في لبنان..السياحة البيئية شبابية وكلها حيوية

المشي وركوب الدراجات الهوائية.. بدائل سياحية للتعرف إلى الجمال الأخضر

رياضات عديدة ونشاطات لا تحصى
TT

في لبنان توجد أماكن كثيرة يمكن للسياح الاستمتاع بها. فإلى جانب الآثار الموغلة في التاريخ، هناك المناطق الطبيعية التي تكون مقصدا للزائرين لروعتها. وتسعى مجموعات شبابية ومن المجتمع الأهلي في لبنان، وتلك التي تعنى بالسياحة والبيئة إلى الإضاءة على هذه الأماكن، وتنظيم رحلات على الدراجات الهوائية أو المشي على الأقدام للتعرف إليها ولالتقاط صور بين معالمها وبلداتها.

من هذه المجموعات مجموعة «درب الجبل» التي تنظم أنشطة للمشي في مناطق جبلية لبنانية. تندرج هذه الأنشطة ضمن إطار مشروع سياحي - بيئي تنظمه شركة «إيكوديت» على طول درب الجبل اللبناني وفي 4 رحلات طويلة، من شمال لبنان إلى جنوبه، أي من القبيات إلى مرجعيون. وتهدف هذه الرحلات، التي تشارك فيها مجموعات من سكان قرى الدرب، وممثلون عن شركات السياحة البيئية، وصحافيون، إلى التأكد من أن الدرب آمن وصالح للمشي بهدف تعريف الشركات المنظمة للرحلات على مختلف أقسام الدرب لإدراجها ضمن برامجها السياحية، وهذه الرحلات تستمر دوريا لتكرس مفهوم جديد لـ«السياحة البديلة».

يتألف «درب الجبل» في أغلبه من طرقات قديمة، كانت تستخدم في القرون الماضية. ويحاول المشروع إحياء هذه الدروب وتحديد مسارها وصيانتها على المدى البعيد لأهداف سياحية وبيئية. ولقد تم تأسيس «جمعية درب الجبل اللبناني» ومهمتها حماية الدرب وصيانته وتطويره، والحفاظ على إرثه الطبيعي والثقافي والمعالم البارزة المنتشرة على طوله، والعمل على تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة من خلال تشجيع السياحة البيئية على دروب لبنان.

المشروع عبارة عن درب للمشي يمتد على مسافة 440 كيلومترا تقريبا من القبيات شمالا إلى مرجعيون جنوبا، يمر في 75 بلدة وقرية تسمح للزائر باكتشاف الجمال الطبيعي لجبال لبنان، وتساعد في توحيد المجتمعات الريفية في لبنان وربط بعضها ببعض، كما تعزز وتحسّن الفرص الاقتصادية ومستوى المعيشة في القرى المنتشرة على طول الدرب. أما النشاطات التي حققها المشروع فهي على الشكل التالي: تأهيل 10 بيوت ضيافة (القمامين، والعاقورة، وتنورين، وبسكنتا، والمتين، والباروك، وبعذران، ونيحا، وراشيا، وحاصبيا)، وتنظيف وتأهيل ووضع علامات على 120 كيلومترا من الدروب في لبنان، وتأهيل ساحتين (المتين وحصرون)، وتأهيل موقع للتخييم (عين دارة) واستراحة picnic (جباع الشوف)، بالإضافة إلى تدريب 60 مرشدا محليا على طول الدرب.

تتحدث سالي مهنا، وهي مختصة في السياحة البيئية، عن بعض محميات لبنان التي يزورها السياح في جولاتهم وتعمل بعض الجمعيات على تشجيع زيارتها. من هذه المحميات محمية أرز الشوف، قائلة إن «محمية أرز الشوف الطبيعية والقرى المحيطة بها تشكل نحو 5 في المائة من مساحة لبنان، وتتميز بكونها تحتوي على 25 في المائة من غابات الأرز المتبقية في لبنان، وممر مهم للطيور المهاجرة وأول محمية ذات مدى حيوي مصنفة من قبل اليونيسكو في لبنان. وتستقبل المحمية سنويا نحو 25 ألف زائر. نحو 40 في المائة منهم أجانب يأتون من الدول الأوروبية والأميركية وكذلك العربية، و60 في المائة منهم لبنانيون، تلاميذ مدارس وطلاب جامعات ومؤسسات وعائلات وأفراد وغيرها».

