها التي أعدت لي إفطارا سخيا وابنة اختها، بيترا، ذات العامين التي كانت تصلح لي خطئي بشكل متكرر، حينما تظاهرت بأنني أخلط بين ملصقات «سنووايت» وملصقات «سندريلا» التي تزين غرفتها.

كانت مدينة أنفة بديعة بالمثل، باشتمالها على بعض المنازل الحجرية القديمة وبعض البنايات الحديثة، إلى جانب بعض المنازل الحجرية القديمة التي تظهر عليها ملامح الحداثة. وكان الرجال المسنون يمكثون في الشوارع، يدردشون في أغلب الوقت، وفي بعض الأحيان يقومون بذبح ماعز. وكان الشاطئ الذي يتمثل في حقيقة الأمر في شبه جزيرة صخرية تصطف فوقها شاليهات مطلية باللونين الأزرق والأبيض (أكواخ شاطئية لها شرفات)، يمكن الوصول إليه بسرعة مرورا بالمقابر وكان به خليج صغير مثالي للسباحة.

وحينما غادرت، تمشيت قليلا على الشاطئ لإلقاء نظرة على الخليج الصغير، حيث خضت مغامرة المرور بقطيع من الماعز الذي بدا وكأنه قد استحوذ على أفضل جانب من الشاطئ. كانت هناك مشكلة واحدة وهي أن الماعز كانت تحرسها ثلاثة كلاب جربانة مظهرها يثير الاشمئزاز، والتي تجمعت كلها حولي وأخذت تنبه نباحا شديدا.

كان ذلك هو الحدث غير السار الذي مررت به في أنفة، لكن هذا الحدث وقع لي وأنا في طريقي إلى مطعم جورج ضياء الذي كانت قد رشحته لي ماريا خوسيه. وكان جورج يراقب الكوخ الذي بدا خاليا من أي زخارف والذي لم تكن تزينه سوى صورة زيتية لعروس البحر. واصطحبني ليريني حقيبة مملوءة بسمك الشبر الأحمر، وتناقشنا حول أي سمكة سيقوم بقليها ومقابل أي سعر. واستقررنا على سمكة معينة سيقوم بقليها مقابل 15 دولارا، على أن يشمل ذلك السعر الأطباق الجانبية المقدمة. ويا لها من صفقة، فقد تضمنت الأطباق الجانبية وعاء سلطة كبير وكمية كبيرة من البطاطس المقلية حسب الطلب ووعاء من الحمص الطازج المضاف إليه زيت الزيتون، وطبق مملوء بقطع من السمك يطلق عليه اسم السوشي، ولكنه كان حقيقة نوعا من أنواع طبق السكباج. وفي يوم آخر، زرت مدينة البترون، التي تقع في موقع متوسط بين مدينتي بيبلوس وأنفة، ويمكن الوصول إليها بسهولة من أي من المدينتين عن طريق استقلال حافلة بتذكرة قيمتها 2.000 جنيه، ويعتبر مهرجان «البترون» أقل جاذبية من مهرجان «بيبلوس». كان أبرز نجوم المهرجان عبارة عن نسخة مكررة من فريق موسيقى الريغي الصاخبة «يو بي 40» الذي اشتهر في ثمانينات القرن الماضي. وبعد يوم من زيارة الكنائس الرائعة بمدينة البترون، وتذوق عصير الحامض أو الليمونادة الذي تشتهر المدينة بتقديمه (حلو جدا) والتجول في المدينة القديمة الهادئة وتفقد سوقها القديمة، لم أغادر المكان في انتظار حضور حفل مجاني يقام في الهواء الطلق، ضمن فعاليات المهرجان.

كان ذلك حينما ظهرت السوق بطابع مفعم بالحيوية، حيث خصصت المقاهي والمطاعم المحلية أماكن مفتوحة في الهواء الطلق تابعة لها، وامتلأت المقاعد بأناس من كل شكل ولون بداية من شابة إكوادورية في السادسة عشرة من عمرها من أصل لبناني جاءت لزيارة أسرتها في لبنان، إلى زوجين في منتصف العمر وقفا للرقص على أنغام الموسيقى اللبنانية التقليدية التي يعزفها فريق مؤلف من ثلاثة رجال. كونت صداقات مع مقدم المشروبات والشابة الإكوادورية وأي شخص آخر يتحدث الإنجليزية، وبوصفي واحدا من السياح القلائل هناك، شعرت وكأني جاسوس في حفل سري.

حتى تلك اللحظة، كانت تجربتي في لبنان مرتبطة بالقطاع المسيحي الممتد من بيبلوس إلى أنفة، لذلك، استقللت سيارة أجرة جماعية سريعة مقابل 2.000 جنيه متجها إلى مدينة طرابلس، المدينة التي تعد مركزا للمسلمين السنة.