وتؤكد مهنا أن «برنامج السياحة البيئية في المحمية بدأ منذ عام 1998 حتى أصبحت المحمية والمنطقة المحيطة بها في السنتين الأخيرتين مقصدا للزوار، إذ إنها تحتوي على 100 كيلومتر من الدروب، و5 بيوت للضيافة، وبيت شباب، وموقع تخييم، واستراحة (picnic area) وغيرها».

أما عائدات السياحة البيئية، فتشير مهنا إلى أنها تتوزع على المحمية، والمرشدين المحليين، وأصحاب بيوت الضيافة، وأصحاب المطاعم، والسيدات اللاتي يصنعن المنتجات والمأكولات التقليدية وغيرها.

بينما تؤكد المسؤولة في شركة «إيكوديت»، ميشيل بشير، أن «درب الجبل اللبناني هو درب وطني يشجع السياحة البيئية والريفية البديلة ويعزز الفرص الاقتصادية في المناطق الريفية، وهو يتيح أيضا توطيد صلة اللبنانيين مع أرضهم وتاريخهم ويدفعهم للحفاظ على إرثهم الطبيعي والثقافي، ويمنحهم فرصة اكتشاف جمال لبنان الطبيعي».

من جهة أخرى، تقوم جمعية «بلدتي» بتنظيم رحلات بيئية. وبلدتي هي جمعية وطنية وإنمائية وبيئية غايتها إيجاد حلول بسيطة وعملية لإحياء القرى اللبنانية من خلال لم شمل مجتمعاتها، ودعم مؤسساتها وتنشيط الحوار بينها وبين كافة أعضائها. ويؤكد شاكر نون، رئيس الجمعية، أن «الجمعية تسعى إلى دعم البيئة وسياحتها لأنها جزء من بقاء لبنان، ويمكن أن تستثمر من أجل اقتصاده». ويضيف نون أن «لبنان يقدم الفرصة للسائح كي يقوم بنشاطات مختلفة في الطبيعة، وذلك بسبب تنوع جغرافيته وطبيعته ومناخه، الأمر الذي يسمح بممارسة أنواع متنوعة من رياضة الهواء الطلق في مناطق ومواسم مختلفة. وتشكل الجبال، الغابات النفضية ودائمة الخضرة، والشطآن، والأنهار الموسمية والدائمة، والكهوف، والوديان، والممرات الجبلية، وأبرز التضاريس اللبنانية، كذلك تضم البلاد تنوعا في الحياة البرية، وبشكل خاص الطيور منها. وقد أخذ لبنان في السنوات الأخيرة يصبح مقصدا لعشاق الطبيعة الراغبين في الاستكشاف والتخييم ومراقبة الطيور وممارسة أشكال أخرى من السياحة البيئية».

وأشار نون إلى أن ركوب الدراجة الرباعية (ATV) من أبرز الرياضات البيئية والسياحية في لبنان. إلى جانب «الترميث»، وهي رياضة حديثة نسبيا في لبنان، يمارسها محبوها في أنهار العاص، والليطان، والأولي. وأوضح أن: «المشي في الغابات واستكشافها رياضة مشهورة، وهناك عدد من المواقع المفضلة التي يقصدها محبوها، مثل محمية أرز الشوف، والرملية، وغابة القموعة، ومحمية حرش إهدن، ونهر إبراهيم.. بالإضافة إلى استكشاف المغارات، ومن الكهوف المشهورة التي يقصدها الناس: مغارة أفقا، وكهف الرويس، وعين اللبنة».

وأكد نون أن من الرياضات أيضا: الاستكشاف بواسطة الدراجة النارية، وتسلق الجبال بواسطة الحفر والسلالم (بالإيطالية: Via Ferrata)، والهبوط من قمم الجبال، وركوب الخيل، والتزلج باللوح المفرد، وركوب الدراجات الجبلية، وتسلق الجبال.