وبدا الاختلاف واضحا منذ الوهلة الأولى، حينما وصلت إلى ميدان النور، حيث كان هناك حشد كبير من الناس متجمعين في حلقة حول تمثال يجسد الأحرف العربية لكلمة الله. توجهت نحو الشوارع التي تعج بالحركة والنشاط الصاخب، التي كان بعضها يصطف به منازل تدمرت جراء الحرب بين إسرائيل وحزب الله في عام 2006. ولم تبد المدينة آمنة فحسب، وإنما بدت ذات طابع ودود بالصورة التي تبدو عليها كثير من المدن التي لا يفد إليها عدد كبير من السياح. فقد أوقفني البعض عدة مرات لسؤالي عما إذا كنت أرغب في معرفة الاتجاهات، وهو الأمر الذي كنت في حاجة إلى معرفته بالفعل، نظرا لأن معظم الإشارات كانت باللغة العربية دون وجود ترجمة إنجليزية أو فرنسية. (من بين الاستثناءات، في أحد الممرات الخاصة بعبور المشاة، كانت هناك إشارة توجهك «انتظر ظهور الإشارة الخضراء»، كما لو كانت ماكينة بيع من المريخ).

توقفت عند محل الحلويات الشهير الراقي «عبد الرحمن الحلاب»، لكن محور الجذب في المدينة تمثل في الأسواق وممرات الأزقة الضيقة بين المباني القديمة، تلك الممرات المكتظة ببائعي الذهب والأحذية والخضراوات ومصنع لصابون زيت الزيتون.

كان بإمكاني أن أستمر في التجول طوال اليوم. تحدثت إلى كل شخص قابلته يتحدث الإنجليزية وإلى كثيرين ممن لا يتحدثونها والتقطت صورا لأطفال وجعلتهم يلتقطون صورا لي بكاميراتي، حتى أنني شاركت في مناقشة قصيرة حذرة (لم أكن أنا من بدأها) عن سياسات الرئيس الأميركي أوباما مع إسرائيل مع صاحب متجر يدعى لؤي. فضلت مناقشة اختيار لؤي الفريد للجبن، ووجهني عبر الممر الضيق إلى متجر يبيع حلوى النمورة اللذيذة - كيك السميد المغطى بالعسل والمزين بحبات اللوز - يملكه رجل يدعى أبو أحمد، والذي بدا وكأنه قد احتل الزاوية الصغيرة نفسها منذ عقود؛ ونظرا لعدم قدرتي على المقاومة، قام بلف مجموعة حلويات كاملة لي لآخذها معي.

خرجت من السوق متجها إلى جزء مختلف تماما من المدينة. لم أتخط بنايتين في الشارع قبل أن تلوح لي امرأة عجوز محجبة تجلس عند مدخل منزل منهار؛ بدت وكأنها تسلط الضوء على المنزل كي ألتقط له صورا بالكاميرا. ودعتني السيدة، التي تبين أن اسمها وفاء، لشرب كوب من الشاي، وأخبرتني ابنتها آمنة، بينما كنا نحتسي الشاي، بأن أمها تعاني من مرض شديد في الكلى. تخيلت أنها اعتادت الجلوس لساعات طويلة يوميا أمام مدخل المنزل، وربما ابتهجت لرؤيتها غريبا قد أتى لالتقاط صور للمكان.

سعدت جدا بدعوتي للدخول. فبعد كل هذا الوقت الطويل من السير في الطريق، ربما تكون الشواطئ والحطام قد تركتني في حالة من الإنهاك الشديد، وقد لا تجذبني المناظر الطبيعية الساحرة بعد الآن لو ظللت على هذه الحالة.

ولكن هنا كنت أحتسي الشاي مع سيدة محجبة في منزل سني في شمال لبنان بعد 10 أسابيع فقط من أخذي حمام شمس، جنبا إلى جنب مع المستمتعين بقضاء عطلاتهم على الشاطئ الصخري للمحمية الطبيعية الإسبانية التي تبعد 2.000 ميل غربا. وبين الحين والآخر، كنت ألتقي مزارعي كرز إيطاليين وعمال مخابز كرواتيين وصيادي ألبان وخبراء فستق أتراكا.

بالنسبة لبعض المسافرين، ربما تبدو زيارة دول البحر الأبيض المتوسط متعلقة برمتها بالاستمتاع بالطبيعة الساحرة والتعرف على الخلفية التاريخية، أما بالنسبة لي، فهي متعلقة بالتعرف على الناس.

إذا ذهبت في حالة ذهابك إلى بيروت، سيكون المشي على طول الشاطئ اللبناني أمرا سهلا جدا. وتغادر الحافلات المكيفة محطة الحافلات بشكل منتظم، متجهة عبر الطريق السريع إلى مدينة طرابلس، التي تبعد بمسافة 55 ميلا؛ وبلغت تكلفة رحلتي إلى بيبلوس 4.000 جنيه. (وستكون تكلفتها أقل إذا استقللت إحدى العربات الأرخص). وهناك منتجعات على طول الشاطئ، تشتهر بين المغتربين اللبنانيين العائدين لقضاء فترة الصيف، ومن السهل العثور على الفنادق الفاخرة باهظة الثمن في أماكن مثل بيبلوس. لكن على الرغم من المشكلات في أحد المكانين اللذين جربتهما، إلا أنني ما زلت أرشح موقع «أوتيل ليبانيه»، فالقائمة الكاملة لمهرجانات 2011 وجدتها هنا؛ ارجع إلى قائمة الفندق في عام 2012.

* خدمة «نيويورك تايمز»