في المقابل يبدو أن التنوع وجمال الطبيعة اللذين يشكلان جزءا من حياة زغرتا وإهدن الجبليتين في شمال لبنان، قد استثمرا من قبل «جمعية الميدان». فحيث تمتد المحميات الطبيعية والمحميات السياحية والتجمعات الحرشية من أرز، وصنوبر، ولزّاب، وشربين، عمدت الجمعية إلى تحويل الرحلات الفردية إلى متعة جماعية تشجع على حماية البيئة وتعمل على دعم السياحة البيئة.

في المقابل، لا تمل مجموعة «كزدورة» الطرابلسية من التحضيرات الدائمة كل أسبوع لاستقبال عشرات الشباب والصبايا من مناطق لبنانية مختلفة وبلدان عربية مجاورة إلى مدينتهم طرابلس. فهم أصبحوا «خلية نحل» فاعلة. يستقطبون عبر «الفيس بوك» مئات الأشخاص، الذين يتوقون لزيارة المدينة، والمشي بين أزقتها وممارسة هواية ركوب الدراجات الهوائية بالقرب من كورنيش البحر بها وتناول الحلويات الطرابلسية والتمتع بزيارة الجزر البحرية.

هم لا يريدون أن تبقى مدينتهم خارج زمانها، مغلفة بأحكام مسبقة تسوقها بعض وسائل الإعلام عنها، مستخدمة تقنياتها في نقل وجه واحد لها، رغم ما تعيشه من تناقضات كثيرة. يختارون لمدينتهم وجها «سياحيا» بعد أن فقدت خصوصيتها وتميزها في هذا المجال، وانتزعت من الخريطة السياحية المحلية انتزاعا «قبيحا». ومن خلال مشروعهم الذي انطلق منذ أشهر صار عملهم أكثر تنظيما ومبادرتهم تحولت إلى «شبكة شبابية» تفعل حضورها من أجل إنماء طرابلس.

يفتخرون بأنهم «مجموعة طرابلسية» جاءت لتثبت أن مدينتهم مدينة «تفاعل» ولها تاريخها «الجميل» الذي يستحق التعرف إليه من قريب. يتواصلون بشكل دائم ليجذبوا زوارا جددا إلى أحياء وأزقة مدينتهم القديمة، وليعبروا بهم عبر «زواريبها» الضيقة، ويكتشفوا معهم مبانيها، التي تعود إلى عصور المماليك وبعضها مرتبط بزمن «كوليانيلي» زاخر بفنون العمارة الفرنسية والإيطالية.

في كل يوم أحد من كل أسبوع تكون طرابلس على موعد ثابت لتغمر بين شوارعها الجديدة وزوايا أسواقها زوارا يتعرفون إليها بشكل مختلف. فهي تكون مستعدة لهم بكل جمالها وبساطتها لتحتضنهم لساعات في أماكنها الحميمة. تبعدهم في غمرة اكتشافها عن مناطقهم، فيسحرون بها.

أشياء كثيرة تلفتهم هناك. ليست فقط الآثار هي ما تجذبهم، بل تغلغلهم في حياة الناس البسطاء هو أكثر ما يأسرهم، فتبقى وجوه الناس بكل طيبتها وابتساماتها حاضرة في ذاكرتهم.

جمال ورفاقه جاءوا من بعبدا لزيارة طرابلس. تعرفوا إلى المنظمين في مجموعة «كزدورة» وقرروا أن يأتوا إلى الفيحاء لقضاء إجازتهم الأسبوعية. وصلوا صباحا إلى «ساحة النور» حيث التقوا بالمشاركين من مناطق مختلفة، ثم انتقلوا جميعا إلى محل «رفعت الحلاب» فتناولوا كعكات بالكنافة ساخنة، وتوجهوا من بعدها إلى «صح صح» في منطقة «الضم والفرز» واحتسوا قهوتهم. هناك بدأ تقسيم المشاركين إلى فرق تسلم كل واحد منهم دراجته وانطلقوا في جولتهم.

الزوار الذين يأتون من مناطق لبنانية مختلفة وبلدان عربية مجاورة رغم الثورات التي تجتاح بلدانهم، يدهشون بمشاهد الحياة اليومية في طرابلس. تبهرهم الأسواق القديمة بضجيجها الدائم وصخب بائعيها وتجارها الذين ينادون بأصوات عالية على بضائعهم حيث اختفت هذه العادة في كثير من الأسواق في مدن عربية ولبنانية عدة. يمرون في أزقة «باب الرمل» ويتعرفون إلى أفران الخبز الحجرية، التي لا تزال تستخدم الحطب في صناعة أرغفة طازجة يتناولونها في مطاعم صغيرة مع أطباق الفول والحمص الساخنة.. فلا يمكن لأي زائر إلى طرابلس أن لا تشده رائحة الفول المدمس ورائحة الكعك الطرابلسي، حيث يحلو للبعض تناولها مع فناجين شاي «اكرك عجم» كما ينادي أحدهم ليجذب الزوار إلى مقهاه.

يتمشون جماعات بين محلات «خان الخياطين» ويشترون ألبسة تراثية من الشروال والكوفية إلى الطربوش، ويلتقطون صورا فوتوغرافية ليؤكدوا أنهم سيضعونها «بروفايلهم» الشخصي على «الفيس بوك». يضحكون ويمرحون ولا يصدقون أن «طرابلس مدينة السلفيين والإرهابيين والمجموعات المتطرفة وخلايا (القاعدة) النائمة». كل هذه الأحكام المسبقة تتبدد حين يندمجون مع جو طرابلس ورائحة أزقتها الحميمة. يتعرفون إلى خصوصية لا تنقلها عدسات كاميرا بعض المحطات التلفزيونية التي يروق لها تسويق المدينة على أنها قلعة «المجموعات الإسلامية».

المشروع بدأ من خلال مبادرة بسيطة تقوم على جولات رياضية بالدراجات الهوائية داخل حارات طرابلس والميناء العتيق، ولم تلبث أن تطورت الفكرة لتتبناها جمعية «العزم والسعادة الاجتماعية» عبر مجموعة «عزم غروب» التي صارت هي الجهة الممولة والداعمة للمشروع بالتعاون مع مؤسسات تجارية وخدماتية من مصارف ومطاعم ومقاهي طرابلسية.

أحمد الخطيب أحد المنظمين لهذه المبادرة يؤكد أن «المشروع هو سياحي بالدرجة الأولى. هدفه تسليط الضوء على المدينة بشكل مغاير لما هو سائد عبر جولات دائمة تتكرر كل عطلة نهاية الأسبوع، مع مجموعات مختلفة ومنوعة من مدن وقرى لبنانية لا يعرفون عن طرابلس سوى القليل». تقوم المجموعة المنظمة بتوفير جولات سياحية لهم، يرافقهم بها أدلاء سياحيون متخصصون. يركبون الدراجات ويعبرون في شارع المعرض حيث يوجد معرض رشيد كرامي الدولي. من المعرض إلى كورنيش الميناء، يستنشقون هواء البحر بشغف. ومن ثم يخرجون عبر المراكب البحرية ليصلوا إلى «الزير» (أو الجزر) كما يقول أهالي الميناء بلغتهم المحلية. في الجزر الصغيرة يشعرون أنهم في ميامي أو الكاريبي، لجمالها وروعة مشاهدها.

يتناولون غداءهم ومن بعده يعودون إلى مناطقهم حاملين في نفوسهم تجارب جديدة وصورة مختلفة عن مدينة لبنانية تعيش الحياة. يقول رامز (23 سنة) إنه أحب طرابلس أكثر من أي مدينة لبنانية بعد أن جال مع شباب «كزدورة» في «زواريبها» الصغيرة وتمتع برؤية بساطتها من قرب. يقول: «أحببت أهلها الطيبين الذين يندفعون إلى الترحيب بكل زائر وكأنه ضيفهم الخاص». أما رفيقته ماري قزحيا (30 سنة)، فتؤكد أن «جمال طرابلس هو في روعة أماكنها ودفء أسواقها». وأردفت: «أن تعرف كيف تحب طرابلس هو أن تعرف كيف تزورها».